انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 277/في سبيل الإصلاح

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 277/في سبيل الإصلاح

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 10 - 1938



المشكلة الكبرى في حياتنا الاجتماعية

للأستاذ علي الطنطاوي

(أعد الأستاذ هذا البحث ليحاضر به الناس في ناد من أندية دمشق الأدبية، ولكن مرض الكاتب ولبثه أربعين يوماً في المستشفى، ثم اضطراره إلى السفر العاجل ليتسلم عمله في مدرسة بعقوبة (العراق) حال دون إلقائه).

صورة المشكلة

آلاف مؤلفة من الشبان يبتون مسهدين ينتظرون أزواجهم اللائى خلقهن الّله لهم. وآلاف مؤلفة من الشابات يبتن الليل مؤرقات ينتظرن أزواجهن الذين يراهم الله لهن والذراري تطل من شرفة الغيب ترقب تعارف أبويها، لتأخذ بأذن الله، طريقها إلى عالم الوجود، فيكون منها عباد الله صالحون، وجنود للوطن مخلصون، وأنصار للحق ثابتون.

ثم إذا قدر الله وكان زواج، كان الزواج (أكثر ما يكون) همَّا ونكداً، وخلافاً مستمراً، وآض البيت من بعده جحيماً محرقاً، وسجناً مظلماً، ونشأ الأولاد على غير تهذيب، ومن غير دين ولا أخلاق. . . هذه هي صورة المشكلة: انتظار أليم يسلم إلى الجنون أو إلى الفسوق أو إلى اليأس، ونقص في الأولاد، وضعف في الأمة، وخراب للبيوت، وضياع للأسر، وفقد للسعادة. . .

سبيل العلاج

هذه هي صورة المشكلة، فما هي أسبابها؟ وما نتائجها؟ وما علاجها؟ بل وما نفع الكتابة فيها؟

لقد كُتب فيها وكُتب (حتى لو أن محصياً أحصى المكتوب فيها لجاء معه كتاب ضخم) فلم يُغن المكتوب شيئاً، ذلك أن المشكلة تحتاج إلى حل عملي يقوم به الآباء، لا إلى نظريات وفلسفات يدلي بها الكاتب والأدباء، من اجل ذلك نحوت في هذا البحث نحو العمل فلم أتعمق ولم أتفلسف! ومن اجل ذلك ضربت من الواقع أمثلة، وأخذت من الحياة شواهد وصوراً. . . على أنها لا تغنى المباحث، ولا تجدي الشواهد ولا الصور، ولا المقترحات ولا الآراء، ما لم يحققها عقلاء الآباء، أو من لهم في الأمة أمر أو نهي، ومن أرباب الحكم وأصحاب السلطان!

موانع الزواج

لو سئلت أكثر العزاب من الشبان: (ما منعكم من الزواج؟) لكان جواب الأكثرين إن لم أقل جوابهم أجمعين: (المهر، وما يتصل بالمهر من تكاليف وبلايا)، ولست اذهب بالقارئ إلى بعيد، بل أضرب له المثل من نفسي. . .

