مجلة الرسالة/العدد 255/فلسفة التربية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 255/فلسفة التربية

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 05 - 1938



تطبيقات على التربية في مصر

للأستاذ محمد حسن ظاظا

(يجب أن يكون (الربح) آخر ما يفكر فيه أصحاب المدارس الحرة!!)

(أترى تلك مدارس للتربية والتعليم. أم هي مزيج من الفوضى والاضطراب، والغش والخداع، والحشو التافه والأعداد السقيم؟؟)

7 - مثال سيئ للتعليم الحر

أشرت من قبل إلى بعض نواحي النقص في (التعليم الحر) ووعدت القراء بكشف ما أعلم من أسرار هذا التعليم فيما بعد وأنجز اليوم وعدي في حدود تجربتي الماضية القاسية التي كنت فيها ناظراً لإحدى مدارس جمعية تعمل فيما تدعي للخير وكرم الأخلاق!!

1 - وظيفة التعليم الحر

وأحسبك تدري - قبل أن أتكلم - أهمية التعليم الحر في بلد لا تستطيع معاهد حكومته أن تتسع لأكثر من نصف النشء الراغب في التربية والتعليم! بل أحسب أنك ترى معي أنه مادام الأمر كذلك فيجب ألا تقل مدارس ذلك التعليم عن مدارس الحكومة ولاسيما في الغاية النزيهة، والنظام المأمون، والكفاءة المنشودة. ولكن الأمر يا عزيزي كان ومازال على غير ما يجب أن يكون! أو قل إنه ما يزال مضطرباً في الكثير من هاتيك المدارس التي لم يؤسسها أصحبها إلا لتكون لهم تجارة رابحة قبل أن تكون للوطن حصناً وللتربية موئلا. وهاأنذا أخوض بك في مثال سيئ لهذه المدارس مؤكداً أن بعض ما به من شر موجود في غبره وغيره من مدارس العواصم والمراكز، وأنه لا يكاد يخلو من هذا الشر إلا مدارس تلك الجمعيات الخيرية المحترمة، أو مدارس أولئك الذين للعلم عندهم كرامة، وللخلق رهبة وجدارة!

2 - مثالنا السيئ

ويؤسفني كل الأسف أن أرى نفسي مضطرا - إزاء المصلحة العامة - إلى أن أصرح بهذه الحقائق القاسية التي لا تشرف هذه المدارس ولا ترضي أصحابها. وأعلم تماماً أن بعض هؤلاء الأصحاب والمديرين سيثور عليّ، وسيحاول عبثاً أن يدافع عن نفسه وعن مدرسته بمختلف الأعذار وشتى الادعاءات. ولكن ما حيلتي وهذا الحقائق الصارمة الصارخة تعلن عن وجودها على لسان المدرسين والطلبة وأوليا الأمور جميعاً؟؟

مثالنا السيئ هو جمعية تعمل للخير وكرم الأخلاق كما قلت، وتتخذ من بعض الشخصيات الكبيرة الساذجة أصناماً تتقدم بها للجمهور كما يغفل عن أسرارها ومخازيها. وقد رأت هذه الجمعية أن المدارس من أربح الوسائل وأشرفها مظهراً، فراحت تفتح منها ما تستطيع فتحة وتحشد فيها ما يزيد على الألف تلميذ وتلميذة!! فهل تدري من يدبر أمور هؤلاء التلاميذ؟ ومن يقوم بتعليمهم؟ وأين تذهب أموالهم؟

أما المدبر أو المدير كما يدعونه فهو رجل متعلم ولكنه عجيب الأطوار، محب للسلطة والاستبداد، سماع للأكاذيب والوشايات معتوه أو كالمعتوه، لأنه سب يوماً أمامي وأمام التلاميذ جميعاً في (طابور) الصباح أستاذ الدين ورئيس (المطبخ) سباً مقذعاً بينما كان الأستاذ المسكين واقفاً وسط التلاميذ، ولأنه أحذ هراوته مرة وجرى بها خلف خادم صغير على مرأى من بنات المدرسة وكن واقفات يتأهبن لسماع نصائحه الغالية في الفناء الكبير! ثم هو فضلاً عن ذلك مادي جشع قد احتكر لنفسه إيراد المطعم والمقصف وتنظيف الأحذية لقاء ما يقول به من إدارة بريئة وإشراف نزيه!. وقد لا يكون في ذلك إثم كبير لولا ما يقدم للتلاميذ من طعام سيئ، ولولا ما يحملهم به على هذا الطعام وذلك التنظيف من ألوان العسف والامتهان والحرمان والتعنيف مما لا أول له ولا آخر

