مجلة الرسالة/العدد 27/وجه صالح للسينما

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 27/وجه صالح للسينما

مجلة الرسالة - العدد 27
وجه صالح للسينما
ملاحظات: بتاريخ: 08 - 01 - 1934



للكاتبة الألمانية فيكي بوم مؤلفة (الفندق الكبير)

كانت من المصادفات النادرة الوقوع أن شاهد جوهانس فيليب المخرج السينمائي، من خلف الصحيفة التي كان يطالع فيها وهو في عربة الترام. تلك المرأة العجوز الجالسة أمامه فإذا بجسمه يضطرب اضطرابا ظاهرا وإذا البرودة تسري إلى أطرافه.

كانت هذه المرأة، واسمها دريجالسكي - المادريجالسكي - من اللاتي تراهن فلا تستطيع أن تقدر لهن عمرا، تراها فكأنك ترى تمثالا للشقاء والبؤس، وكأنها الفقر عاريا متجردا في صورة إنسان

ولم يكن شعرها الذي فقد لونه المنسدل حول وجهها النحيف الشاحب هو كل ما أثر في نفسه؛ بل أثرت فيها تلك التجاعيد التي لا عد لها والتي تملأ وجهها، تجاعيد حول فمها الغائر، وتجاعيد خطت سطورا متقاطعة فوق جبينها، وحفر قاتمة مظلمة تحت عينيها، اثر في نفسه منظر يديها النحيلتين اللتين برزت عظامهما ممسكتين كيسا من الجلد وضعت فيه ما أحضرته من السوق، وحذاؤها الذي لم يبق منه طول العهد غير الأثر، ثم تلك الأسمال النظيفة البالية التي ترتديها.

لكن أشد ما تأثرت به نفس المخرج السينمائي هو ما بدا على المرأة من إهمال وقلة مبالاة، وملامح اليأس والتعس والقنوط التي تنم عليها عيناها تحت حاجبيها النحيلتين

وأغمض عينيه لحظة ليخفف الأثر الذي فعلته في نفسه، وهنا في تلك اللحظة - مر خاطر بباله، وكأنه يرى امامه، منظر الجماهير المحتشدة في أحد المناظر التي يعدها للشريط السينمائي الجديد الذي اعتزم إخراجه ويريد أن يضع له عنونا: صرخة من (الأعماق)

وخيل إليه انه يرى جمعا من النساء، وكأن كل واحدة منهن تشبه تلك التي امامه، رآهن جميعاً يتزاحمن ناحية سلم كبير وكأن بينهن تلك الجالسة أمامه الآن، إلا إنها انتحت بعيدا عنهن جميعا ثم سارت يبدو عليها البؤس والأسى

وفتح المخرج السينمائي عينيه، وذكر انه في عربة الترام، فقام من مجلسه وتقدم نحو المرأة قائلا

- هل لك يا سيدتي أن تحضري يوما إلى الرجل الذي أعطيك عنوانه الآن؟ وأحسبه يدفع لك أجرا طيبا.

ومرت فترة حتى بلغت كلماته إدراك دريجالسكي، ولكنها لم ترفع إليه بصرها برغم إنها فهمت ما يريد، وربما كانت متعبة فلم تستطع أن تجلي فيه بصرها، أو حال الألم البادي في عينيها دون أن تنظر إليه، وأخيرا فتحت فمها المطبق وقالت:

- أأعمل عمل غسالة؟

- كلا، بل عمل سهل واجر طيب، وسوف يشرحون لك كل شيء إذا ذهبت إليهم، وأجابت وقد اهتزت عربة الترام فكادت المرأة تسقط من مقعدها

- أسمع!. . أني كنت أغسل. . وكنت أتناول سبعين (بفننج) اجر ساعة واحدة في اليوم، ولكن هذا العمل قد انتهى الآن، والمحل الذي كنت اشتغل فيه أغلقت أبوابه. . . على أي حال افضل أن أكون غسالة.

- لا أظنك سعيدة في حياتك؟. . .

وبعد أن توقف قليلا، قالت:

كانت الأمور سائرة سيرها الطبيعي قبل تلك النوبات التي أصبحت تنتاب زوجي، نوبات فظيعة تصيبه فيستحيل وحشا حتى ليعجز أربعة رجال عن تهدئته ووضعه في فراشه، وهو عاطل لا يعمل. . . ينام أغلب وقته. . . ولكن حين تعود إليه النوبة!. . .

