مجلة الرسالة/العدد 246/قتيبة الباهلي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 246/قتيبة الباهلي

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 03 - 1938



البطل الفاتح

للمستشرق الإنجليزي هـ. أ. ر. جب

الأستاذ بجامعة إكسفورد

إن انتصار الجيوش الإسلامية في آسيا الوسطى أيام عهد الوليد الأول إنما يرجع قبل كل شيء إلى التعاون التام بين عبقرية الحجاج الحكيمة ومهارة قتيبة الحربية. ولقد بولغ - من بعض النواحي - في كفاية قتيبة بن مسلم الباهلي في قيادته الجحافل، وإن كانت المصادر العربية لا تنكر الحقيقة الواضحة في أن مقدرته لا ترتكز كل الارتكاز على العبقرية. ويتجلى لنا مراراً كثيرة إلى أي مدى كان دؤوب الوالي على الاهتمام بتقدم جيوشه، وما كان يأخذ به نفسه من وضع خطة القتال، ولو أن فضل إظهارها وانتهائها بالنصر المؤزر يرجع في الحقيقة إلى قتيبة. ويظهر أن الحجاج كان كبير الثقة في قائده إلى غير حد، وكما أنه لم يكن ليتوانى عن تعنيفه ولومه وتحذيره إذا جد ما استدعى ذلك، كذلك كان لا يحجم عن إظهار تقديره لنجاح قتيبة. وسرعان ما أدرك العرب في جميع البقاع أن مقدرة الحجاج تشد من أزر قائدهم وإن استترت، فكان ذلك الإدراك مبعث كثير من هذه الهيبة التي حالت دون حدوث أي خلف في حياته

أما العامل الثاني الذي ساعد في الواقع على تلك الروح فقد كان ما قام به قتيبة خلال متابعته الفتح من توحيد جهات خراسان، وتأليفه الفرس والعرب، وقيس واليمن. ولم يكن من الهين عليه أن يستبقي حماسة جنده - التي لا يعرف التخاذل إليها سبيلاً - إزاء معارك طويلة الأجل حامية الوطيس، وهيهات أن يقصر تفسير هذا الحماس على أنه الرغبة في الغنيمة الوفيرة فحسب. وليس من البعيد أن يكون مرجع نجاح قتيبة في الغالب إلى مقدرته الإدارية أكثر من رجوعه إلى حكمة قيادته. ويظهر أنه أدرك أن استتباب سلامة ودعائم الحكومة العربية في ولاية كخراسان ينبغي أن يقوم - طوال حكمها - على تعاون الشعب الفارسي الذي يؤلف الغالبية العظمى في الإقليم: الأمر الذي لم يقم به حتى الآن أمير عربي في الشر ولقد أظهرت حدة النضال الحزبي عظيم الخطورة في الاعتماد على عون العرب فحسب، وعلى الأخص في وجه حركة كتلك التي أضرم لهيبها يزيد. ومن ثم فقد اكتسب قتيبة - بعمله الإيجابي هذا - ثقة الفرس وكافأها من جانبه بالثقة أيضاً. حتى ليكاد يخيل إلينا أنه باستعماله - طول حكمه - لموظفين من الفرس وتقديمه الولاة الإيرانيين إنما كان يعدهم (العشيرة) التي كان يحتاج إليها بين العرب. وعلى الرغم من أن ذلك قد جلب عليه سخط العرب وكان عاملا قوياً في إسقاطه، إلا أنه في ذلك كان أول دافع لإثارة الشعور باسترجاع العاطفة القومية في نفوس خراسان.

كذلك كان مركز آسيا الوسطى مشجعاً للعودة إلى محاولة ضم بلاد ما وراء النهر الغنية إلى المستعمرات العربية، وإن كنا في شك غير قليل إزاء الأخبار المتعلقة بمدى اهتمام العرب بهذه الناحية. ففي سنة 682م، بينما دب الضعف الداخلي في الصين من جراء مكائد الإمبراطورة وبينما كانت يداها مصفدتين بحروبها مع التبت قام الأتراك الشماليون أو الشرقيون باستردادهم استقلالهم، ولم تفلح الإمبراطورة الجديدة مطلقاً في بسط نفوذها ثانية على الأقاليم الغربية في الخانات السابقين، غير أنها مدت حكمها - بواسطة الحملات المتواصلة - على القبائل العشر التي تنزل إيلي وتشو التي يقال إنها (قد تلاشت في أغلبها) وفي سنة 701م غزا الأتراك الشرقيون بيد أنه ليس ثمة داع للاهتمام جدياً بالقول بأن قوات الملهب قد تأثرت بهذه الغزوة، ولو أنه كثيراً ما ردد هذا القول، ولابد أن التدمير والخسارة اللذين كانت تتسم بهما هذه الغزوات بلا استثناء قد ساعدا على إضعاف موارد أمراء الرعية الذين كان لهم نصيب واهٍ في اختيار ابن الخان ليقود القبائل العشر. وعلى أية حال فإن الحرب الدائمة التي كان يثير ضرامها الأتراك الشرقيون ضد التركش من 699 إلى 711م قد حالت في الواقع بينهم وبين إرسال نجدات إجابة لاستغاثات كانت تصلهم من سجديانا بطلب العون منهم. كذلك لم يكن من المستحيل على التركش التدخل في سجديانا خلال هذا العهد نفسه