وأما المدرسون فهم مجموعة متنافرة يطغى فيهم العنصر غير الفني على الفني، لأن فيهم راسب الكفاءة والبكالوريا أو حاملها مع فريق من سيدات ورجال التعليم الإلزامي ممن لم يجدوا عملاً في الحكومة فجاءوا إلى هذه المدارس الابتدائية الأهلية يلتمسون فيها عيشاً. ويضاف إلى أولئك وهؤلاء واحد أو اثنان من الفنيين لإدارة حركة المدرسية بهذا (الطقم) العجيب الذي لا استعداد فيه للتعاون والعمل بتلك المبادئ التي اصطلح الناس على أنها أصول للتربية الصحيحة والتعليم السليم! فماذا تريد بعد هذا وقد رأيت الرأس معتلاً والأعضاء خائرة منهوكة؟ قل ما شئت من إرهاق لهؤلاء المدرسين ومن انتدابهم ليعملوا ككتبة في شئون الجمعية الخاصة والعامة. وقل ما شئت من تضافر القوى في الجمعية على امتهان المدرس ذي الكرامة وإحراجه بتلفيق التهم ونصب الأشراك. وقل ما شئت من تدخل المدير العجيب في الشئون الفنية الخاصة وصبغة للنظام العام بهراوته المضحكة وبشخصيته المادية المتناقصة وبميوله النهمة الغادرة، حتى لتشعر أنك في عصابة أو مارستان. ثم قل أيضاً ما شئت من التظاهر أمام حضرات المفتشين بما ليس موجودا، ومن وضح خزانات بغير ماء في المراحيض كدليل على النظافة وتوفية الشروط!!. أما التلاميذ المساكين فما أقل ما يتناولون من الكتب والكراسات! وما أكثر ما يدفعون من الضرائب والإتاوات! وما أشد ما يتحملون من الكلمات والضربات! وما أخطأ ما يعاملون به من طرق لا تكون العقل ولا تبني الشخصية ولا تهذب الشعور!

ستعجب مما أقول، وستتخيل أنه إنما كان بالأمس البعيد ولا وجود له اليوم. وسأقول لك إني لمسته بيدي منذ عامين اثنين ولقيت منه الأمرين وخرجت ثائراً علية عندما لم أقو على العيش فيه. وإذ كانت الوزارة قد خففت كثيراً من مثل تلك الفوضى بأعمال رقابة التعليم الحر فإن العيب لم يزل جسيماً، ومجال التلاعب والعبث واسع عريض، وممارسة التربية كفن صحيح سليم لا تكاد تتحقق في هذه المدارس ألا شذ وندر

وقد تسأل بعد هذا عن تلك الأقوال الكثيرة التي تجنيها الجمعية من إعانة الوزارة ومصرفات التلاميذ؟ وسأقول لك سل العمارات الشاهقة التي يبنيها المدير أو يفاوض في شرائها وسل المدرسين المساكين الذين يتناولون الأجر الضئيل ويشاهدون التضخم الهائل الشديد. وسل تلك الأبنية الرطبة القذرة التي يحشدون فيها التلاميذ بغير حساب!!

ثم ليت الوقت يتسع لأقص عليك طريف ما يحدث في تلك الدور، أو ليته يسمح بإخبارك أن الطلبة في المدارس الثانوية الأهلية كالوحوش يرهبهم الناظر لأنه يبغي مالهم، ويخشاهم الأستاذ لأنهم لا يرهبون أحد؛ نعم ليته يتسع أو يسمع بذكر هاتيك المخازي الكثيرة التي أسمع عنها كل يوم هنا وهناك فحسبك اليوم ذلك، وإلى اللقاء حيث أحدثك عن ناحية أخرى

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية