مجلة الرسالة/العدد 263/بين العقاد والرافعي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 263/بين العقاد والرافعي

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 07 - 1938


1 - الدين والأدب

2 - سارة وغزل العقاد

للأستاذ سيد قطب

- 12 -

. . . وهذا أيضاً واحد!

وقد عرفت الآن نظام فريق الرافعي! ففي كل أسبوعين أو ثلاثة، يتقدم (عضو منتدب) فيقول كلاماً؛ ثم يدركه الإعياء، وتفرغ جعبة الكلام عن (سيد قطب) بالذات، فيجلس (ليأخذ نفسه ويبلع ريقه) كما يقولون؛ ويتبعه آخر فيعيد الكلام الأول في صورة جديدة أو في الصورة الأولى نفسها مع لف وتطويل شديد!

هكذا قال الأستاذ (شاكر)، وهكذا قال الأستاذ (الطنطاوي)، وهكذا قال الأستاذ (سعيد العريان)، وهكذا أخيراً قام يقول (الغمراوي)

ولست أدري لم يطيل هؤلاء الناس هكذا في الحديث، ولم يمطون الأساليب مطَّا، وكل ما قالوه حتى اليوم يمكن تلخيصه في صفحة واحدة من هذه الصفحات الكثيرة التي شغلوها من (الرسالة)، ولاسيما (المنتدب) الأخير، وإني لأشفق والله عليهم من هذا الكد الطويل!

ولكن من الإنصاف أن نعترف لهذا الأخير، أنه أتى بما لم يستطعه الأوائل، فقد - والله - أخافنا وأفزعنا، وهو يجعل المسألة (ديناً ولا دين) ويلخص المعركة بين المدرستين القديمة والجديدة، في أنها المعركة بين أهل الجنة وأهل النار!

نعم هكذا مرة واحدة؟ ومن لم يكن قد عرف الخوف فليعرفه الآن. فهاهو ذا رجل يمسك بيده ميزان الحسنات والسيئات: فأما من كان مع الرافعي فقد أزلفت له الجنة، وأما من كان مع العقاد فقد فغرت له جهنم أفواهها. وليكن من شاء كيف شاء، فهو وحده الملوم!

فما قولكم. دام فضلكم!

الدين. الدين. . . هذه صيحة الواهن الضعيف، يحتمي بها كلما جرفه التيار، وهو لا يملك من أدوات السباحة ولا وسائلها شيئاً وأشد الجناة على الدين، وأشد المشوهين له والمشككين فيه أولئك الذين يضعونه مقابلا للعلم تارة، وللفن تارة، ثم يحكمون أيهما أصح وأولى بالاتباع!

وللدين مهمة قام بها وأداها خير أداء في إصلاح نفس الفرد للمجتمع، وفي تهيئة هذا المجتمع لحياة الفرد، بالنصح تارة وبالتخويف تارة، وبالتشريع تارة، وبكل الوسائل التي تكفل هذه الغاية الكبيرة، على مدى الأجيال

ولم يأت الدين ليخوض في المسائل العلمية البحتة، ولم يأت ليكون منهاجاً فنياً. فكل زج به إلى الميادين التي لم يأت لها، ظلم له، وتعريض به، وعمل كعمل الدبة التي تحدث عنها صاحبنا الحديث المحفوظ

يقوم الدين على الإقناع الوجداني، وعلى البحث العقلي، بينما يقوم العلم - معظم العلم - على المشاهدات والملموسات، والتجارب المحسوسة، فليس من الحكمة وضع هذا مقابلا لذاك جهلا باتجاه الدين وغايته، لأن كثيرا من النفوس يضطر لتصديق المحسوس المشاهد، متى أرغم على الاختيار بين الطريقتين!

وليس من الحكمة كذلك وضع الدين مقابلا للفنون، فهذه خاصة بالترجمة عن النفس الإنسانية وأحاسيسها وآمالها، وليس هذا من اتجاهات الدين، إلا في الدائرة التي تهمه لإصلاح نفس الفرد للمجتمع، والمجتمع للفرد، على طريقته الخاصة. ومن الناس من يستعز بالخوالج والخواطر والآمال التي تجلوها الفنون، لأنها تلمس كل عنصر حي فيه، وليس من الحكمة أن نسوم هذا الفريق الاختيار بين طريق الفن وطريق الدين، في حين لا يعني الدين ذلك، ولا يرصد نفسه له، وإنما هي الدبة التي تلقي الأحجار على وجوه الأصدقاء!

