مجلة الرسالة/العدد 246/التصوير التوضيحي في المخطوطات الإسلامية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 246/التصوير التوضيحي في المخطوطات الإسلامية

مجلة الرسالة - العدد 246
التصوير التوضيحي في المخطوطات الإسلامية
ملاحظات: بتاريخ: 21 - 03 - 1938



للدكتور أحمد موسى

أتى على الباحثين في تاريخ الآثار والفنون الإسلامية حين من الدهر قصروا فيه جهودهم على درس ما كان بارزاً من تلك الفنون للعيان في المباني والآثار الظاهرة ذات الوجود المادي الضخم، مما شاهدوه من المساجد والمنائر والعمائر وكل ما بناه رجال التاريخ الإسلامي ليتخذ مكاناً بيناً في نظر الحاكمين والمحكومين؛ لأن الفنون الجميلة كانت ذات صفة يأبه لها الملوك والأمراء ويجيزون عليها أربابها؛ فلم يكن للفنان المسلم مجال يظهر به الفن لعامة الشعب، بل كان كل همه أن يتقدم إلى ملك عظيم بثمرة نبوغه الفني ليكافئه عليها. كما أن الملوك اتخذوا عادة تشييد البناء وما يتبعها من التزيين والتزويق والتأثيث تخليداً لأسمائهم وذكر عهودهم وما اشتهروا به من الغنى والقدرة على تسخير المواهب في تمجيد الدين تارة والمجد الدنيوي تارة أخرى

وعندما انبرى مؤرخو الفنون الإسلامية إلى تقسيمها وتبويبها وتحديدها بعد انتشار الاستشراق في أنحاء أوربا المتحضرة، وبعد أن طاف فريق كبير من علماء المشرقيات بلاد الإسلام وعادوا بدراسات متوافرة ومثل للآثار التي وقعت أبصارهم عليها ودروسها في حواضر الشرق القريبة والبعيدة - طبق فريق منهم على تلك الفنون القواعد التي اتبعها علماء الفن الأوربي في ترتيب الآثار، فجعلوا أقساماً خاصة للعمارة، وأخرى للنحت والرسم البارز والحفر، وثالثة للتصوير وغيرها لأنواع التحلية والنقش والزخرفة

وكان هؤلاء العلماء يزعمون أن الدين الإسلامي يحرم التصوير مع أنهم رأوا آثاره، ومع أن الدين لم يكن ليمنع هذا الفن إلا من ناحية واحدة خشية أن يتجه التأويل إلى عبادة الأصنام. هذا وفي الوقت الذي لا يوجد فيه نص يتنافى مع تقدير الجمال الخالص الذي كانت نفس النبي والصحابة رضي الله عنهم مشبعة به، بدليل ما ورد من الآيات والأحاديث والتفاسير في تمجيده

وجعل المؤرخون همهم مقصوراً على تلك الآثار؛ ثم فحصوا كثيراً من المباني الإسلامية بزخارفها وما فيها من نجارة وقيشاني وأشغال المعادن؛ كذلك ما كان على الحلي والحلل وفي الأقمشة من الخز والديباج والإستبرق من تطريز وكتابة وصور. هذا إلى جانب دواوين الشعر التي لم يجد المسلمون مانعاً من تحليتها بتصاوير عجيبة للنبات الذي اتخذوا منه وحدات زخرفية كالأزهار والسنابل والأشجار، والحيوان كالسباع والغزلان والظباء وطيور البر والبحر والأسماك. ولكنه لوحظ أن الفنان أمسك يده حينما وصل إلى تصوير الإنسان، لا خشية الكفر ولكن خشية الملام والفتنة. واستمر الإمساك عن تصوير الإنسان حيناً حتى ازدهر الإسلام في بغداد، فترى أحد المصورين من الفرس يزين قصر أحد الملوك المسلمين في بغداد بفصول من قصة يوسف وزليخا توضيحاً وشرحاً لديوان الشيرازي الذي جعل من تلك السورة القرآنية ملحمة شعرية أتى فيها على وصف الغرام الذي كان مستولياً على فؤاد تلك الأميرة المصرية نحو ذلك النبي العبري

إلا أن هناك جانباً من الفن الإسلامي لم يلتفت إليه كثيراً قد اهتدينا إليه، وهو ما زينت به كتب العلماء والمؤرخين والأدباء من الصور التوضيحية في الكتب. وكان أولها القرآن الكريم الذي بذلت الجهود في تزويقه وتزيينه وتحليته، وإن لم يكن بنصوصه في حاجة إلى التجميل والتزويق. ولا تزال نسخ عدة منه الزينة الكبرى والحلية المثلى لكثير من المتاحف ودور الكتب في الشرق والغرب، التي اتخذت وجوده فيها مفخرة وبهجة ودليلا على الغنى الفني والثروة الأدبية.

