انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 27/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 27/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 01 - 1934



العراق

نقد لكتاب جغرافية العراق

تأليف الفريق طه باشا الهاشمي

بقلم الدكتور محمد عوض محمد

صديقنا الفريق طه الهاشمي باشا مدير معارف العراق سابقا ورئيس أركان حرب جيشه حالا به نسيج وحده اليوم في الجمع بين أدب السيف وأدب القلم، توفر علي الإصلاح المنتج الصامت من طريق التعليم والتأليف، ورضي من سعادة العيش ومتاع الحياة بشرف الدفاع عن الوطن ولذة الجهاد في سبيل العلم، فلم يدخل في فتنة، ولم يساهم في حزبية، ولم يوزع همه وجهده إلا على مكتب في وزارته، ومكتب في بيته. ومن يطلع ثبت مؤلفاته في التاريخ والجغرافيا وفنون الحرب لا يسعه إلا إكبار هذا الرجل. وهذا كتاب جديد أسفر عنه عزمه في جغرافية العراق سيحدثك عنه صديقنا الدكتور محمد عوض، والدكتور عوض أستاذ هذا العلم كان في الجامعة المصرية ثم في مدرسة التجارة العليا، فحديثه عن الكتاب نفق، وشهادته للمؤلف الفاضل أصدق

المحرر

إن حديث العراق يثير في النفس أحاسيس لا سبيل إلى دفعها، وظمأ لا سبيل إلى ريه. ويبعث أمام العين صوراً قوية جذابة، ويحرك في القلب شجناً وأي شجن. ويثير في الخاطر ذكرى عهود وأي عهود!. فهات الحديث أذن عن الزوراء وعن هيت، وعن سامراء وتكريت، وعن الموصل وكربلاء وعن البصرة والكوفة! أو اعد بهذا الحديث ذكرى ذلك العهد الجليل - كان عهدا جليلا للناطقين بالضاد، وكان عهدا جليلا لبني الإنسان كافة - أيام كان الوطن العربي كتلة واحدة، كأنه العقاب الهائل باسطا جناحيه على المشرق والمغرب، أيام كان هذا الوطن العربي هو في العالم كل شيء وما سواه ليس بشيء، أيام لم يكن في العالم نور سوى ما ينبعث من نبراسه، ويضئ أرجاءه. ولم يكن في الدهر كله راية أسمى، ولا منار أرفع من هذه الراية الإسلامية التي تظل تلك الأقطار الفسيحة المنتشرة، من المحيط الأطلسي إلى أقصى بلاد الصين، حين كان سائر العالم في دياجين من الجهل لا يعرف لنفسه منها مخرجا -

في ذلك الزمن كان السائح المتجول ينتقل من القطر إلى القطر ويتجول في الإقليم بعد الإقليم، وما ينتقل من وطن إلا لينزل في وطن، فحيثما سار، وأينما حط رحاله، لن يخرج عن الوطن العربي الفسيح، سواء أصعد أم أسهل، وأتهم ام أنجد.

وكانت هذه الأقطار كالعقد المنظوم، انبسطت حباته على محيا البسيطة ينتظمها جميعا سلكان ذو قوة ومتانة برغم أنف الزمان، وهما الدين الإسلامي واللسان العربي

وليس من شك في أن للعراق في هذا العقد منزلة خاصة. ولئن لم أنه واسطة ذلك العقد، لأننا لسنا في مقام المفاضلة. فلا أقل من أن نؤكد أن العراق جوهرة ثمينة براقة في ذلك العقد النظيم الذي لم يشهد الدهر له ضريبا.

على أن صورة الدولة الإسلامية ليست الصورة الوحيدة التي يثيرها حديث العراق. هذه صورة يهتم لها العالم الإسلامي، والناطقون بالضاد. ولكن هنالك صورة أخرى تعني العالم كله، لا فرق بين شرقه وغربه، ومسلمة وغير مسلمة. وهي صورة العراق أيام كان مهد الحضارة الأولى. في أقدم عصور التاريخ. فهنا، في سهول دجلة والفرات، نهضت حضارة سومر وأكد قبل ميلاد المسيح بأربعين قرنا، أيام لم يكن في العالم كله ثقافة ولا حضارة، اللهم إلا في الوادي الشقيق الذي نعيش فيه.

