مجلة الرسالة/العدد 272/البحث عن غد
مجلة الرسالة/العدد 272/البحث عن غد
للكاتب الإنكليزي روم لاندو
للأستاذ علي حيدر الركابي
- 4 -
الفجر في سورية
حديث الدكتور الكيالي
إن وزير المعارف والعدلية الدكتور الكيالي رجل قصير القامة ذو شكل عادي لا يوجد في كلامه أو مظهره ما يميز عن غيره. ولما زرته لأول مرة في مكتبه في (السراي) وجدته شديد التحفظ والخجل، ولكنه فيما بعد بينما كنا نتناول طعام الغداء معاً شعر باهتمامي الزائد فخرج من تحفظه وحدثني حديثاً شائقاً إرضاني أكثر من أي حديث آخر في زيارتي سورية. وقد تبين لي من حديثه أن اهتمامه بروح الأشياء أعظم من اهتمامه بالأشياء نفسها. قال:
(إنه لا خوف على الناحية الفكرية من التعليم في سورية. فالسوريون أذكياء، وقد هضم شبابنا القسم العلمي من منهجهم الدراسي بسرعة، إلا أننا نجد صعوبة في إيجاد واسطة تعبر تعبيراً صحيحاً عن الدافع الروحي وراء ميولهم. ولا شك أن هذا لا يتحقق إلا بإدخال الروح الديني الصحيح على المعارف العامة)
وتوقف الدكتور الكيالي لحظة كأنه يتساءل عما إذا كنت قد صدمت بعبارة كهذه يتفوه بها رجل تربى تربية علمية، ولكنه لما رأى إمارات الموافقة على وجهي استرسل في حديثه وقد زاد حرارة عن ذي قبل. قال:
(ما هو الدين؟ وهل هو عبارة عن دخول المساجد أو إطاعة قوانين الكنائس؟ قد يكون الدين الذي من هذا النوع ضرورياً لغير المتعلمين الذين لا يعرفون ما يمكن جنيه من نتاج الأفكار والعلوم الحديثة. إلا أن هناك نوعاً آخر أبعد نظراً من هذا، ألا وهو السعي الروحاني وراء شيء أسمى من المادة. والرغبة في هذا السعي موجود في كل واحد منا وإن خنقها التعليم المغلوط وجمود القواعد الدينية المقررة عند الطوائف المختلفة. ويمك تحقيق هذه الرغبة عمليَّاً بواسطة تقوية العقيدة الدينية. إن من واجب الدولة أن تنبه هذه الرغبة في شبابها وأن تفسح لهم المجال للتعبير عنها، إذ بدونها لا تبقى ثمة فائدة للدين أو العلم
(وفي نفس الوقت لا يمكن لوزارة المعارف أن تلعب دور المنافس للمؤسسات الدينية مع أن هذه المؤسسات لا تقوم دائماً بما هو مترتب عليها، وأكثر رجالها يشكون من ضعف الشعور الديني ضعفاً يزداد يوماً عن يوم بينما تتوالى الطلبات على المراجع المختصة في الوزارة من الآباء الذين يرغبون في تعميم التعليم الديني
(وكيف يمكن إجابة طلبات كهذه؟ إن الأولاد الذين شبوا في محيط تشتد فيه محافظة الآباء على الناحية الشكلية من الذين يجب ألا يخرج تعليمهم الديني على القواعد المألوفة والمعروفة، في حين أن الذين قد خرجوا على القواعد التقليدية بتأثير الأفكار الغربية يجب أن يهذبوا تهذيباً دينياً يوجه شعورهم الديني نحو تقوية العقيدة ويكون بعيداً عن الاختلافات المذهبية
(إن الأثرة صفة بارزة في شبابنا، ونحن في أشد الحاجة إلى تبديلها بصفة أسمى ترمي إلى حملهم على التفكير في المجموع، وإن كان تحقيق هذا الهدف أمراً عسيراً. يجب أن نشجع التعاون القائم على إنكار الذات: ومعنى ذلك أننا في الصناعة السورية مثلاً يجب أن نفضل جهود الجماعات وشركات التعاون على الجهود الفردية التي تنحصر غايتها في نفع الذات
(إن أمام جميع الأقطار العربية هدفاً واحداً في التعليم يجب عليها السعي لتحقيقه، ألا وهو تنبيه الشعور الاجتماعي في الصغار وتلقينهم معنى الخدمة العامة أو - باختصار - السعي لإظهار أحسن ما فيهم من صفات كامنة)
كان وزير المعارف، بين من قابلت في سورية، الرجل الوحيد الذي يتكلم بما يمليه عليه صوت قناعته الوجدانية، ذلك الصوت الذي لم أسمعه منذ أيامي الأخيرة في القاهرة، ومنذ تحدثت إلى الملك ابن السعود. وهو نفسه الصوت الذي يحطم الحواجز التي كثيراً ما حالت دون تفاهم العقلين الشرقي والغربي تفاهماً صحيحاً
رأي البطريرك