ولم يكن في استطاعة بعض المتزمتين من رجال التفسير أن يمنع فريقاً من الفنانين من إدخال التصوير في الكتب، بدليل ما جاء في مقامات بديع الزمان المتوفى سنة 1007م ومقامات الحريري (1054 - 1121م) التي تجلى فيها التصوير بالألوان لتمثيل مغامرات البطل المشهور أبي زيد السروجي وغيره

وشمل غيرهما من الكتب ككليلة ودمنة، وبعض أجزاء الأغاني للأصفهاني (897 - 967م) وألف ليلة وليلة، كثيراً من الصور الرائعة التي دلت إلى حد بعيد على الدقة والتذوق.

ولا يمكننا أن ننكر أن فناني الفرس كانوا أسبق إلى التصوير من سواهم؛ فقد أعطاهم الشعراء الفحول كالفردوسي المولود سنة 939م، وعمر الخيام المولود في القرن الحادي عشر، والسعدي (1184 - 1291م) وحافظ المتوفى سنة 1389م وغيرهم، موضوعات منوعة توحي إلى المصور فكرة الرسم لتوضيح النصوص. فالشاهنامة وحدها وهي تنطوي على جزء عظيم من تاريخ إيران، أشبه شيء بإلياذة هوميروس، وفيها من أخبار الملوك والأمراء وخدع الحروب وحيل السياسة ووصف الأقطار ومواقع البلدان وجمال التصور وفتنة الجبال والوديان ما جعل التصوير فيها أمراً محتما. وكذلك ما ورد في شعر السعدي من النوادر والقصص في بستان الورد. دع عنك رباعيات الخيام وما اقتضته من تصاوير تمثل الشاعر الفنان المحب للخمر المفتون بالجمال المسحور برشاقة التكوين الجسماني، وهو يطرق باب الحان ليوقظ رفاقه لمعاقرة أقداح الشراب قبل بزوغ ألوان الفجر، فلم يكن للمصور بد من الخضوع لذلك الإلهام الشعري الموسيقي القوي في سبيل الحب واندفاع النفس. وهذا هو الذي حدا بالمصورين إلى تصوير الإنسان في أوضاع مختلفة أهمها أوضاع الحرب والحب، ولا أجمل من تلك الصورة التي رسمت توضيحاً لقول الشاعر:

لم يخلق الرحمن أجمل منظرا ... من عاشقين على فراش واحد

لأن المصور قد أوتي من نقاوة الإلهام وطهارة الروح وسمو الخيال وتمجيد الجمال ما جعل صورته آية في العفة وجميل الظن مع اجتماع الحسن والشغف الظاهر في أعين العاشقين.

من أجل هذا كله وجب على القارئ كلما قلب بين يديه كتاباً إفرنجياً مصوراً أو مزيناً بالرسوم؛ أن يتذكر أن هذا الفن وهو توضيح النصوص بالتصاوير، إنما هو اقتباس من فن شرقي قبل كل شيء، وأن الذي فكر في تزيين دواوين الشعراء وكتب القصص والتاريخ بالصور كانوا من أهل الشرق كالهنود والفرس وبعض السوريين، في الوقت الذي لا ننكر فيه على بعض علماء اليونان أنهم وضحوا كتباً من تأليفهم برسوم تعين على فهم النصوص دون أن يكون لهذا أثر كبير في ابتكار المشارقة لفنون تحلية الكتب

وإننا لا نذكر أن هذا البحث لا يزال بكراً، لم تتجه إليه الأنظار ولم يطرقه باحث، كما أننا لا نذكر أنه كتلك الموضوعات التي سبق البحث فيها فلا تكلف كاتبها مجهوداً كبيراً، إنما نذكر أنه قد آن لنا أن نختط خطة أخرى في دراسة الآثار الإسلامية؛ فندرس الطريف الجديد

