مجلة الرسالة/العدد 255/من برجنا العاجي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 255/من برجنا العاجي

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 05 - 1938



ينبغي أن نحترم أولئك الذين يحترمون الفكر. رأيت هذا لأسبوع واحداً من هؤلاء: هو طبيب فاضل، طلبني في منزلي بالتلفون مرات، ثم زارني في مكتبي مرتين دون أن يظفر بلقائي. ولم ييأس، فحضر الثالثة فوجدني، وأخبرني أنه يحتفظ بكل كتبي إلا كتاباً واحداً، بحث عنه كثيراً فلم يجده. وهو يدفع فيه الآن ابهض ثمن حتى لا تنقص مجموعته المجلدة أفخر تجليد. فلم يؤثر في نفسي أيضاً هذا الكلام، وأحلته في اختصار إلى مكتبة باعته النسخة بضعف ثمنها. وإذا بخطاب شكر واعتراف بالجميل يصل إلي من هذا الرجل في اليوم التالي شكر على ماذا؟ لست أدري. ولكني تأملت قليلا فخجلت. إن هذا الرجل يحترم الفكر في ذاته وينفق في سبيله الجهد والمال. إن هذا الرجل يشكرني وقد دفع ثمن النسخة بينما أراني قد أهديت كتبي تورطا أو حمقا إلى أناس لو يعنوا حتى بإرسال بطاقة شكر. وتذكرت أولئك الذين لا يفعلون شيئاً إلا أن ينتظروا أن نهدي إليهم كتبنا ليقرءوها متفضلين، أو لا يقرءوها مهملين. مثل هؤلاء ينبغي أن نحتقرهم مهما كانت مكانتهم. إن الفكر ما أرتفع قدره يوما إلا على أيدي رجال من طراز ذلك الطبيب الفاضل. وما صغر شأنه إلا على أيدي هذه المخلوقات التي تبذل مالها في كل شيء إلا في كتاب!

ولقد سرت عدوى هذا (التسول) الأدبي إلى الهيئات العلمية والثقافية. فقد جاءني كذلك هذا الأسبوع خطاب من دار الكتب الحكومية تطلب نسخاً من كتابي الجديد هدية أو (صدقة)! وقد علمت أم الدار لها (مال) مخصص لاقتناء الكتب. ولكن ماذا نقول في زمن هانت فيه قيمة الفكر حتى بين الهيئات العلمية الرسمية؟ إلا فليعلم الناس منذ اليوم أني سأبطل عادة (الهدايا) ابتداء من كتابي القادم، وأني لن أقدم جهدي إلا لقرائي المخلصين الذين يقدمون إلي جهدهم وعنايتهم ومالهم. أما الآخرون فلن أعترف لهم بوجود. وإني منذ اليوم لن أحترم إلا من يحترم فكري ويسعى إلي ويبذل فيه ما يستطيع

توفيق الحكيم

قاسم أمين

هل كان كردياً؟ لأستاذ جليل

قرأت في (الرسالة) الغراء قصيدة (الأستاذ علي الجارم بك) في (ذكرى قاسم أمين) العالم الفقيه المشهور، فلما جئت إلى هذا البيت:

يا فتى الكرد، كم برزت رجالاً ... من صميم الحمى ومن أعرابه

استعجبت من القول والقائل. والأمر حقيق (والله) بالاستعجاب والاستغراب؛ فأني أعرف المعرفة البليغة أن (قاسماً) كان عربياً مصرياً، ولم يكن كردياً ولا أرمنياً، وقد ولد في مصر في القاهرة وتثقف فيها وعمل لسلطانها، فكان قاضياً يحكم بين الناس بالعدل، وكان خدين إمام المسلمين كلهم أجمعين وسيد العرب المصريين في زمانه الأستاذ الأمام (الشيخ محمد عبده) وحميم تلميذه نبي الوطنية العربية المصرية (سعد) العظيم. وكتب بالعربي كتباً، ولم يكتب بالكردي سطراً؛ ولن يضيره عند الله ولن يضع منه عند العقلاء أن القوم لم يعقلوا مقاصده فضلوا ولم يهتدوا. وذهبنا نردد صباح مساء قول أستاذ الدنيا جار الله (أستعذ بالله من الشر ما أنت راء، فإن الدنيا كل يوم إلى وراء) وأبصر بحر الإسكندرية في صيفه وفي سيفه مشاهد لم يبرح من أجلها ملتجأ مصطخب الموج مزمجراً يوشك أن يعيدها نوحية. . . وها قد أقبل الصيف وبدت هناك جنادعه. . .

