انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 277/العامية والفصحى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 277/العامية والفصحى

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 10 - 1938


للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

أنا متهم بعدائي للغة العامية، وياما أكثر من في الحبس من مظلومين - كما يقول عامتنا في أمثالهم - ولست أريد الآن أن أدافع عن نفسي وأبرئها من شيء، فان لي الحق في المعاداة والمصافاة كغيري من الناس تبعاً لرائي وهواي، ولكنما أريد الآن أن أضع أموراً في مواضعها على قدر ما يتيسر لي ذلك.

الأمر في اللغة العامية أن نطاق الأداء بها محدود. وهي في هذا النطاق وافية بالحاجة وكافية جداً للأغراض التي تطلب بها ولكنها تخذلك إذا أردت أن تتجاوز هذا النطاق. أي أنها تصلح للحديث العادي والحوار في المسائل اليومية، وللعبارة بها عن الأَغراض المألوفة بين الناس عامة، فإذا أردت أن ترتقي بها عن هذه الطبقة وأن تتناول بها حديث العلم أو الأدب أو الفلسفة أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى قصرت بك وعجزت عن الوفاء بهذه المطالب فتحتاج إلى لغة أخرى تستطيع أن تواتيك وتساعفك - لغة أخرى تكون أوفى وأزخر وأوفر مادة وأكثر عناصر، ولا لغة هناك لنا غير اللغة العربية الفصحى التي لا تعد العامية إلا لهجة مشتقة منها. وهذا شأن كل لغة عامية في الدنيا. وكل عامية تعجز عن أداء ما هو أكثر من المطالب العادية. وحدود كل لغة عامية هي حدود العامة أنفسهم، ونطاقها هو نطاقهم، فإذا احتجت إلى ما يجاوز نطاق العامة ويرتفع عن طبقتهم فانه لا يسعك إلا أن تلجأ إلى لغة أوسع من لغتهم وأغنى وأقدر. قد يقال ولكن في الدنيا عاميات ارتقت إلى مصاف اللغات الفصيحة كالإيطالية واليونانية الحديثتين. وهذا صحيح غير منكور. وفي وسع كل عامية أن تصبح هي لغة الكتابة والأدب والعلم والفلسفة وما إلى ذلك إذا وسعتها وضبطتها وأجريت الأمر فيها مجرى اللغات الصحيحة ذات الأحكام والضوابط، وأنجيتها من الفوضى التي تلازم العاميات في العادة. وهذا هو الذي حدث في اللغة الإيطالية الحديثة واللغة اليونانية الحديثة اللتين حلتا محل اللاتينية والإغريقية القديمتين. ومؤدي هذا أن العامية عندنا في صورها الحالية لا تصلح للأداء ولا لأن تتخذ لغة كتابة وأدب وعلم وفلسفة وغير ذلك لأنها فوضى وتحتاج إلى ضبط وإصلاح وتوسيع وإغناء. وقد قلت (في صورها الحالية) ولم أقل (في صورتها الحالية) وأنا أعني ما أقول، فان عامية مصر غير عامية الحجاز أو العراق أو الشام أو تونس والمغرب على العموم أو السودان، ولكل بلد من هذه البلدان عاميته الخاصة، بل نحن في مصر لنا أكثر من عامية واحدة، فعامية القاهرة غير عامية الصعيد وغير عامية الإسكندرية أو الأقاليم الشمالية، فأي هذه العاميات كلها تريد أن تكون لغتك؟ ولكل منها خصائصها وعناصرها التي اقتضت طبيعة الحياة الخاصة بها أن تتألف منها. فعامية مصر أو عاميات مصر - فأنها كثر - فيها عناصر من العربية والفرعونية وعناصر من اللغات الأوربية بحكم موقع البلاد الجغرافي، وعامية العراق فيها عناصر من العربية والتركية والفارسية والهندية وغير ذلك، وهكذا

والعامية لا ثبات لها ولا استقرار. والملاحظ - والطبيعي أيضاً - أنها ترقى مع انتشار التعليم وتقترب شيئا ًفشيئا ًمن اللغة العربية. يدل على ذلك - إن كان الأمر يحتاج إلى دليل - أن حوار المتعلمين لا يكاد ينقصه من اللغة الفصحى إلا ضبط أواخر الكلمات أي بناء الكلام على معاني النحو؛ والعربية على عكس العامية أداة ثابتة على كثرة ما يطرأ عليها من التطور، وهي تتسع وتلين وتزداد صقلا على الأيام على خلاف العامية التي لا تثبت ولا تستقر بل تندمج في العربية بعد أن اشتقت منها وانفصلت عنها.