الدين. الدين. . . قولوها مائة مرة، فلسنا والحمد لله ممن تخيفهم هذه الصيحات الفارغة، ونحن أكثر منكم دراسة وفهماً للدين

ثم ما هذا الرجل (الغمراوي) الذي يفهم أن (السن) هي الحكم في المبادئ والآراء، فمادام (سيد قطب) لم يولد إلا بعد أن كان للرافعي أدب، فلا يحق له أن يكون له رأي في هذا الأدب، ولا يجوز أن يسقطه إن كان يستحق السقوط

ما هذا الفيض الغزير في (القواعد العلمية للنقد)؟ وما يكون الشأن مع أدباء الجيل الماضي الذين ماتوا قبل أن نولد، وما يكون الشأن مع شعراء الجاهلية؟ لنتناولنهم بالتقديس، أو لنبعدهم كالآلهة! أليسوا قد سبق بهم التاريخ؟!

والآن فلندع (اللت والعجن) الذي ليس معه إلا إرخاص الوقت، واحتقار المناقشة الأدبية، وامتهان المعارف الإنسانية

لندع هذا إلى عالم آخر. لنتحدث عن (سارة) قصة العقاد قصة الحب، ترجمة لحياة قلب، فإذا كان هذا القلب قلب العقاد أو قلباً صاغه العقاد، فهي إذن ترجمة حياة ممتازة. وهذه هي (سارة)، التي كان نصيبها من الصحافة المصرية (الصحافة التي تحابي العقاد)! بضع كلمات، لم تصل واحدة منها أن تكون فهماً كاملا لهذه الترجمة الممتازة، ولم تصل الحياة الأدبية في مصر أن تكون لهذه القصة شروح وفقرات تربى على حجمها الأصلي مرات. وهو الذي كان يجب أن يكون!

حين نقول عن هذه القصة: إنها تصوير صادق للحب في النفس الإنسانية، لا نكون قد فهمنا شيئاً كثيراً منها، ولكنا حين نقول: إنها (فيلم) فني يستعرض قلباً وعقلا ممتازين أو (طبيعة فنية ممتازة) في حب امرأة خاصة بكل معاني الخصوص نكون قد وضعنا شيئاً من الرموز لهذه القصة الفريدة

ليس في القصة حوادث (في الخارج) ولكنها حافلة بالصور النفسية الباطنية، والخلجات القلبية المضمرة. وليست مصوغ على مثال من أنواع القصص، ولكنها مصبوبة في القالب الوحيد الذي يناسبها، ويناسب طبيعة العقاد في آن

ما الحب؟

سؤال له عشرات الأجوبة؛ ولكن أي نوع من أنواع الحب هو المراد بالسؤال؟

إن للحب (أنواعا) شتى، فلكل نفس حب، وللنفس الواحدة صنوف منه شتى. فأي (صنف) منه كان حب (همام لسارة) في قصة العقاد؟

إنه حب الرجل الفنان الناضج ذي الطبيعة الممتازة، للمرأة الممتازة في نفسها وجسمها وطبيعتها

وإذا قلنا (الرجل) فقد عنينا الصحة والسلامة في هذا الحب؛ وعلمنا أنه قائم على أسسه الطبيعية الخالدة، التي رسمتها الطبيعة للحياة يوم خلقتها، ومهدت لها وسائل الدوام والخلود وإذ قلنا (الفنان) فقد عنينا الإشراق والجمال في هذا الحب وعلمنا أنه متطلع إلى غاية من غايات الحياة الكبرى، وأمل من آمالها المذخورة لكل قلبين تلمح فيهما فسحة التطلع والرجاء

وإذا قلنا (الناضج) فقد عنينا الفهم والمعرفة في هذا الحب، وعلمنا أنه يعلم منشأه وغايته، ويعرف ما يأخذ وما يدع، ويحسن الانتفاع بكل قوة مذخورة فيه في أقصر مدى، وبأيسر المجهود

وإذا قلنا (الطبيعة الممتازة) فقد عنينا الامتياز في نوع هذا الحب، وعرفنا أنه ليس حب كل يوم وكل ساعة، ولكنه المثال الذي تبدعه الطبيعة بعد مجهود لتقيس عليه وتبرز خصائصه ويهمها من أمره ما لا يهمها من آلاف الأنواع الرخيصة المألوفة

