مجلة الرسالة/العدد 263/ذكرى مدام كوري

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 263/ذكرى مدام كوري

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 07 - 1938



للكاتب العظيم اميل لودفيج

لا أظن سيدة ذات عبقرية كانت أقل هيمنة على أفئدة الرجال، وفي الوقت نفسه لها من السلطان في نفوسهم ما ليس لغانية من غواني باريس، كمدام كوري

من وقت لآخر كان يفد إلى العالم الفرنسي الكبير بول بانلفية بعض ذوي العبقريات الفرنسيين ويجلسون للسمر لديه في بهوه المتواضع الذي تراه أشبه بالأماكن العامة منه بمجلس عظيم من عظماء فرنسا وكبير من وزرائها، شأن العجوز الأرمل، بل شأن العالم الكبير الذي نفذت بصيرته إلى جمال الحقيقة والعلم فتسلى به عن زخرف الأرائك والطنافس

قصدت ذات يوم هذا البهو وقد سبقني إليه نفر من رجال العلم والسياسة. وكان رب الدار ملازماً لفراشه لانحراف ألم به، فصافحه كل منا على حدة في مرقده، بينما كانت شقيقته تسبغ علينا التحية في مجلس الضيافة. وكنت أشعر بأن عدم وجود بانلفيه بيننا قد جعل رابطة الجماعة مفقودة ومعين سمرها ناضباً

وكذلك كان المجلس فاتراً كأن برودة الطقس قد شابته وأثرت عليه، وبدلاً من إذكاء الحماسة فيه بفنجان من الشاي فقد أُعدت مائدة طعام على الطراز القديم المنمق ثم دعينا إليها بعبارات ملؤها التبجيل والاحترام

وقد أعجبت بانلفيه أن يقدمني إلى ثلاثة من ضيوفه وأهل طبقته من رجالات العلم والسياسة، وهم بيران ولانجفان وأميل بوريل، فأخذتني الرهبة أمام هذه الرؤوس الكبيرة والجباه العريضة لرجال عظماء في أبسط ما يكون من المظاهر، تلك البساطة التي هي زينة العلماء الفرنسيين والتي كانت في العصر الغابر شيمة العلماء الألمان. نعم أخذتني الرهبة أمام هؤلاء الرجال الذين يتعذر على مثلي أن يقدر أعمالهم من تلقاء نفسه وبطريق مباشر. ولما كان من العسير عليّ فهم ما يتخلل أحاديثهم من المباحث العلمية جعلت أتفرس في أدمغتهم الكبيرة وقوالبها المختلفة وما تحمل من علم وثقافة

وبينما نحن كذلك نقطع الوقت بين حديث متكلف تارة وسكوت عميق تارة أخرى، إذ دخلت علينا سيدة عجوز لا تمت إلى الجمال بصلة. كانت ترتدي معطفاً أزرق وعلى عينيه نظارة كبيرة تزيد وجهها عبوساً، وكان من الطبيعي قيام المجتمعين لتحيتها، ولكن هيئة قيامهم، وهيئة انتظارهم مصافحتها إياهم جعلتني أعتقد أنها سيدة المجلس وأميرة المجتمعين، تلك هي مدام كوري التي وقف الجميع لها وقفة الجنود أمام القائد، كما وقفت منعزلاً أفكر في هذه الجماعة المنسجمة من العلماء

ثم انتهت هذه الضيافة وانصرف كل إلى سبيله. وما أصبح اليوم التالي حتى كنت عند مدام كوري في معملها الخاص ومعهد أبحاثها، فوجدتها بين الأجهزة والمعدات المختلفة أهدأ بالاً مما كانت بالأمس حيث لا يرهقها التكلف الذي تضطر إليه بحضرة الرجال. ثم حادثتني قليلاً وقضينا الوقت في التفرج على ما في المعمل من أجهزة وأدوات

كانت تلك السيدة البولونية ذات عيون سوداء قلقة، لامعة كالنجوم، وجميع ملامح وجهها مشربة بالحدة التي في عينها، وعلى الرغم من خشونة مظاهرها، تلك الخشونة التي هي سمة العلماء، فقد ظهرت شيئاً فشيئاً بلين الجانب ووداعة النفس حتى لقد لاحظت ابتسامة خاطفة تشرق من شفتيها في بعض الأحايين. . .

وكانت صورة زوجها التي تعلو رأسها رمزاً ناطقاً لما كان بين هذين الزوجين من تعاون وتعاضد في العمل، فقد كان يجمع إلى صفات الرجل الواسع الخيال، ذي القريحة الوقادة، ما تمتاز به المرأة من تطلع للخلق والابتداع، بينما كانت هي على الضد من ذلك أقرب إلى صفات الرجولة منها إلى الأنوثة، أو بعبارة أخرى كانت تتمثل فيها العلوم الطبيعية بأسرها

وسواء هي في حياة زوجها أم بعد موته فقد كانت تحكم عواطفها وتسيطر على احساساتها بحيث لا ينم حديثها الحازم الدقيق عما يعتلج في صدرها من عواطف واحساسات

ولم يكن المجتمع مديناً لهذين الزوجين باختراعهما السحري الذي أنقذ الملايين من الهلاك، وبصغيرتهما الأنيقة في حسن الذوق فحسب، بل إنه مدين لهما أيضاً بفتاة أخرى هي أولى ثمار حياتهما الزوجية التي ترسمت خطاهما في العمل