أنا أريد الزواج، وأنا امرؤ في رأسه أشياء وليس في كيسه شيء. . . أما الذي في رأسي، فقد أفنيت في تحصيله شبابي، وبيضت في طلبه ليالي وسوّدت نُهُرى، وخدعني عن حقيقته معلمي فحسبته أثمن شيء في الوجود، وصدقت أن العلم خير من المال. . . فرأيت من بعد أن المال خير من كل شيء. . . وأما كيسي فما فيه وفر، ولكن فيه مرتباً يكفيني ويكفي بحمد الله أربع زوجات معي، لو أن الزوجة بقيت إلى اليوم شريكة الحياة وربة البيت، وتطلب حياة هنيئة وزوجاً صالحاً، بيد أن هذا كله قد ذهب. . . وصارت الزوجة (يا أسفي!) متاعاً يشرى، ولابد للمتاع من ثمن، فإذا أخذ الأب الثمن لم يبال بعده شيئاً، ومتى كان يبالي التاجر إذا استوفى الثمن بأخلاق الشاري أو سيرته في أهله؟ وثمن الزوجة (أقل ما يكون) خمسون أو مائة (ليرة) ذهبية، فتصور يا صديقي القارئ متى تجتمع لرجل مثلي مكساب متلاف لا يستطيع أن يمسك شيئاً، أو لا يفضل عن نفقته شيء؟ وليست هذه المصيبة كلها. إن بعدها نفقات العقد (الكتاب) وقبل العقد خاتم الخطبة، وما يكون إلا من الذهب، و (الشبكة) وما يصلح لها إلا حلية لها قيمة. . . وبعد العقد الهدايا والّلُطف بحملها إلى دار (الزوجة العتيدة) كلما زارها، ولابد له من أن يزورها؛ ثم تأتي بلايا العرس، وما أدراك ما بلايا العرس: كسوة أهله وأقربائه ممن تجب عليه نفقتهم (وكسوة النساء أقبح التبذير، لأنهن يشرين قماشاً لا يدفئ ولا يستر، ويدفعن ثمنه غالياً، ثم إذا مرت شهور بطل طرازه (مودته) فأصبح لا يصلح لشيء. . . وبعد الكسوة نفقات حفلة الزفاف. ثم إذا دخل على زوجته، وانفرد بها، لا تكلمه حتى يدفع إليها (ثمن شعرها) وهي جملة من المال ولا تقل عن (بعض ليرات ذهبية) ولا حد لزيادتها، وما أدري والله كيف تنزل الفتاة للحلاق عن شعرها يقصه ويلقيه على الأرض، ثم تطلب (ثمنه) من زوجها؟ ثم إذا أصبح أعطاها (وجوباً) عطية أكبر من (ثمن الشعر) هي (الصّبْحة) فإذا زال النهار أهدى إليها هدية، لابدّ أن يكون فيها إزار للحمام ثمين وقد يكون منسوجاً بخيوط الفضة، ومناديل (مناشف) الخ. . . ثم تأتي نفقات (السبعة الأيام) يقيم فيها الأقارب والأهلون في داره، تولم لهم كل يوم الولائم، وُيطرفون بأنواع الطرف، فإذا انتهت دعوا جميعاً إلى الحمام، وقد قلّ ذلك في هذه الأيام منذ كثرت الحمامات في الدور، وأهملت الحمامات العامة أو كادت، ثم يدعو أهلها (أي أهل الزوجة) جميعاً وأهله إلى وليمة كبيرة تسمى (التعريفة) يعرَّف فيها بعضهم ببعض - وقد يبلغ المدعون إليها المئات في بعض الأسر الكبيرة. . .

فأنى لمثلى الطاقة على هذه المصروفات التي تخرب بيوت الأغنياء؟ وإني لأعرف قاضياً شرعياً زوج ابنه، فتكاثرت عليه النفقات، فلم يقدر عليها حتى باع بيته - لينفق ثمنه في ليالي العرس! هذا أول موانع الزواج وأظهرها. . .

الحجاب

وهب أني قد وقعت على كنز، أو أصبحت إرثاً فأصبحت غنياً توفر لي ما أبتغي من المال فكيف أختار زوجتي؟ أما الحاسرات المتبرجات اللائى يعرف الرجال كلهن: صدورهن ونحورهن وأيديهن وسوقهنَّ، فأنا (بحمد الله) أعقل من أن أتخذ منهن زوجة، ولو كانت ابنة ماء السماء، وأعلم العلماء، وما أحسب ذا دين ومروءة، يرضى أن يتزوج بمن رضيت لنفسها إهمال الدين، وإسقاط المروءة، بتعرّضها في زينتها وفتنتها للرجال، تستهويهم وتأخذ بأيديهم إلى النار. . . بقى علىَّ المتحجبة من بنات الأسر، وهي التي لا سبيل إلى رؤيتها إلا ليلة الزفاف، وبعد أن يكون الغلَّ قد استدار حول عنقي، والقيد قد أحكم أقفاله على يدي ورجلي، ولم يبقى لي إلا أن أقبل بها ولو كانت لها وجه قرد وأخلاق شيطان!

أفهذا من المعقول؟

يريد المرء سفراً، فيتحرى عن أخلاق رفيقه أياماً، ليعلم أيوافقه أم يخالفه؛ ويبتغي أجيراً فيراه ويبحث عن أصله وفصله، ويجرَّبه أياماً؛ ويعزم على أن يتزوج، فلا يرى رفيقة حياته ومهوى قلبه، وموضوع حبه، إلا بعد أن يتم كل شيء؟

مع أن الشرع أباح له أن يراها ويجالسها. . . ومع أنها تخرج إلى السوق فيراها (على خلاف الشرع) البائع ومن كان عنده، ويقدم إليها القهوة ويحادثها، ويراها عمال السينما، ويراها ويراها، فما الذي حاق بالآباء حتى هان عليهم كل محرّم، وصعب عليهم ما أحلَّ الله؟

هذا هو المانع الثاني من موانع الزواج، بل إن هذا الوضع هو الذي سبب ما نرى من تبرج النساء وحسورهن، وعريهن على السواحل. . . ولا علاج له إلا بحجاب شامل (وذلك ما لا يستطاع) أو بسفور شرعي، كالذي سماه صديقي الأستاذ عز الدين التنوخي بسفور الراهبات، وذكر أن الحشويين الجامدين، يقابلون من يدعو إليه بالسباب والشتائم، وذلك هو الواقع، فإن هؤلاء قائمون بالمرصاد لكل من يعرض رأيا في إصلاح حال المرأة الذي كاد يصل إلى حد العرى المطلق بل لقد بلغه فعلاً. .