فإذا تقابلت هذه المميزات مع امرأة (خاصة) في طبيعتها، فقد تم لهذا الحب كل عناصر الامتياز والتفرد، وكان جديراً بعرضه في سجل الحياة الممتاز، الذي لا يحوي إلا بضع صور منتقاة في عمر الحياة الطويل

وهكذا كانت (سارة) بقلم العقاد

وحين نريد أن نقوم بالشرح الفني لقصة (سارة) نحتاج إلى مؤلف في حجمها عشر مرات، كما تخفف الشراب المركز بإضافة أضعاف حجمه إليه من الماء ليصبح في متناول الجميع، شراباً تهضمه المعدات. وإذا كان هذا ليس مستطاعاً فإننا سنحاول استعراض شيء من نواحي الامتياز في القصة، بقدر المستطاع

يبدو في بطل القصة، الالتفات إلى كل ذرة في نفس حبيبته، وكل لحظة من لحظات حبه، وكل مظهر وكل لفتة وحركة في الواقع أو الخيال، ومن شأن هذا الالتفات أن يضاعف الشعور بالحب، وأن يجعل منه عالما كاملا يموج بشتى الأطياف، وشتى (الحيوات) ويخلق من هذه المرأة الواحدة، عشرات (المرآت) الخواص الممتازات. وليس الرجل الذي يحب المرأة حباً مبهماً، مندفعا في تيار الغريزة أو تيار الخيال الجامح، كالرجل يحبها وهو متيقظ لكل ما يحب فيها وكل ما يجتنب، وكل ما يرجى فيها وكل ما يخاف. وهو متنبه لخوالجها وحركاتها، متحفز لتلقي معانيها وإشاراتها، ملاحظ لأدق خصائصها، وأدق خصائص نفسه معها؛ فكل هذا معمق للحب، مضاعف لما فيه من لذة واستمتاع.

وإنه ليبلغ في ذلك ألا تفوته منها دلالة الملابس التي ترتديها، ودلالة الزينة التي تبدو فيها، وإنه ليتعمق في دراسة طبيعة جسمها والزمن الكافي لشفاء جروحها، ويجري كل هذه الملاحظات حيث تجري في تيار حبه، ومتعته بهذا الحب، في كل لحظة وكل حالة!

والقصة مليئة بمثل هذه الالتفاتات نختار واحدة منها:

(وسارة كانت من ذوات الملامح والوجوه اللواتي لا يطالعنك بمنظر واحد في محضرين متواليين: تراها مرة فأنت مع طفلة لاهية، تفتح عينيها البريئتين في دهشة الطفولة وسذاجة الفطرة بغير كلفة ولا رياء؛ وتراها بعد حين - وقد تراها في يومها - فأنت مع عجوز ماكرة أفنت حياتها في مراس كيد النساء ودهاء الرجال. وتضحك ضحكة فتعرض لك وجها لا يصلح لغير الشهوات، وضحكة أخرى - وقد تكون على أثر الأولى - فذاك عقل يضحك ولب يسخر، كما تسخر عقول الفلاسفة وألباب الشيوخ المحنكين.

(هي تارة أم رؤوم تفيض بحنان الأمهات حتى ليوشك أن تسع به أطفال العالمين. وحسبك أن ترسمها هكذا ولا تضع في أحضانها طفلا يرضع ولا إلى جانبها طفلا يدرج، لتستحق الصورة عنوان الأمومة

(وهي تارة أخرى شريدة بوهيمية لم تستقر قط في دار ولا وطن، وما استقرت قط مع عشيق

(لها صورة إلى جانب سرير، لو نحيت عنها السرير جانباً لمثلت لك راهبة خاشعة تهم بالصلاة، أو ضحية من ضحايا الآلهة تساق إلى محراب القربان

(ولها صورة على سفح الهرم لو أخفيت منها الهرم لخلتها حورية مخمورة في أرض يونان القديمة تهم بالرقص في كروم باخوس.