ويقصد مؤرخو العرب - بلا استثناء - بكلمة (الترك) جميع السكان المحليين الذين لا يستعبد أنه كانت فيهم إبان ذلك الوقت عناصر تركية. والواضح أن الإشارات العرضية إلى الخاقان إنما هي نعوت فخر (اللهم إلا إذا أمكن إرجاعها إلى الرؤساء المحليين وذلك أمر بعيد الاحتمال)؛ وإن قصة 98هـ التي اتخذتها فكرة التدخل دعامة لها إنما هي من نسج خيال باهلي بحت، وخلاصة القول أن تجربة العرب في السنوات الأخيرة ترينا أنه كان من المحال على قتيبة أن ينعم بهذا المجد الباذخ من النصر لو أن كتائب كبيرة من الترك وقفت وراء سجديانا تشد من أزرها في مقاومتها. وتقع فتوح قتيبة بطبيعة الحال في أربعة أوقات هي:

1 - سنة 86 هـ (705م) حيث استرد إقليم طخارستان الأدنى

2 - فتح بخارى من 87 - 90هـ (706 - 709م)

3 - تركيز نفوذ العرب في وادي جيمون وامتداده إلى صغد بين سنتي 91 و 93هـ (710 - 712م)

4 - الحملات على ولايات تركستان، من 94 - 96هـ (713 - 715م)

أما عن إقليم طخارستان الأدنى فقد كان الجهد قبل قتيبة منصباً على كبت كل ثورة تنشب في هذا الإقليم. وفي ربيع السنة السابعة والثمانين للهجرة (705م) التأم الجيش وسار من (مرورود) وطالقان إلى بلخ، ولقد خضعت المدينة - كما ورد في إحدى روايات الطبري - دون نضال ما. وتشير رواية أخرى إلى شبوب ثورة بين بعض السكان، وقد يمكن عد هذه الرواية وإن لم تكن في وضوح الباهلية - كسابقتها لورودها على لسان أخي قتيبة ولأنه يرمي من ورائها لإقامة دعوى باهلية على البرامكة. ولقد يكون هذا الرأي هو الأدنى إلى الصحة ما دمنا نسمع من أن بلخ قد أضحت خربة بعد أربع سنوات من ذلك

وتلا إخضاع بلخ إخضاع تيش ملك شغانيان الذي يحتمل أنه تعاون مع المفضل في الهجوم على ترمذ قبل ذلك بعام واحد. ويظهر أن الدافع له على عمله هذا إنما هو الصراع مع ملك شوهان في الأودية العليا لنهري سرخان وألينجاليا، وكان يأمل أن يستخدم ضده الجيوش العربية جزاء مساعدته إياها. وحقيقة الواقع أن المفضل قد دبر حملة ضد شومان قبل استغاثته، وكانت قد خرجت تحت إمرة قتيبة الذي كان أكثر الجميع استعداداً للنهوض بها مادامت تؤكد سلامة الوصول إلى الطريق الجنوبي للبوابة الذهبية. وبعد أن فرغ قتيبة من إخضاع ملك غِسلَشْتان الذي كان من نبعة تركية كما يذكر يوان شوانج وآب قتيبة بمفرده إلى مرو تاركا جيشه يسير تحت إمرة أخيه صالح الذي قام بعدة غزوات صغيرة أثناء الطريق.

وإنه لمن الواضح الجلي - على الرغم من زعم البلاذري - أن هذه الغزوات لابد أنها قد وقعت في الأقاليم المجاورة لنهر جيحون، ومع ذلك فإن في رواية الطبري نقصاً

وهكذا فإن قتيبة لما عزل (رينزك) في بادغيس قلب الثورة أمضى شهور الشتاء في مفاوضته عن طريق (سليم المشير) وهو فارسي نافذ الكلمة قد برهنت حنكته - أكثر من مرة - في تصريف أصعب المفاوضات على حاجة قتيبة القصوى إليه. وقد أغرى (نيزك) على التسليم، وسيق إلى مرو وقرت الأغماد على ألا يدخل قتيبة بادغيس بشخصه. ومع ذلك فإن الحاكم - من باب الاحتياط - قد أمر أن يصحبه (نيزك) في جميع حملاته، ومن ثم فإنه - على الأقل في هذه اللحظة - كان قد أمن من خطر اندلاع ثورة في خراسان بطريقة شريفة لكلا الجانبين؛ وقام ابن بيروز قافلاً إلى الصين ينتظر سنوح فرصة تكون أكثر مواتاة له.

أ. هـ. جب