ولكنهم لا يأنون بأي رأي من عند أنفسهم، ولا يهتمون بما يرون، فهم هادمون ولا يبنون، وهم مفسدون لعمل كل مصلح ولا يصلحون. . . ولله الحمد على أن ضعفت مُنَّتهم، وخفتت أصواتهم، وبادت جماعتهم، ونسأل الله أن يبدلنا بهم علماء يفهمون روح الإسلام ويعرفون حقائقه، ويفهمون روح العصر ويعرفون حاجات أهله

الخلاف العائلي

فإذا يسر الله لامرئ سبيل الزواج، وأنجاه من هذه الموانع، عرضت له مشاكل، ورأى من المتاعب ما يندم معه على ما أتى، ولو ذهبت تتقصى أحوال المتزوجين ودخائلهم في بيوتهم لوجدت أكثرهم متألماً شقياً، ولهذا الألم أسباب يمكن تلافيها لو فكر فيها الزوج، وعزم على التلافي.

أول أسباب الخلاف

أعرف أخوين: أما أحدهما فشيخ محافظ توفى رحمه الله من سنين طويلة، أما الثاني فأديب موسيقي على الطراز الجديد. تزوج الأول، ولبث مع زوجه ستة عشر عاماً حتى توفي عنها ولم يكلمها على مسمع أهله كلمة، وإنما كان يوجه الكلام إلى أخته سائل حاجته، أو يأمر أخته أن تقول لها ما يريد، وألفت ذلك منه ورضيت به أو صبرت عليه. وكانت تخشاه كخشيتها لله أو هي أشر خشية. . وأما الثاني. . لا. بل إن أكثر من عرفنا من الأزواج (المجددين) تتحكم بهم نساؤهم، فيأمرونهم وينهينهم، ويشتمنهم و. . ويضربنهم! وهم يخافونهن ولا يجرءون عليهن. .

أي أن الأزواج بين رجلين، رجل أعمل سلطته، وأسقط عاطفته فكان في بيته سيداً، ولكنه لم يذق طعم الحب، ولا عرف السعادة الزوجية، ورجل تبع عاطفته فأرضاها، وأهمل سلطته فأضاعها، فعاش في داره عبداً. .، وتفصيل ذلك أن الزوج هو الذي يحكم على نفسه، ويختار طريقه. فإذا دلل زوجه في الأيام الأولى، ومثل لها (دور العاشق في الروايات الخيالية، ومنحها قياده، وأراها أنها حياته، وأنها الآمرة الناهية عليه، وتذلل لها وخضع، (ولذة الحب في التذلل والخضوع) ألفت ذلك منه، تعوده. . فإذا طارت من رأسه سكرة الحب، وأحب أن يحكم في الدار، كما يحكم رب الدار، وجد الأمر قد أفلت من يده، فيبدأ الخلاف، ثم لا ينتهي أبداً. وإذا هو ضبط نفسه في الأيام الأولى، ولم يعط إلا بمقدار واستعمل عقله وسلطانه، ألفت منه الزوجة ذلك، فوجدت كل عطف منه بعد ذلك غماً كبيراً. .

فالزوج العاقل الحازم من لم تلهه حلاوة العسل التي تدوم له شهراً، عن مرارة العلقم التي ستبقى دهراً طويلاً. ومن لم تشغله اللذة الجسمية العاجلة، عن السعادة الزوجية الآجلة، فلينتبه لهذا الأزواج، فمن هنا منشأ الخطر. .