(وكان همام يراقب هذه الشخوص ويتصفح هذه الوجوه وهو مغتبط تارة، ومشفق تارة أخرى) ويعزو تقلبها واطرادها إلى الفتوة الحية التي لم تحبس في محابس الأفكار والعادات والتقاليد، فهي أبداً في أيدي العواطف والنوازع، كعجينة الخلق المهيأة للصوغ والتركيب في كل ساعة)

ونقول نحن بعد قول العقاد: (وكان همام يتمتع بكل هذه الشخوص في حب واحد، كما قالت سارة له في فكاهة بارعة صادقة: احمد ربك. عندك من سارة المظلومة حريم كامل، فلا تشكر نفسك كثيراً على الوفاء)

وصحيح أن سارة صاحبة الفضل لأنها صاحبة هذه الشخوص، ولكن (هماما) صاحب الفضل الأول في الفطنة لها، والاستمتاع بها. أو قل: هو العقاد صاحب الفضل ومنشئ سارة وهمام!

ويكمل هذا ذلك الحوار البارع الطريف، الذي عقده العقاد، بين شخوص سارة المختلفات ما بين صفحة (116) وصفحة (119) من الكتاب

ويلفت النظر في هذه القصة، ذلك المزيج الغريب بين متعة الروح ومتعة الجسد، بحيث لا تفترقان ولا تتميزان، فأنت تجد (هماماً) يحب في (سارة) روحها وعقلها وجسمها، ولكن هذه كلها مزاج واحد، وقد ارتفع بلذة الحس فيها إلى الروحانية الصافية، ولكنها ليست روحانية الخيال الغرير، بل روحانية البحر الذي يطهر كل ما فيه ويجلوه ويحيه

وإنك لتقرأ رسالة همام إليها فتدرك منها كل شيء. وإليك بعضها وهو يحاول استنقاذها من السقوط الجسدي الرخيص

(اذكري نوبات الحيرة وتبكيت الضمير التي كانت تساورك حين تحضرين إلي، واذكري كيف كنا نفترق وقد هدأت نفسك بعض الهدوء واسترح ضميرك بعض الراحة. . . كان اهتمامي بك حتى بالغضب عليك يفرج شيئاً من الضيق الذي يسد عليك منافذ الأمل لأنه يعطيك فكرة عالية في نفسك، فيعزيك ويقويك ويرفع عنك ذلك الصغار الذي يسمم كل شعور وينغص كل نعيم

(اذكري كيف كان وجهك يشرق بالبشاشة من عهد قريب، وكيف ظهر ذلك على صحتك وملامحك، فسألتني في يوم من الأيام بين الجد والمزاح: أصحيح: أصحيح أن وجهي يمتلئ ويحلو؟ كان ذلك وأنت تشعرين إلى جانبك بنفس إنسانية تحنو عليك وتفكر فيك، وتجتهد في عذرك ما استطاعت، وترعاك في الغيبة والحضور. وهذا أحوج ما تحتاج إليه المرأة خاصة في هذه الحياة

(فكل امرأة - بلا استثناء - في وسعها أن تجد رجلاً يأخذها جسداً، ويطرحها سائماً بعد حين، بلا أسف ولا شكر ولا احترام

(ولكن ليست كل امرأة واجدة تلك النفس العطوف التي تفهم الدنيا وتفهمها، وتحب لها الخير لغير غاية، وتهتم بها وحدها بين جميع الناس وتراها أهلاً للرضى والغضب والشكر والملام)

وأنت خليق أن تدرك أكثر مما تشير إليه هذه الرسالة متى علمت أن (سارة) أو شبيهتها في موقفها هي المعنية بهذه الأبيات:

تريدين أن أرضى بك اليوم للهوى ... وأرتاد فيك اللهو بعد التعبد

وألقاك جسماً مستباحاً وطالما ... لقيتك جم الخوف جم التردد

رويدك إني لا أراك مليئة ... بلذة جثمان ولا طبيب مشهد

جمالك سم في الضلوع وعثرة ... ترد مهاد الصفو غير ممهد

إذا لم يكن بد من الحان والطلا ... ففي غير بيت كان بالأمس مسجدي

فتدهش حين ترى المتاع الحسي بامرأة، لا يخلع عنها روعة المسجد، ولا يجعل صاحبها يرتاد فيها اللهو بين الحان والطلا، بعد التعبد والتردد

وما من شك أن هذا إحساس فريد جدير بالتسجيل والبروز لأنه من النماذج التي لا تجود بها الطبيعة إلا وهي شحيحة ضنينة، وما تختص بها إلا نفس فنان عظيم، تتطهر فيها الأرجاس وتشرق وتشع المواد المتكتلة، فإذا هي أشعة وظلال