ولما كانت العلوم التطبيقية أول ما اتجه إليه نظرنا في هذا البحث، وكان أقدم الكتب المخطوطة في هذا الموضوع حسب ما عثرنا عليه، كتاب أبي زيد البلخي (نسبة إلى بلخ في جنوب أفغانستان) رأينا أن نبدأ بتعريف إحدى صوره وهي صورة العراق في زمانه، والتي قصد بها أن تكون خريطة لتلك البلاد، وهي الخريطة التي اصطحبها ياقوت الحموي الإغريقي الأصل (1179 - 1299م) أثناء رحلته في سوريا وفلسطين كما ذكر ذلك في كتابه إرشاد الأريب، عندما نوء بذكر كتاب البلخي، مما يدل على قيمته في عهده

وقد جعل البلخي للأنهار صورة تشبه الخطوط الغليظة المهشرة رمزاً للماء، وأحاط المدن والمعالم بدائرة تحدد القطر المقصود بالوصف، ورسم نهر دجلة وسطه فقسم البلاد إلى قسمين، وأظهر مصبه في الخليج الفارسي عند شط العرب، ورمز للمدائن بمربعات ومتوازيات أضلاع ودوائر ذات مساحات مختلفة تناسبت على ما يظهر مع قيمتها المدنية، ولا يضيره أنه جعل الخريطة بأكملها منحرفة نحو خمس وأربعين درجة عن الأفق. ومن المدن الواضحة على الخريطة بغداد والبصرة كما يتضح من النظر إليها

والخريطة الثانية مختارة من كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للشريف الإدريسي المولود حوالي عام 1100، وهو من أمهات الكتب في علم وصف الأرض ومن أبرزها تأليفاً وأعرقها أثراً منذ القرون الوسطى. وقد نقل إلى كثير من اللغات الأوربية لاسيما اللاتينية والإيطالية والفرنسية، وضعه الإدريسي تلبية لرغبة الملك رودريجو (روجر الثاني 1097 - 1154م) ملك صقلية ونابولي، الذي كلفه بعد دعوته إلى بلاطه وضع هذا الكتاب، وفرغ من تأليفه في منتصف القرن الثاني عشر المسيحي. والمؤلف عالم مغربي من مواليد ثغر سويتا، ذو ثقافة عربية أندلسية وذهن أوربي، وكان في مقدمة الرحالة الجغرافيين الذين جابوا الأقطار، وهو سابق على الرحالة ليفنجستون (1813 - 1873) والرحالة ستانلي (1841 - 1904) وغيرهما من الذين قرروا أنهم كانوا أول من اكتشف منابع النيل، ووضعوا هم ومن سبقهم أسماء ملوكهم وأمرائهم على البحيرات التي رسمها الإدريسي في إحدى خرائطه الفذة (ش2) لسبعة قرون قبل مولد هؤلاء المستكشفين. فبينما ترى بحيرتي فيكتوريا نيانزا (أصلها أوكاريو نيانزا) وألبرت نيانزا (أصلها موتان نزيجا) اللتين تتكونان من المياه المنحدرة من جبال القمر قد تغير اسمها في الجغرافية الحديثة، لا ترى الإدريسي يفكر في إطلاق أسماء بعض خلفاء المسلمين أو أمرائهم على تلك البحيرات التي لا يبعد أن يكون قد رآهما بعينه كما رسمها بيده، وترى نهر النيل بعد تدفقه من تلك البحيرات والتفافه في وادي السودان وعبوره القطر المصري ينصب في البحر الأبيض المتوسط الذي هو جزء من بحر هائل أحاط بالخريطة الشاملة لبقع بيضاء تمثل الجزائر وأشباهها.