حقوق الزوجين

ومن أسباب النكد البيتي، والشقاء الدائم، الخلاف على حقوق كل واحد من الزوجين، فمن الرجال من يأخذ أكثر من حقه، ومن النساء من تقيم نفسها مقام الرجل، تفرض عليه سلطانها، حتى إن الرعناء لتسأله: أين كنت؟ ومن كلمت؟ بل إن من النساء الحمقاوات المتحذلقات ممن يحسبن أنهن متعلمات، من تحاسب زوجها على زيارته أهله، وصلته رحمه، وتغار عليه إذا كلم عمته أو زارها. . حتى أصبح الأمر فوضى لا نظام له وظلمة لا نور فيها: مع أن الشرع الإسلامي (الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة، إلا بين وجه الحق فيها) قد حدد حقوق الزوجين، فجعل من حقوق الزوج على زوجته أن تطيعه فيما لا معصية فيه، وأن تصون عفافها، وألا تخرج إلا بأذن منه أو لضرورة، وأن تحرص على إدخال السرور عليه، وألا تكلفه ما لا يطيق ولا تطالبه بالزائد من حاجة نفسها، وأن تبذل جهدها في أداء واجباتها الدينية، وأن تعطيه زمام الرياسة المنزلية. ومن حقها عليه أداء مهرها كاملاً إليها - الاتفاق عليها بالمعروف - أن يجتهد في تعليمها واجبائها الدينية - أن يكتم سرها ولا يتحدث به - حسن خلقه معها - احتمال بعض الأذى منها - ممازحتها ومداعبتها - أي أن للرجل على الجملة رياسة المنزل (حين لم يكن بد لكل شركة أو جماعة من رئيس) وله السيادة فيه، وحفظ كرامته، وإدارة شؤونه الخارجية والأشراف على أموره كلها، وله الحكم في كسوة المرأة وخروجها، وله تأديبها بالعدل، ومن غير أن يخرج على ما أحل الله وذكر في كتابه، وللمرأة حق التصرف بأموالها، وإدارة شئون المنزل الداخلية، والنفقة عليها وضمان حاجاتها اللازمة؛ ولها عليه أن يحرص على سعادتها وسرورها، ويعاملها بالخلق الحسن، والقول اللين، ويتغاضى عن خطيئاتها ما أمكن التغاضي، ويعلم أنها شريكة حياته، وأدنى الناس إليه فلا يستأثر دونها بطعام أو شراب، ولا يدعها في المنزل وحيدة متألمة، ويسهر في المقاهي والملاهى، ولا يقدم نفسه عليها في كسوة أو متعة من متع العيش.

المشاكلة بين الزوجين

وإن من أظهر الخلاف بين الزوجين، ألا يكون بينهما مشاكلة ومماثلة، كأن يكون فقيراً وتكون هي غنية، فتعيره بفقره، وتترفع عليه بمالها، أو أن يكون من رجال الأعمال، وتكون متعلمة، على أن المتعلمة العالمة حقاً لا ينتظر منها إلا كل خير، ولكن البلاء في هؤلاء اللائى يحسبن أنفسهن متعلمات، لأنهن كن قبل الزواج معلمات في مدرسة أو مديرات، وإن كن لا يفتحن في السنة كتاباً، ولا يفهمن شيئاً، ولا يعرفن إلا تنكيد حياة الزوج، وإضاعة ماله في الولائم والاستقبالات، والكسوة والزينة، هؤلاء هن البلاء الأزرق، وخير منهن الأمية الجاهلة.

ومن أشنع أشكال الاختلاف بين الزوجين، حال من يتزوجون بالأجنبيات، فيرون منهن (على الغالب) ما يتمنون معه الموت الأحمر. وإني لأعرف من الناس رجلاً درس في فرنسا وجاء معه بفتاة زعم أنها من أكرم الأسر الفرنسية وأعرقها، وتزوج بها، فكان من أيسر ما تصنع أنها تذهب إلى السينما فترى الضباط الفرنسيين فتحن إليهم بصلة الدم، فتكلمهم وتصادقهم ثم تدعوهم إلى دارها فلا يروع صاحبنا إلا الضباط قد ملئوا بيته ثم انتهى أمرها بالفرار مع واحد منهم!

ومن العجب أن دماغين كبيرين تواردت خواطرهما على مسألة وأحدة، وبينهما الدهرالأطول، وبينهما ما بين المشرق والمغرب فوقعا فيها على الصواب الذي نعرفه ولا نريد أن نتبعه: ولما كانت القادسية، ولم يجد الناس نساء مسلمات، تزوجوا نساء أهل الكتاب، فلما كثر المسلمات بعث عمر بن الخطاب إلى حذيفة بن اليمان بعد ما ولاه المدائن: (بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل المدائن من أهل الكتاب فطلقها) فكتب إليه: (لا أفعل حتى تخبرني أحلال أم حرام، وما أردت بذلك؟) فكتب إليه عمر: (لا، بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خلابة، وإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم) فقال حذيفة: الآن! وطلقها.

هذا حكم الرجال العظيم، عمر، وقد حكم به في المدينة منذ ألف وثلاثمائة سنة. وأما الثاني فحكم الرجل العظيم موسوليني، حكم به المؤتمر الفاشي في روما، في هذا الأسبوع، حين كان من مقرراته منع الإيطاليين من الزواج بالأجنبيات فمن لم يعظه قول عمر، فليعظه حكم موسوليني!

(البقية في العدد القادم)

دمشق

علي الطنطاوي