مجلة الرسالة/العدد 259/حديث الرمزية
مجلة الرسالة/العدد 259/حديث الرمزية
للدكتور بشر فارس
حديث يأبى أن ينقطع سلكه، إلا أنه منزَّه عن الفضول واللغو لطرافته ثم لتنوع مستطرداته. ووراء الأمر ظاهرتان: الأولى انجذاب نخبة من الأدباء والقراء إلى الجديد كأنهم يفطنون أن أعواد بعض أساليب الإنشاء القائمة الآن قد شظفت أي شظفٍ حتى إنها أمست تعجز عن حمل الثمر؛ أو كأنهم يلمحون في المذهب الرمزي بما قرءوا عنه - قلّ أو كثر - أداة فيها ما فيها من المتانة والاستقامة، وإن بدت ضرباً من ضروب الإفلات من قيود المنطق (الجليل) صاحب السلطان الأعلى في التأليف والتفكير. وأما الظاهرة الثانية فاستعداد القراء لتفهُّم مذهب لا يكاد يتصل بما ألفوه من الأدب العربي الحديث، فكلنا نشأ على قراءة التهزُّل الموضوعي عند المويلحي، والتصنع اللفظي عند البكري، والابتداعية حسب ترجمة الأستاذ الزيات) المفرطة حتى الإزعاج عند المنفلوطي. ثم قامت بعد ذلك طرائق، فكانت الطريقة التحليلية الواقعية في مصر، والطريقة التخُّيلية في المهجر
والظاهرتان دلالة على ارتجاج الذهنية الاتباعية، وشهادة لارتقاء شأن الاستحداث المطَّرِد في الأدب. فأبْشِرْ بهما!
يقول الأديب الفاضل السيد كامل الشرقاوي في الرسالة (رقم 258 - البريد الأدبي) (والرمزية - بعد - في الأدب العربي (المستحدث) في أول الطريق، فالحديث ذو شجون ولازم على من يشقّون ويوسَّعون الطريق لها فيه أن يطيلوا الكلام والإبانة عنها للسالكين. وما أحرى الدكتور بشر في هذا المقام. . . أن يوالي مجلة الرسالة الغراء بمقالاته. . . عن الرمزية يوضح طرائقها ويترجم لزعمائها وقادتها ومدارسها منذ نشأتها إلى الآن توطئة لتأليف رسالة عنها بقلمه. . .)
إني أشكر للأديب الفاضل رقة كلامه وحسن ظنه بي. غير أني أرى غير رأيه. فالذي عندي أن المنشئ المنصرف إلى الاستحداث في التأليف يخرج ما يخرج ثم يقبل النقاد ينظرون فيه، ويُطلعون القراء على خصائصه، ويدنون لهم طريقته إن هي بعدت عما خبروه، ويسوقون لهم قصتها، ثم يبرزون لهم انحراف المنشئ من هنا وهناك عن تلك الطريقة إن هو قدر على أن يدسَّ فيما يكتب ما يشف عن شخصيته. هذا وإن ظفر إنشاؤه بالقبول وجدرت العناية بطريقته، قام العلماء بتاريخ الأدب والمنقطعون للبحث في فنونه وأساليبه يؤلفون المقالات والرسائل، فيدفعون إلى القراء ما غاب عنهم، ويبذلون لهم ما أَشكل عليهم
والذي جرى للرمزية أني ألَّفت مسرحية على طريقتها مع شيء من الاستقلال بما نفسي إليه ترفّ وقلمي له ينساق. ثم جاء النقاد فأحست فئة منهم بغرابة الطريقة عن أذهان قراء العربية؛ فاستهل الأستاذ صديق شيبوب النقد بالكتابة في الرمزية (جريدة البصير)، وأردف الأستاذ الفنان زكي طليمات النقد ببحث لطيف فيها قائم برأسه (مجلة الرسالة)، ونشر الأستاذ أبو شهلا التوطئة التي عملتها للمسرحية ذهاباً منه أنها وافية (مجلة الجمهور البيروتية)، ونوّه بشأن هذه التوطئة الأستاذ الأب الكرملي والأستاذ الصيرفي (في المقتطف) والدكتور زكي حسن (في الأهرام) والأستاذ كامل محمود حبيب (في المقطم) والأستاذ ادجارجلاد في ? ثم نبه الأستاذ نجيب شاهين إلى اتصال الرمزية بالتصرف وخروجها عن الوضوح التام (في المقطم)
ثم فزّ أحد من المتخرجين في كلية الأدب للجامعة المصرية ومن طلبة العلم في (جامعات فرنسا)، وإذا هو يؤلف مقالة عجيبة قد بين مبلغ اضطرابها الأستاذ محمد فهمي في مجلة الرسالة (رقم 256)
والرأي إذن أن للمنشي عملاً وللناقد عملاً وللعالم ثالثاً؛ غير أن المنشئ ربما حق عليه أن يؤلف المقالة أو الرسالة في الكتاب الذي يخرجه دفاعاً عنه أو توضيحاً له، وذلك ما أقدمت عليه في مجلة الرسالة يوم آنست من جانب النقاد ميلا إلى إدراج الرمزية المستحدثة التي في (مفرق الطريق) في الرمزية الأولى إدراجاً لا استدرك فيه، فشرحت يؤمئذ خاصية الرمزية التي في مسرحيتي وميزتها في تفاصيلها من الرمزية الأولى
يريد الأديب الفاضل السيد كامل الشرقاوي أن يؤلف المنشئ (كتباً مطولة عن الرمزية تكشف عن مناهجها وما يحيط بها لا توطئات مركزة دسمة إن هي أفادت فئة من الأدباء المطلعين على الثقافة الأجنبية اطلاعاً واسعاً فهي لا تكفي مطلقاً ذوي الثقافات المتوسطة من الأدباء، بل عامة القراء)
إن الأديب الفاضل يومئ ههنا إلى (التوطئة) التي صنعتها بياناً للمسرحية، وقوله فيها حق! فأني أردت أن تكون التوطئة كما يصفها الأديب الفاضل، وإني لفرح بالنجاح إذ كنت أعلل النفس بأن أؤلف توطئه طريفة تدخل في جانب الأدب (المركز الدسم) لا توطئة مقصورة على عرض المذهب الرمزي (من الخارج) كما تقول الفلاسفة، بأن أسود تاريخها وألم تفاريقها في أسلوب موضوعي بصيح: (إن هذه التوطئة ملفوظة من الكتب فما هي بثمرة تأمل وروية واجتهاد)
إنما المأمول في المنشئ أن يدفع للقارئ غذاء روحانيا لا مواد كتب وكلما (دسم) الغذاء و (تركز) جعل المنشئ القارئ يشاطره فنه. وتلك غاية الإنشاء العالي الناهض على الروّية والتأثر الدفين
فأبعد - إذن - بأدب الاطلاع وأدب التسلية! ّ
(الإسكندرية)
بشر فارس