ومن الأحاسيس الفريدة في (سارة) موقف (همام) مع حبيبته يوم جاءت تعترف له بأنها خانته فعلاً، فلم يجد في هذا الاعتراف ما يستوجب قطع صلاته بها، لأنه كان يحس أن هناك ذخيرة موفورة له في نفسها، وفيضاً غزيراً لها في نفسه. وهو يقول في هذا:

(لم يشعر ذلك اليوم وهو ينتظرها بخداع ولا استغفال ولا احتقار. ولكنه شعر بخسارة وأسف، وانتظرها كما ينتظر الطبيب مريضاً يلجأ إليه، واستقبلها عاطفاً عليها متطلعاً إلى ما وراء حديثها، مستعداً للتسامح في الإصغاء إليها)

وبينما يتلقى اعترافها هذا بالقبول، ويستأنف بعد صلاته بها، وإذا به يقاطعها بعد ذلك لمجرد الوسواس والظنون، لماذا؟ لأن الذخيرة النفسية بينهما قد نضبت، فلم يكونا في حاجة بعد ذلك إلى دليل حاسم، ولا اعتراف مكشوف

وهو يصف الفرق بين الحالتين، ذلك الوصف الفريد:

(في تلك الأيام كانت كل هنيهة لها شعورها المحبوب المتجدد البهيج. إذا انفتح الباب للقاء، فذلك شعور القائد الذي يفتح باب حصنه، ليلتقي نجدة الأمان والاطمئنان إلى زمن طويل، وليطرد المخاوف من وراء ذلك الباب إلى مهرب سحيق؛ وإذا انفتح الباب للوداع، فذلك شعور الشارب الذي استوفى نصيبه من العقار، وبقي له نصيبه من النشوة والتذكار، ونصيبه من الشوق في الغد إلى مثل هذا اللقاء، ومثل هذا الوداع، ومثل هذا الانتظار؛ وبين لقاء كل يوم ووداعه ألف لقاء وألف انتقال من حال إلى حال، وألف سكينة وألف ابتدار

(تلك أيام!

(ثم جاءت بعدها أيام

(وشتان أيام وأيام

(نعم شتان حقيقة وتمثيل. . . وأي تمثيل؟! تمثيل اللاعب الذي يساق إلى دوره سوقاً لأنه يخشى الفشل، لا لأنه يأمل النجاح

(واستمرت المواعيد، واستمر اللقاء، واستمرت السآمة واستمر الشقاق، واستمرت مع كل ذلك محاولات عقيمة مستميتة أن يعود ما لا سبيل إلى أن يعود

(وكانت هي تقلد نفسها في أيام الصفاء، فتمد يدها إلى جيبه بعد عاصفة من اللوم الجارح، والملاحاة الموجعة، كما كانت تمد يدها إلى جيبه بعد ساعات الرضا والدلال، لتخرج منه المفكرة المعهودة، وتكتب فيها أسطراً أو كلمات تسجل بها ما كان في ذلك اليوم، فكتبت يوماً بعد مقابلة لم يسمع فيها إلا جدال ومحال، أو سكوت هو أثقل من الجدال والمحال: (نزهة رسمية في عربة، ثم مناقشة جدية، ثم مصافحة وتقبيل، ولا عجب في ذلك. . . فإن الحب يسهر!)

(نعم يسهر من الأرق لا من العناية!

(وسهر الحب إلى اليوم التالي فالتقيا وتراضيا، وتناولت هي المفكرة وكتبت فيها خمس كلمات: (سامحت من غير سبب. أحبك)

ولكنها كانت آخر ما كتبت في مفكرة ذلك العام. وفيما بعده من أعوام)

بهذا التصوير البارع يسجل الفرق بين الحالتين: فليس بدعا أن يعفو في الأولى مع الاعتراف، وأن يجفو في الثانية لمجرد الشكوك ولو كان - غير العقاد - واحد من السطحيين، أو الذهنيين لجعل القطيعة في الأولى أمرا مقضيا بعد الاعتراف، أو لجعل القطيعة في الثانية أبعد الاحتمالات!

أليس هذا هو منطق الذهن؟ قد يكون ذلك! ولكن للنفس وللفطرة الصادقة منطقا آخر، هو الذي صوره العقاد في نفس (همام)

وهذا ما نعنيه بأدب الطبع، وما نعنيه بفسحة النفس، وما نعنيه بامتياز الإحساس

وبعد ففي (سارة) حديث آخر، وفي غزل العقاد حديث أبقيهما إلى الأسبوع القادم. فإلى اللقاء

الإسكندرية

سيد قطب