إن هذه الحقيقة وحدها لكافية لأن تثير في قلب كل إنسان شغفا بالعراق الذي كان مهد لكل هذه الحضارات، والذي ظل عامرا زاهرا كل هذا الدهر الطويل، الذي يتضاءل بجانبه عمر هذه الدويلات المحدثة، التي ملأت عصرنا هذا عجبا وضوضاء

إذن هنالك أسباب عدة لأن نعني بدرس جغرافية العراق دراسة خاصة. وأخلق بنا - نحن مدرسي الجغرافيا - أن نذكر هذا أبدا، وأن نكون دائما على استعداد - في مقام التمثيل والاستشهاد. لذكر البلاد الشرقية والديار العربية فإذا كنا نتحدث عن الأنهار وجغرافيتها، فلا ننسى أن نذكر انهار الشرق، دجلة والفرات، وسيحون وجيحون والأردن والعاصي، ولا نكتفي بذكر الرون والرين، والطونه والسين.

على أن الكتب العربية الحديثة التي وفت هذه الموضوعات حقها من البحث قليلة جدا، والمشتغلون بالجغرافيا في البلاد العربية - وعلى الأخص في مصر - قلما يكتبون ابتغاء وجه العلم، بل يكتب أكثرهم ابتغاء عرض الحياة الدنيا. ولهم في ذلك أعذار مقبولة وأخرى غير مقبولة، وعلى كل حال لقد أصبحنا في مصر - مثلا ولدينا عشرات من الكتب (المقررة) للمدارس الابتدائية وغيرها، وليس لدينا كتاب واحد حديث يفصل لنا جغرافية مصر تفصيلا علميا متقنا

لهذا كانت دهشتي عظيمة حين تناولت كتاب (جغرافية العراق) تأليف الفريق طه الهاشمي باشا، رئيس أركان حرب العراق. فرأيته يتناول جغرافية العراق بالبحث المفصل الواضح، لم يغادر ناحية من نواحي علم الجغرافيا إلا عالجها في قدرة فائقة تشهد بالفخر لمن كانت حرفته الجغرافيا. فكيف والكتاب من إنتاج رجل حرفته الأولى تعبئة الجيوش، ورسم الخطط الحربة، وتدبير المعارك الحاسمة؟

ولئن كنا مضطرين إلى إكبار هذا الجهد الفائق وإلى الإعجاب الشديد به، فانه يحق لنا أن نعجب كيف بدأ التأليف الجغرافي بالعراق ناضجا كاملا على هذا النحوت من غير إرهاصات ولا مقدما. ولا دون نشوء ونمو. اللهم إلا تكون هنالك مؤلفات سابقة ليس لنا بها علم.

وكل مطلع على هذا الكتاب بمن له أقل خبرة بالتأليف الجغرافي لابد أن يدرك ما عاناه المؤلف في جمع كل هذه الإحصائيات الدقيقة، وفي إخراج هذه المصورات المتقنة. خصوصا إذا ذكرنا أنه يطرق أبوابا جديدة، ويعالج أمورا لم يعالجها المؤلفون قبله. ويسير في سبيل لم تمهد ولم تعبد

ان العراق هو أشد أقطار العالم شبها بمصر ولقد تكون أمطاره في بعض نواحيه أغزر منها في وادي النيل، غير أن العراق يعتمد قبل كل شيء على ماء أنهاره كما تعتمد مصر على نيلها. والعراق نهران يكاد ذكر اسميهما أن يكون من الفضول: دجلة (الفتاة) التي تجري في شطره الغربي، والفرات (الفتى) الذي ينساب في الجانب الغربي. كلاهما يبدأ مجراه في جبال أرمينيه. وكردستان وليس بين منابعهما مسافة كبيرة. فأما دجلة فتنحدر مسرعة أو متسرعة - كسائر الإناث لا تلتفت يمينا ولا يسارا، بل تجري معجلة إلى البحر (خليج العجم). وإما الفرات فيسيل مغربا حتى يدنو من بلاد سورية. وكأنما كان يريد أن يتجه إلى البحر الأبيض ثم غير رأيه، أو كأنما أراد أن يطل على القطر الشقيق ليقرئه السلام، ثم يلتوي بعد ذلك في هدوء ورزانة، ويولي وجه شطر العراق، ولا يزال يجري هو أيضا حتى يصل إلى خليج العجم، لكن في شيء من التؤدة والتأني، وفي منتصف الطريق بين المنبع والمصب يشتاق الفرات إلى دجلة فيأخذ في الاقتراب منها، وفي هذا الجزء الأوسط من العراق يقترب النهران حتى ليظن انهما سيجتمعان. فلا يفصلهما غير مسافة أربعين كيلومتر. وفي هذا الموضع قد احتشد كثير من مدن العراق الشهيرة قديما وحديثا. فهنا نجد آثار بابل ومدائن كسرى، ونشاهد بغداد الزاهرة وكربلاء المقدسة. كلها في هذه المنطقة التي يتدانى فيها النهران، على أن اجتماعهما لا يتم بعد، بل يتباعدان مرة أخرى - ثم يلتقيان بعد لأي عند القرنة، فيتكون منهما نهر واحد هو شط العرب الذي ينحدر إلى خليج فارس.