لم يكن كره الأساليب التقليدية للدين محصوراً في طبقة معينة من السوريين بل هو كره عام لمسته في كل مكان، وقد قال لي البطريرك نفسه إن الطبقات الفقيرة إنما تعتبر الدين واسطة اقتصادية. وقد أخذ أفراد هذه الطبقات في اتباع الكنيسة التي تقدم لهم أكبر مساعدة مالية بصورة مباشرة أو بشكل صدقة. وقد اعترف لي بأن كل الكنائس في سورية قد بدأت تشعر بوطأة ضعف الشعور الديني
حديث فخري البارودي
إن المعروف عن فخري البارودي أن الجماهير تحبه حباً لا يشاركه فيه غيره من رجال السياسة في سورية، وهو نائب دمشق وزعيم الشباب السوري. وقد طلب مني أن أزوره ذات صباح في (مكتب فخري البارودي) المشهور. ولما فعلت استقبلني عند الباب عدد من الشبان ألقوا علي بعض الأسئلة، ثم قادوني إلى باحة داخلية نفذنا منها إلى غرفة كبيرة فارغة نصبت في إحدى زواياها منصة صغيرة جلس فوقها فخري البارودي وراء مكتب صغير يستقبل الزائرين الذين كانوا يساقون إليه الواحد بعد الآخر، فإذا اقترب منه أحدهم مال إلى أذنه وهمس بعض الكلمات بحيث لم يستغرق حديث الشخص الواحد أكثر من دقيقة. إن هذه الحالة حملتني على الظن بأن هناك مؤامرة تحاك لا نائباً يستمع إلى مطالب ناخبيه
ولحظت خارج الغرفة بعض الشبان وهم يرتدون الخوذ والقمصان الرمادية اللون ويرفعون الأيدي بالسلام الفاشستي، وكلهم متلهف لتلقي أوامر القائد، فتنبهت إلى أن هذا المكتب هو في نفس الوقت مركز أول هيئة عسكرية لتنظيم الشباب في سورية وهي فرق القمصان الحديدية.
لم أجد في مظهر فخري البارودي ما يبرر نفوذه السياسي وتعلق الشباب به، فهو رجل نحيف قصير القامة قد تجاوز الخمسين من العمر، وهو في شكله وحركاته وسكناته يمثل سكان الشرق الأدنى أحسن تمثيل. شعره خفيف وغير مرتب، وهو ذو حيوية عصبية هائلة تجعله يقفز من هنا إلى هناك بسرعة واستمرار. ولكني مع ذلك لم أشك قط في إخلاصه الملتهب الذي لمسته فيه أثناء الحديث فرفعه في نظري وجعله ذا شخصية جذابة بعد أن كنت أميل إلى الظن بأنه لا يختلف عن أي سياسي عادي كثير الكلام والحركة.
ولما انقطع حبل الزائرين أخذني إلى غرفته الخاصة في الطابق العلوي حيث سألته: - (وكيف حظيت بهذه المكانة في القلوب؟ وهل توصلت إليها عن طريق الخطابة؟)
فدهش في أول الأمر ثم التفت إلى ثلاثة من الشبان وقفوا بين يديه ينتظرون أوامره وسألهم:
(الخطابة؟ وهل أنا خطيب؟ وهل بذلت جهوداً خاصة لاكتساب قلوب الشباب؟)
فهز الثلاثة رؤوسهم ثم ضحكوا. . .
ومع ذلك فقد أكد لي كل من حدثته في دمشق أن خطبه قد ساهمت مع إخلاصه ورفعته إلى المكانة التي يحتلها. إنه يعرف كيف يستعمل لغة الجمهور الذي كثيراً ما دخل السرور إلى قلبه وضحك ملء شدقيه لتورية خبيثة أتى بها أو فكاهة تفوه بها، وعلى هذا فإن بعض الناس يميل إلى اعتبار فخري البارودي (أفكوهة قومية) لأنه في نظرهم غير جدي، مع أن هناك براهين عديدة على أن إخلاص الخطيب ومحبة الجمهور له لأبلغ أثراً من المواهب الأخرى التي لها صلة بالعقل والأخلاق
وسألته:
(وما هو في نظرك الواجب الأول للشباب السوري؟)
فأجاب:
(أن يحصلوا العلم الذي يجعلهم مساوين لشباب أي شعب أوربي. ومع ذلك فلا تكفي المعرفة والعلم وحدهما: يجب أن نربيهم تربية قومية وسياسية لا يحتاجها شباب بريطانيا وفرنسا وغيرهما من الدول التي لها كيان قومي وقد نالت استقلالها منذ أمد بعيد. أما نحن فإننا مازلنا نسعى إلى تحقيق استقلالنا القومي التام، ولهذا فإن فكرة القومية هي أسمى أهدافنا، فلا فائدة لنا من وجود الأطباء والمهندسين الأخصائيين إذا لم يكن الشعور الوطني قوياً عندهم
(إن مثل شبابنا الأعلى - وهو المثل الأعلى لكل السوريين - هو الوحدة العربية. وأول خطوة لتحقيقها الاتحاد مع لبنان، ثم مع باقي الأقطار العربية الواحدة بعد الأخرى. وستدخل مصر نفسها في هذه الوحدة آجلا أو عاجلا. قد نحتاج لتحقيق الوحدة إلى عشرين سنة أو خمسين ولكنها لا محالة واقعة في النهاية)
(يتبع) علي حيدر الركابي