وبينما كنت أتحدث مع والدتها في المعمل إذ دخلت علينا بخطى الشباب وألقت نحوي نظرة استفسار وتقصٍ. وعلى الرغم من أنها رشيقة القوام لدنة الغصن فقد كان يبدو عليها الامتعاض من أن أجنبيا يزور المعمل فيعكر عليهما صفاءه التام

وقد رأيتها على جانب عظيم من طهارة الملائكة الذين أجاد سكان فلورانس الأقدمون تصويرهم على شاكلة الشباب، ووجدتها سالكة نهج أبويها لا من ناحية العلم فقط بل كذلك من جانب نوع الحياة الذي اختارته لنفسها حيث لم ترض زوجا لها إلا أحد الطلاب المنتسبين إلى (معهد أبيها بيير كوري)

هكذا رأيت تلك الشجرة المباركة والعائلة الجميلة، سلالة بيير كوري، ولمست بنفسي أساليبها في المحافظة على أصلها والعناية بموهبتها وعنوان فخارها، مما جعلني أتساءل عما لو كان مبدأ المحافظة على السلالة مرعيا لدى الملوك رعايته عند عائلة بيير كوري!

ثم أخذت مدام كوري تذكر لي شيئا عن ابنتها قائلة:

- إن لهما بنتا صغيرة!

وكأنها بذلك تريد أن تذكر لي أن في هذا البيت شيئاً آخر غير الراديوم، ثم قالت:

- وإنها أيضاً تشتغل جيدا، ومما يؤسف له جد الأسف أن والدها لم يكن بين الأحياء فينعم خاطره بعمل ابنته!

وبينما نحن عند السلم نريد اجتيازه إلى معمل آخر رأيتها تلقي نظرة كلها عطف وحنان على ابنتها هذه التي سلخت ثلاثين ربيعا والتي أخذت ترشدني إلى مادة لامعة في ضوء حجرتها الضئيل، ولكني بدلا من الإصغاء جعلت أتأمل بريق شعرها المجعد. وبعد هنيهة عادت مدام كوري للحديث:

- عجب كلها الحياة! معلمة بولونية فقيرة، تجذب طبيبا فرنسيا، فقيرا أيضاً، فيميل إليها قلبه ثم يفهمها وتفهمه!!!

ثم قالت بعد ذلك بصوت الفرح الظافر السعيد بحاضره:

- لم يكن لنا سوى حجرتين في سطح البيت مما يعد لسكنى الخدم!

هكذا يتحدث كل ظافر في معركة الحياة فيذكر أيام بؤسه وشقائه وقد تمكنت فكرة السعادة في نفسه فظل ينشدها حتى اقتنصها وظفر بها. وهكذا بيير كوري وزوجه، فبينما هما في العزلة بغرفتيهما المتواضعتين إذ طلع نجم سعدهما فاهتديا إلى الراديوم وعرفا خواصه الخارقة العجيبة، وسرعان ما تمت الشهرة وذاع الصيت في أنحاء المعمورة ثم نعما بالخير والسعادة، بالسرور والابتهاج، بالنصر والظفر

علمت الدولة بأمرهما فانتشلتهما من وكرهما بسطح البيت وشيدت لهما معهداً فخماً وأغدقت عليهما الأموال ليتسر لهما العبء ويسهل عليهما البحث

على أن هذه السعادة لم تغيرهما ولم تبدل شيئاً من حياة البحث التي اعتاداها، بل واصلا العمل في ظل معيشتهما الهادئة، وربيا طفليهما على حب المثل الأعلى الذي رسماه لأنفسهما. وهكذا كان عماد حياتهما وقوام سعادتهما حجراً ذا سر خفي اهتديا إليه فأرسل عليهما ضياءه، وأسبغ عليهما نعماءه، إلى ما تلا ذلك من نفع عام إذ سلمت به الإنسانية من العطب ونجت به من الهلاك

وما زال بيير كوري وزوجه جادّين في عملهما النافع حتى دهمهما القضاء بغتة، على نمط مفاجأته لهما بالثورة، فقضى على الرجل العظيم واختطفه من أحضان زوجه وكريمتيه، ولكن هذا القضاء لم يفل من عزيمة مدام كوري فقامت وحدها تفكر في عملهما وفي بنتيهما، ثم شمرت عن ساعدها، ومازالت تخطو إلى الأمام حتى اهتدت إلى خاصة أخرى كانت لها مجداً ثانياً وفخراً أبدياً في العالم أجمع

وهاهو ذا رئيس جمهورية الولايات المتحدة قد أهدى إليها قطعة عظيمة من الراديوم تقدر بالملايين، بينما كان الملوك السابقون يهدون إلى العالم مسعطا (علبة نشوق) مزخرفاً بالجواهر. وكم من فرق بين مسعط لا خطر له وقطعة من الراديوم تعتبر تحفة نادرة وتجلب السعادة للملايين من الناس!

والحق يقال إن مدام كوري قد عانت آلاماً كثيرة وقاست هموماً عديدة، ولم تكن مسرات الحياة لتسرِّي عنها إلا في النادر من الأيام، ولكنها مع ذلك إذا دخلت مجلساً فإن عظماء الفرنسيين وكبار علمائهم يقومون لتحيتها وإجلالها، ذلك أن القدر قد رفع هذه المعلمة البولونية الفقيرة، ووضعها فوق رؤوس الملكات والأميرات في العالم كله

ترجمة سيد سليم درويش