كان عاملا في مصانع بوش وزابيش، فسقطت قطعة من الحديد فوق رأسه. . . غير أن الطبيب يقول ليس هذا وحده ما سبب له هذه النوبات. . . بل لأن زوجي كان سكيراً. . . ربما أصاب الطبيب. . . كذلك ولدي، عقله غير كامل. . . لسوء حظه. . . لم يكن بهذا القدر من السوء وهو صغير، كان يجلس هادئاً فوق مقعده الصغير، فلما بلغ السادسة عشرة أصبحت تصيبه نوبات شديدة. . . وذلك من سوء حظه أيضاً. . . فأنا التي أقوم بكل ما يحتاج إليه البيت.

من عهد قريب كنت سائرة في الشارع فسقطت على الأرض. . . ونقلت إلى أقرب محل للإسعاف. وقال الطبيب. إنها ليست مريضة إنما قلة تغذية. . . ماذا تفعل بضعة دريهمات أمام أجور الغاز. . . وأجرة البيت؟

كانت تتكلم بصوت ضعيف خافت كأنها تخاطب نفسها، وانحنت قليلا فوق الكيس بين يديها. لا بأس. . . إذهبي وقابلي الهر ثوربج فقد يصلح حالك فيما بعد، وألح عليها في الذهاب ما استطاع، ثم ترك العربة وهزت دريجالسكي رأسها وهي تفكر كيف يمكن أن يصلح حالها.

وهكذا بدأت المادريجالسكي مجدها السينمائي العظيم

ومضت إلى استوديو (هالفا) وكأنها شبح ينتقل في هيكل من عظام، وسألت عن هر ثوربج - رناتس ثوربج. كاتب السيناريو الذي كان شاعراً قبل أن يشتغل بهذا الفن.

وكاد ثوربج يجن فرحا ودعا إليه غيره من زملائه وقد شاركوه إعجابه. أما دريجالسكي فظلت واقفة وسط الغرفة دون أن تدرك شيئا ومع ذلك لم يبد عليها اثر من الدهش فقد علمها الشقاء إلا تأبه لشيء

وطلب إليها أن تسجل أسمها لدى الكاتب المختص بذلك في الأستوديو، وذكروا لها إنها ستتناول عشرة ماركات في اليوم،

فكان كل ما بدأ عليها إنها عجزت عن تصديق ذلك.

كان الأستوديو غاصا بنساء كثيرات يرتدين أسمالا كتلك التي ترتديها دريجالسكي، وحول عيونهن تجاعيد كتجاعيدها إلا إنها تجاعيد زائفة من دهانات وأصباغ. وألقوا بها بين الأخريات فكانت بينهن كأنها ليست منهن، بوجهها الطبيعي وسط الوجوه المصبوغة بالطلاء وشقائها الحقيقي الذي لا تمثيل فيه. وأثرت الأضواء القوية في عينيها حتى سالت منهما الدموع.

وفي الساعة الواحدة كانت واقفة تحت مصباح كبير بين النساء الأخريات، وصاح رجل كان واقفا فوق منصة عالية طالباً منهن جميعا أن يرفعن رؤوسهن ويلتفتن إلى جهة أشار إليها. . . وكان هذا آخر مناظر الموقف.

وذهبت جميع النسوة إلى مطعم الأستوديو إلا دريجالسكي فلم تشاركهن، بل انتحت ناحية بعيدة وجلست فوق مقعد تأكل قطعة من الخبز أخرجتها من كيسها. وثوربج لم يحول بصره عن هذا الجسم الذي يبدو كأنه بقية إنسان. . . وهو يفكر - لو أنه ظل شاعراً لنظم في صورتها قصيدة رائعة، أما وقد أصبح مؤلفا للسينما. . .

وحان وقت العمل للتصوير فعادوا جميعا، واستمر العمل حتى كانت الساعة الثامنة مساء، والمخرج واقف فوق سلم أمام النسوة، ومن ورائهن رجال آخرون يلقون عليهن الأوامر من الأبواق المكبرة للصوت. وأخيرا أمرهن أن يسرن إلى الأمام.