وهنا أنتقل إلى نقطة أخرى أود أن تتقرر في الأذهان؛ وتلك أن العامية ليست لغة أجنبية وإنما هي لغة عربية محرفة، فهي بنت العربية وصلتها بها وثيقة كما هو الحال في كل عامية بالقياس إلى اللغة الصحيحة. وكثيرون منا ينظرون إليها غير هذه النظرة، فإذا كتبوا أو خطبوا اتقوها جداً وخافوا منها وتحاموها ونفروا من كل لفظ مستعمل فيها، وبهذا يباعدون مباعدة شديدة غير نافعة بين الكاتب والقارىء، وهذا خطأ فان العامية كما قلت بنت العربية وفرع منها، وإذا ما نظر الإنسان إلى العامية هذه النظرة ألقى فيها كنوزاً ونفائس لا تقوم، وأغناه ما يجد فيها عن كثير مما يلتمسه ولا يهتدي إليه، أو يهتدي إليه ولكنه لا يكون في الأكثر والأعم إلا نابياً ثقيلا مستكرها ًفي السماع أو منفراً من العربية نفسها. وقد كنت كغيري أتقي كل لفظ مما يجري على ألسنة العامة لتوهمي أن ما يجري على ألسنتهم لا يمكن أن يكون عربياً صحيحاً، ولكن مطالب التعبير والأداء أحوجتني إلى البحث عن مفردات كثيرة فالتمستها في كتب الأدب ومعاجم اللغة، فأما المعاجم فقليلة الغناء في هذا الباب وهي تجمع الحي والميت من الألفاظ ولا تفرق بين هذا وذاك. وأما كتب الأدب فإن اللفظ المستعمل فيها يكون لفظاً حياً استطاع أن يبقى ويدور على الألسنة والأقلام، والألفاظ كالناس وككل مخلوق، تحيا وتموت، والصالح منها هو وحده الذي يبقى، أما غير الصالح فينتهي به الأمر إلى أن يهجره الناس ويتركوه مدفوناً. ولا خير في محاولة إحياء لفظ مات ونشره بعد أن طواه الزمن، وإنما الخير أن تتركه حيث هو وأن تلتمس سواه من الألفاظ التي قدرت على البقاء والمكافحة والنضال.

نظرت هذه النظرة إلى لغتنا العامية فعثرت بلا جهد أو مشقة في بحث على مئات من الألفاظ العامية التي نتوهم أنها غير عربية أو لم يستعملها العرب، ونتحاماها لذلك، ولو استعملناها لجاء الكلام أوضح وأبين، ولكان فهمه أسهل ومطلبه أيسر. وبعض هذه الألفاظ عربي أصيل، والبعض مولد أو دخيل ولكنه مما استعمله العرب وأجروه مجرى ألفاظهم الأصلية. وكل هذه الألفاظ تمتاز بأنها استطاعت أن تعيش وان تجري على ألسنة الأمم والشعوب، آلافاً من السنيين الطويلة، فمادة الحياة فيها قوية ولا معنى لهجرها وإهمالها لا لسبب سوى أن العامة يستعملونها كأن كل ما يستعمله العامة يجب أن يحتقر ويرمى ويطلب غيره، وهي سخافة ظاهرة.

وقد علمت أن الدكتور احمد بك عيسى قدم إلى المجمع اللغوي رسالة في الألفاظ العامية وأصولها تشتمل على ما قيل على ألفي كلمة، ولا اعتقد أن هذا الرقم أدنى مبالغة فأني أنا وحدي بلا بحث يستحق الذكر وبمجرد تقييد ما يعرض لي من ذلك في مناسباته العارضة وقعت على اكثر من ألف كلمة، وقد نشرت في الرسالة طائفة منها، فأحر بالباحث الذي يعنى بدرس الموضوع وتعقب الألفاظ أن يهتدي إلي أضعاف أضعاف ذلك. والذي أرجوه أحد أمرين، أن يطبع المجمع هذه الرسالة النفيسة: أو إذا كان ثم مانع معقول - ولست أرى أي مانع - فليطبعها الدكتور عيسى بك ولينشرها فإن الفائدة منها جزيلة، إذا كانت هذه الألفاظ السهلة المعروفة التي يفهمها كل إنسان متعلماً أو غير متعلم تغنينا عن ألفاظ مهجورة ميتة نضطر إلى الالتجاء إليها والاستعانة بها على التعبير فلا يفهمها أحد إلا بالشرح والتفسير أو الرجوع إلى المعاجم، وهذا كله عناء باطل لا يجوز تكلفه مع وجود الألفاظ المأنوسة.

أن اللغة - كل لغة - ليست أكثر من أداة للإفهام أي لنقل المعنى أو الصورة أو الإحساس أو الخالجة على العموم من ذهن إلى ذهن ونفس إلى نفس. واللغة - كل لغة - بطبيعتها أداة ناقصة ووسيلة غير وافية، وهي في الحقيقة أشبه بإشارات الخرس التي تشير إلى المراد ولا تبين عنه. وكل من عانى الكتابة بأية لغة يعرف ذلك ويحسه ويستطيع أن يشهد به. وما أكثر ما نعجز عن التعبير عنه فنتركه إلى سواه مما يؤاتينا عليه البيان، ومتى كان هذا كذلك فإن من الشطط أن نزيد الأمر صعوبة بالأغراب والحذلقة بترك السهل إلى المهجور، والمأنوس إلى الحوشى، أي بجعل مهمة الإفهام أشق على الكاتب والقارئ معا، وما دامت اللغة العامية مشتقة من العربية وفرعا من أصلها فإن من الحمق أن نترك ما فيها من الصحيح وأن نروح نبحث عن غيره لنعبر به.