وربما أراد الأستاذ الجارم أن يقول: (يا فتى أصله من الكرد) فلم ينجده الوزن الموروث هو وأخته القافية المتقفاة منذ أكثر من (1400) سنة. فهو يعني - أن أراد ذاك القول - أصل الرجل لا الرجل.

وهذا القول مفند قائله مدفَّع فالمرء بفضله وفصله، لا بزخرفه وأصله. والأمة إنما هي بلغتها وأدبها وعقيدتها ومصلحتها. وقد قال أحمد بن الحسين الهمذاني صاحب الرسائل والمقامات: (المرء من حيث يوجد، لا من حيث يولد. والإنسان من حيث يثبت. لا من حيث ينبت) وقاسم قد وجد وولد في مصر، وثبت ونبت في مصر. وإنا إذا فتحنا هذا الباب وأنشأنا نقول: يا فتى الأكراد، ويا فتى الأتراك، ويا فتى الأعراب، ويا فتى الإغريق، ويا فتى الشركس، ويا فتى الألبان، ويا فتى الفرس، ويا فتى الهند، ويا فتى الصومال، ويا فتى المغرب، ويا فتى الشام، فقد تشظت الأمة (العربية المصرية) - يا أخا العرب - وهفت هفواً

وإذا احب الناس أن يفتشوا عناصرهم، ويفحصوا مستقصين عن جراثيمهم صاروا إلى المقالة العربية المشهورة التي لخصها أبن خلدون وأوضحها الأئمة دروين والأستاذ (أرنست هيكل) وهكلسي وبخنر وغيرهم وفصلوها تفصيلاً. وهذا تلخيص المقالة:

(أنظر إلى عالم التكوين كيف أبتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج. آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش ومالا بذر له. وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن أخر أفق منها مستعد الاستعداد الغريب لأن يصير أفق الذي بعده، واتسع عالم الحيوان، وتعددت أنواعه وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان)

وقد سمعت العلامة الأستاذ الكبير السيد عبد العزيز الثعالبي أيده الله وقواه يقول في أحد مجالسه في الإسكندرية: (إن الناسخين حذفوا عبارة مهمة من قول ابن خلدون مستحين منها)

(والله لا يستحي من الحق) وهل في الدين والعلم حياء يا أبناء. . . يا عترة الفلحس واخوة الرباح والأمة الفرنسية - وما غيرها إلا مثلها - ملفقة مؤلفة (كما ذكر كاتب في مبحث في مجلة أسبوعية قبل الحرب المعلومة - من ثلاثة وعشرين جنساً، منها العربي. وكل واحد من القوم يقول اليوم منتفخاً: أنا فرنسي، أنا فرنسي. أنا ابن الغول وقد يكون (المقيم) في تونس ووالي الجزائر والضيزن الفرنسي في المغرب الأقصى (مراكش) المنكمشون الجادون في تثبيت دين محمد. . . وارساخ اللسان المبين. . . في الأقاليم المغربية - من قحطان. وقد يكون ظهراء (الظهير البربري) من قريش الظواهر أو من قريش البطاح فهل نقول لهم: يا سلالة عدنان، ويا فتيات قحطان. . .

وبعد فالقصيدة علوية جارمية وعربية علوية والأستاذ الجارم أديب كبير، و (عربي مصري) كريم، وما ظلم على قومه العرب المصريين؛ ولكن القافية - والقصيدة على الباء - كانت من الظالمين. . .

الإسكندرية * * *