وقيل لدريجالسكي أن تبتعد عن زميلاتها، وأن تتقدم وحدها لتصعد السلم، وأن تفعل ذلك حين تسمع كلمة: (الآن! سيري.) وما عليها إلا أن تسير في مشيتها الطبيعية المعتادة، وحين سمعت الإشارة تباعدت عن زميلاتها وسارت ثم رفعت يدها لتحجب عن عينيها النور الذي اثر فيهما، فلم تعد تبصر شيئا. . . والمصور واقف فوق منصته يدير آلة التصوير وقد أخذ الإعجاب كل مأخذ منه، فكان يصيح: ما اعجب هذا!. . ما أبدع هذا!. .

وقال ثوربج لدريجالسكي قبل أن تمضي تعالي غدا لأخذ منظر آخر، وصورت في اليوم التالي وهي تحمل طفلا، وصورت في اليوم الثالث ثم قدموا لها ثلاثين ماركا!

وسألتهم: متى أعود ثانية؟ فأجاب الرجل الذي نقدها أجرها وهو يمزح - سنكتب إليك حين نحتاجك، فليس العمل منظما هنا كعمل الغسالات!

- وعادت دريجالسكي متهالكة من التعب، لم تدرك شيئاً من كل ما حدث، عادت إلى بيتها في انتظار أن تدعى مرة أخرى

واستدعيت المادريجالسكي مرات كثيرة في الأشهر التالية.

وكان منظر المرأة في بساطته وصدقه قد أعجب كل من رآه، ولهج النقاد بذكره كثيراً، وبلغ إعجاب الجمهور به مداه، وطلب إلى دريجالسكي أن تقوم بدور آخر في رواية جديدة، ومنحت عشرين ماركا أجر هذا الدور. وسألت شركة سينمائية أخرى عن عنوانها وأرسلت إليها تستدعيها، وهكذا تسابق إليها المخرجون، فكان مظهرها يكسب الموقف لوناً طبيعيا رائعاً: لون الألم والبؤس الصحيح الذي لا أثر للصناعة فيه.

وخرجت دريجالسكي من عزلتها التي كانت فيها، فتعرفت إلى غيرها من النساء اللاتي تستخدمهن شركات السينما، وعرفت منهن أن تتردد على مكاتب الأستوديو إذا طال عليها الأمد ولم يستدعها أحد؛ ولكنها برغم ذلك كله لم تدرك من الأمر شيئاً، وكان كل ما عرفته أن أجرها يزيد خمس ماركات إذا صورت وحدها عما لو صورت بين جمع من النساء. وقد تعلمت الطمع والجشع فكانت تبذل جهدها لتحذق عملها الذي تؤمر به حتى يزيد أجرها

صرفت دريجالسكي أول نقود نالتها في أجرة طبيب. ثم صرفت ما كسبته بعد ذلك في جنازة زوجها ودفنه. وتحسنت الأحوال بعد موت هذا الزوج. فقد كانت تخشى أن تترك أبنها المعتوه في البيت لئلا يعبث بالكبريت. أما الآن فقد اصبح في وسعها أن تودعه مصحة للأمراض العقلية، ولم يبق معها بعد ذلك إلا القليل من النقود ومع هذا فقد استشعرت الراحة والاطمئنان لقد كانت مدفونة تحت أطلال حياتها التعسة وأحست اليوم إنها تستنشق الهواء، وهجرت مهنتها الأولى كغسالة. ومع ذلك فقد ساق إليها حظها الجديد رجلا يستأجر غرفة في بيتها وهو انتون بوش الأعزب الذي كان يبيع المثلجات في الشارع وكانت دريجالسكي ترى فيه رجلا ظريفا، وحسدها الجيران لنجاحها في فن السينما، واعتزت بنفسها إذ أدركت منهم ذلك الحسد. وكان الهر بوش يدفع لها اثني عشر ماركا في الشهر ويدفع نصف أجرة الغاز وكان كريما شديد الإخلاص، لها وقد ابتاع لها فستانا من الحرير الأزرق وكانت تطهي له الطعام بنفسها وتقدم له شطائر ليتناول منها طعامه في جولاته. وانك لتدرك من ذلك أن غذاءها هي نفسها قد تحسن كثيرا وزالت التجاعيد عن وجهها شيئا فشيئا وقد بلغت الآن قمة النجاح واصبح اسم دريجالسكي اسما يردده المخرجون!

التتمة في العدد القادم

محمود عزى