وإذا انتقلنا إلى فنون المقاتلة التي كانت ولا تزال شاغلة لأذهان الملوك، نجد سفراً شاملا لطرقها وقواعدها، اسمه كتاب السؤال والأمنية في أعمال الفروسية لمحمد بن زين الدين العثماني، يرجع تاريخ تأليفه إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وهو مزين بتصاوير توضح فصوله. والصورة (ش3) تبين فارسين وقد امتطى كل منهما ظهر جواده وربط ذيل كل منهما بالآخر حتى لا يفترا ولا يبتعدا؛ فيتمكن كل فارس من مبارزة خصمه، ووقف الجوادان على أرض مزروعة ذات زهر، وكان المصور حريصاً على تجميل الخيل وسروجها كما تلاحظ على اللوحة

ومما يثبت نجاح المسلمين في العلوم الفلكية والميكانيكية التي بنى عليها فن التوقيت بالساعات بعد المزاول، ما نراه في الصورة الرابعة المنقولة من كتاب علم الساعات والعمل بها تأليف رضوان ابن محمد الخرساني، والتي تمثل دائرة عليها ساعات النهار الإثنتا عشرة، وساعات الليل نظيرتها في النصف الأعلى من الدائرة حيث ترى قنديلاً معلقاً بسلك رفيع. والى اليسار ثقلان معلقان بسلك آخر، أحدهما توسط ارتفاع الصورة، والآخر قريب من أسفلها، وهما متصلان بالسلك المرتكز على بكرة في الركن الأعلى الأيسر. وعند الثقل الأسفل طيراً كان المقصود منه أن ينقر بمنقاره لتحديد الوقت. أما المجاري الرفيعة التي توسطت الصورة حيث النقط البيضاء المستديرة، فهذه كانت طريقا لأثقال تمر منها في أوقات معينة، مارة بفتحة في رأس الطائر الذي ترى عند قدميه وعاء نصف مستدير لجمع هذه الأثقال

والصورة الخامسة مأخوذة من فصل من كتاب السر الروحاني في علم الكيمياء القديمة الذي يرجع تاريخ تأليفه إلى القرن السابع عشر الميلادي، وكتب فيها السويد في الطبايع في العمل الأول، وبالنظر إليها ترى رأس الغول في الركن الأعلى الأيسر، وهو عبارة عن وجه مستدير لآدمي له عينان واسعتان مستديرتان وأنف أفطس وأسنان فظيعة، والى جانبه عقاب واقف على قوس وآخر على شجرة مثمرة وهو أسود اللون، قال المؤلف: (وقد طار الناس من هذا السواد الأول، وأما الغراب الثاني فمنقاره أحمر)، وفي وسط الصورة على اليسار ترى رجلا قد وقف إلى فرن، ووضع على غطاء أشبه بالقاووق وأمسك بيسراه شيئاً يخيل إلينا أنه بوتقة ليصهر فيها المعادن الخسيسة بقصد تحويلها إلى ذهب، وفي الوسط غراب أسود حالك السواد، وطير مقفص على اليسار. وعند ذيله وعلى يمين الصورة تشاهد حوضاً رقد فيه إنسان بعينين مفتوحتين ورسمت أعضاؤه بكيفية لا تخرج عن طريقة رسم التوصيلات الكهربائية اليوم، وكتب إلى جانب الحوض حمام مارية حيث تسلب روح الإنسان بطريقة السالب والموجب، أما الركن الأيسر فهو مليء بصور الآلات والأدوات إلى جانب الرموز الكيميائية القديمة

ينتج مما تقدم أننا قد اهتدينا بالبحث إلى باب جديد من الفنون الإسلامية تناولناه بشيء مبسط من التسجيل العلمي، لم تشرئب أعناقنا إلى قباب المساجد، ولا إلى رؤوس المآذن، ولا إلى سقف العمائر لنجده، ولكننا وجدناه في الكتب المهملة والكنوز المتروكة، حيث نجد في البحث والتنقيب عن معالم جديدة للحضارة الإسلامية المسجلة عن طريق الفن في مؤلفات المسلمين، الشاملة لعلوم الطب والجراحة والنبات والحيوان مما لا يتسع المجال هنا لذكره وإيضاحه. فإن كتبنا اليوم لنفتتح هذا البحث فإننا نكتب ليكون استهلالاً لسلسلة بحوث تدل على عظمة الحضارة الإسلامية عن طريق التسجيل الفني، مؤملين أن يتناول المسلمون في نهضتهم مؤلفات أجدادهم بتلك الروح التي تناول بها أهل أوربا؛ فيكون لنا بعث وإحياء لا يقلان عن بعث وإحياء أوربا في عصر الرفعة أو ما يمهد السبيل إلى نظيره

أحمد موسى

الحائز على دبلوم الدراسات العليا لتاريخ الفن العام

وإجازة الدراسة الأركيولوجية الإغريقية

ودكتوراه الفلسفة من جامعة برلين