مجلة الرسالة/العدد 265/في مصر الإسلامية
مجلة الرسالة/العدد 265/في مصر الإسلامية
السيادة المصرية في صدر الإسلام
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
كان الخراج في الدولة الإسلامية من أهم موارد بيت المال، فلما فتح العرب مصر وجبا عمرو بن العاص خراجها لم يرْض عمر بمقدار الخراج، وظن في عمرو الظنون، فأرسل إليه ابن مَسلمة ليقاسمه ماله، ثم عزله سنة 23هـ قبيل وفاته بقليل عن ولاية الصعيد وأسندها إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح. فلما ولي عثمان الخلافة عزل عمراً وولى ابن أبي سرح مصر كلها، فكان ذلك سبب الجفاء والعداوة بين عمرو وعثمان حتى قيل إن عمراً أخذ يؤلب الناس على عثمان وعلى سياسته وإن له ضلعاً في مقتله
على أن ابن أبي سرح لم يكد يستقر في ولاية مصر حتى انتفض الرومان وكتب أهل الإسكندرية إلى قسطنطين بن هرقل إمبراطور الروم يصفون له ما هم عليه من الذلة والهوان ويهونون عليه فتح الإسكندرية لقلة من بها من حامية المسلمين، فأنفذ قسطنطين قائده الأرمني الإسكندرية على رأس جيش كثيف فاستولى عليها وأخذ جنده يعيثون في الأرض فساداً حتى وصلوا إلى مدينة نقيوس
ولم يكن قبط مصر يرحبون برجوع بلادهم إلى حوزة الرومان خوف أن يسوموهم الخسف والهوان لما قاموا به من مظاهرة العرب ورضائهم بحكمهم من جهة، ولما كان بينهم وبين الرومان من الخلاف المذهبي الذي كان مصدر شقائهم ومصائبهم في عهد الرومان من جهة أخرى. فكأن عودة مصر إلى حوزة الروم معناه زوال تلك الراحة والطمأنينة اللتين تمتع بهما المصريون في ظل الحكم الإسلامي
لهذا كتب قبط مصر إلى عثمان يلحون في إسناد حرب الرومان إلى عمرو بن العاص لما أحرزه في حروبه معهم من الخبرة الناشئة عن طول المراس، ولأنهم أنسوا فيه الدراية والكفاية على رد غارات الأعداء بخلاف ما كانوا يعرفون عن واليهم الجديد، فولى عثمان عمرا الإسكندرية على أن يتولى حرب الرومان وإخراجهم من وفي مدينة (نفيوس) دار القتال بين جند عمرو وجند مانويل في البر وفي النهر، وكثر الترامي بالنشاب حتى وقع فرس عمرو من تحته. ثم طلب المسلمون المبارزة بين فارس منهم وفارس من الرومان فكانت الغلبة لفارس المسلمين فثارت حميتهم وشدوا على العدو وانتصروا عليه وقتلوا قائده، ثم تعقبوه إلى الإسكندرية وأعملوا السيف في رقابهم. وهنا أمر عمرو بإيقاف رحى الحرب، وأن يبني في الموضع الذي رفع فيه السيف مسجد أطلق عليه فيما بعد (مسجد الرحمة) وهدم عمرو سور الإسكندرية، وبهذا ثبتت أقدام العرب في مصر سنة 25هـ
أقام والي مصر الجديد في الفسطاط يراقب الأمور عن كثب وينتظر ما تلده تلك الحرب الناشبة بين العرب والروم في مصر. ولا شك أن انتصار عمرو ثبت قدم ابن أبي سرح في ولايته. فحذا حذو سلفه في الإصلاح الداخلي وفي الفتوحالخارجية، أما الإصلاح الداخلي فلم يترك له عمرو شيئاً جديداً اللهم إلا ما كان في زيادة الخراج في ولايته حتى بلغ أربعة عشر مليوناً (إن صح أن يسمى هذا إصلاحاً)
أما من ناحية الفتوح الخارجية فإن ابن العاص كان قد أمّن حدود مصر من جهة الغرب بفتح برقة عام 21هـ صلحاً، وبفتح طرابلس سنة 24هـ عنوة. ثم بعث نافع بن القيس الفهري (وكان أخا العاص بن وائل لأمه) إلى بلاد النوبة فقاتله أهلها قتالاً شديداً فانصرفوا، فلما ولي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح غزا أفريقية سنة 27هـ وقتل ملكها وغنم المسلمون الغنائم الوفيرة حتى قيل أن سهم الفارس بلغ ثلاثة آلاف دينار والراجل ألف دينار
ثم وجه ابن أبي سرح همه إلى الجنوب فغزا بلاد النوبة من جديد، وبلغ دنقلة في سنة 31هـ وقاتل أهلها قتالا شديدا، ومع ذلك فإن النصر لم يتم لابن أبي سرح، فلجأ إلى مهادنة النوبيين وعقد معهم صلحاً رواه من المؤرخين البلاذري والكندي والمقريزي وترجمه لين بول في (تاريخ مصر في العصور الوسطى) (ص 20 - 21) وهو أشبه بمعاهدة اقتصادية بين مصر والنوبة: هذه تمدهم بشيء من الحبوب والعدس، وتلك ترسل إليهم الرقيق
كذلك تولى ابن أبي سرح قيادة معركة بحرية نشبت سنة 31هـ بين العرب والبيزنطيين تحت قيادة ملكهم قسطنطين بن هرقل، وكان النصر للعرب على الروم في هذه الموقعة التي عرفت باسم موقعة (السواري) أو (ذات السواري) لكثرة سواري المراكب التي اشتركت في القتال
أما مثير هذه الحرب فهو قسطنطين بن هرقل فلقد دبَّ في نفسه دبيب السخط فعمل على الأخذ بالثأر لما أصاب المسلمون من أملاكه في غرب مصر، فخرج في عدد من المراكب يتراوح بين خمسمائة وألف على ما ذهب إليه المؤرخون على اختلافهم، وخرج ابن أبي سرح بمائة مركب، واشتبك القتال بالغرب من الساحل الأفريقي في الفرضة المسماة بفرضة زيواره
حسن إبراهيم حسن