هذان النهران هما رأس مال العراق وينبوع ثروته فمنهما ما} هـ الذي يسقيه، ومنهما تربته الخصبة التي يعيش أهله من ريعها ولقد تكون سهل العراق الفسيح مما حملة هذان النهران من الروساب والطين. فاستطاع السهل الخصب أن ينمو ويمتد إلى البحر، حتى أصبح خليج فارس أصغر مما كان عليه حتى في العصور التاريخية. ولا يعرف في العالم كله سهل نهري يزداد نموه بسرعة تعادل سرعة نمو سهل العراق. فهنا يتقدم البر وينكمش أمامه البحر بسرعة معدومة النظير، ولهذا كانت أرض العراق في عصر السومريين أصغر مما هي اليوم. بحيث كانت المدن السومرية القديمة: أور واردو ولاجاش واقعة على البحر أو قريبة منه.

وهكذا يعرض المؤلف أمام أعيننا صورا شائقة ممتعة لجغرافية العراق. ويعرضها في ترتيبها المنطقي المتسق. فتراه في الفصول الأولى يشرح موقع البلاد بالنسبة لما جاورها من الأقطار ثم يأخذ في شرح التكوينات الجيولوجية، وكيف تكونت أرض العراق في الأزمنة الجيلوجية، ثم ينتقل إلى وصف تضاريس البلاد وما بها من سهول مطمئنة، وجبال شاهقة تفصل ما بينه وبين بلاد الترك والفرس. ثم يصور لنا كيف يفيضان، ومقدار ما يجري فيهما من الماء، وفي أي الشهور يفيض، أو يغيض الماء ثم ينتقل بعد ذلك إلى دراسة المناخ والحيوان. . .

وبهذا يكون المؤلف قد أكمل الصورة الطبيعية للبلاد في كافة نواحيها، وهنالك يصبح ذهن القارئ مهيأ لأن ينتقل من البيئة إلى السكان، ومن الجغرافيا الطبيعة إلى الجغرافيا البشرية

والناحية البشرية تحتل الشطر الأكبر من الكتاب، ويحق لها أن تنال كل هذه العناية، فنرى المؤلف يمعن في ذكر القبائل وموطنها، وحاضرها وباديها. وكيف تنتقل من موطن إلى موطن، وبعضها قد يتنقل من العراق إلى فارس أو تركيا أو سوريا في بعض الشهور، ثم يعود إلى العراق في شهور أخرى.

ومن أفضل أبواب الكتاب تلك الفصول التي يشرح فيها المؤلف الجغرافيا الاقتصادية في العراق، ويبين للقارئ طرق الزراعة والري والمعادن والتجارة، وطرق الموصلات على كافة أنواعها.

ولن يتسع المقام هنا للإفاضة في ذكر فصول الكتاب. وحسب كل مشتغل بعلم الجغرافيا أن يعلم أنه قد بات في متناوله اليوم كتاب واف عن جغرافية بلاد نحن في أشد الحاجة إلى أن نلم بجغرافيتها إلماما صحيحا دقيقاً.

وسيجد القارئ المصري صعوبة في فهم بعض المصطلحات العلمية. لأنها في كثير من المواضع قد تخالف ما اصطلح عليه المشتغلون بالجغرافيا في مصر. ولكن لن يلبث القارئ طويلا حتى يعتاد لغة الكتاب ومصطلحاته. وإنا لنرجو على مدى الزمن أن تزداد المؤلفات الجغرافيا العربية، فنستطيع بمبادلة الرأي أن نوحد المصطلحات العلمية في اللسان العربي.

ولابد لنا أن نذكر بشيء كثير من الثناء ما اشتمل عليه الكتاب من خرائط ملونة وغير ملونة. وكثير منها من نوع فريد لا يسهل العثور على مثله. ولنذكر على سبيل المثال الخرائط التي تبين مناطق الزراعة، وكثافة السكان، والأجناس والشعوب والقبائل. والكتاب مفعم بالصور توضح جميع نواحي البحث في الكتاب كله.

ونحن نهنئ المؤلف الفاضل بجهوده المثمرة. ولا نشك في أنه ماض في عمله الجليل، حتى يشق في بحثه الجغرافي سبلا جديدة. وتزداد مؤلفاته الجغرافيا عددا واتقانا على إتقان. . أن رجال الجيش طالما أدوا إلى علم الجغرافيا خدمات، جليلة ومن ذا الذي لا يسره أن يرى اسم هذا القائد العربي بين أسماء من خدموا وأحسنوا إلى المشتغلين بها.

عوض