وفي العامية فضلا عن ذلك تعابير لا سبيل إليها في اللغة العربية على ما نعلم، مثال ذلك هذا البيت العامي:

(يا بت أنا بدي أبوسك ... بس أبوسك

واطرب وأحظى بكؤوسك ... رقي شوية)

هذان البيتان العاميان كل ألفاظهما عربية صحيحة - البت هي البنت ولو نطقناها بنت لما تغير الوزن. وبدي من قولك لا بد لي أو من قولهم بودي، وأبوسك كلمة عربية صحيحة لا تحريف فيها ولا تصحيف ولا شيء غير ذلك والفعل باس يبوس بوساً وهو عندي خير من قبل يقبل. وأطرب وأضحى والكؤوس ورقي كلها أيضاً صحيحة. بقيت شوية وبس، فأما شوية فتصغير شيء، وأما بس فلا مثيل لها ولا غناء عنها بغيرها في اللغة العربية. وقول الشاعر العامي أو الشعبي (بس أبوسك) تعبير لا يقابله مثله في العربية، وقد حاولت مراراً أن أجد بديلا منه فلم أوفق. فإذا كان غيري يستطيع أن يهتدي إلى بديل منه في اللغة الفصحى فليفعل وليحتقب شكرنا. أمثال هذا التركيب لا أرى أي مانع في إدخاله في لغتنا العربية الفصيحة والانتفاع به فيها وإغنائها بذلك فإنه تعبير ينقصنا فعلاً وإن كنا لا نعدم منه بديلاً غير سائغ أو مقبول. ومن هذا القبيل كلمة (بقي) وكثيرون يظنونها من الفعل العربي (بقي يبقى) والحقيقة أنها فرعونية الأصل ولا معنى لها، وإنما هي كلمة يستعان بها على التمهل للتفكير مثل كلمة (ألور) في الفرنسية.

وألخص موقفي من اللغة العامية ورأيي فيها فأقول إنها فرع من هذه الشجرة العظيمة التي نمت على الأيام وأصابها الركود الشديد عصوراً غير قصيرة وأعنى بها اللغة العربية. ولكنها - أي العامية بحالتها الراهنة لا تصلح أن تكون أداة لأكثر من التخاطب في الشئون العادية فلا يجوز اتخاذها أداة للكتابة وما يطلب بها من الأغراض، وهي فضلاً عن قصورها تختلف باختلاف الأقطار بل الأقاليم المتقاربة، فلهذا لا تصلح أن تكون لغة عامة، ومن السخافة أن نتخذ لغة قاصرة غير وأفيه لا يفهمها إلا عدد محدود وأن نهجر لغة عامة يفهمها كل أحد في كل بلد. ومن السخافة أن نقتل لغتنا العربية التي خلف لنا أصحابها كل هذه الكنوز في الأدب والعلوم والفلسفة والتاريخ وغير ذلك من أجل لغة لا ماضي لها ولا حاضر أيضاً، لأنها غير ثابتة وتحولها دائم مع ارتقاء التعليم وانتشارة، ولا مستقبل لها كذلك إلا الاندماج في اللغة العربية الفصحى بفضل تقدم التعليم وانتشاره كذلك. ولكن هذه العامية التي لا تصلح أن تتخذ أداة الكتابة عربية الأصل وإن كان فيها كثير من الدخيل من لغات أخرى بحكم اتصال الشعوب بعضها ببعض وأخذ بعضها عن بعض، ولهذا يحسن الانتفاع بما فيها من العربي الصحيح وإن كان محرفاً قليلاً. ويجب لهذا الغرض أن نعنى بإحصاء الألفاظ العربية في العامية وأن نردها إلى أصلها إذا احتاج الأمر إلى ذلك وأن نستعملها ونستغني بذلك عن البحث العقيم عن ألفاظ أخرى بدلاً منها في ما مات من ألفاظ اللغة العربية وعجز عن البقاء. وفي العامية فضلاً عن ذلك تعابير مثلها غير موجود في العربية، أو موجود ولكنه غير سائغ لا يقبله الذوق العام، فهذا يحسن اتخاذها أيضاً وإغناء العربية بها فإنها بذلك تتسع وتلين وتكتسب المرونة اللازمة. فيحس ابن اللغة وهو يستعملها أنها أداة حية نابضة لا جامدة ناشفة.

وأظن أني بعد هذا لا أحتاج أن أقول أني لست عدواً للعامية أو سواها؛ وقد يساعد على نفي هذا الوهم أن أذكر أني استعنت بها في الحوار في بعض ما كتبت من الروايات أو القصص بالقدر اللازم ليس إلا - استعملتها في هذا النطاق المحدود في روايتين على الخصوص رواية إبراهيم الكاتب ورواية تمثلية اسمها (غريزة المرأة أو حكم الطاعة) ولكنى التزمت حدوداً معينة لم أتجاوزها. ولا يحسب أحد أني أريد الإعلان عن هاتين الروايتين فقد نقدتا من زمان طويل.

إبراهيم عبد القادر المازني