مجلة الرسالة/العدد 242/موت سقراط
مجلة الرسالة/العدد 242/موت سقراط
للشاعر الفرنسي الكبير لامارتين
ترجمة السيد أحمد عيتاني
تذكر لنا الرواية اليونانية أن سقراط حينما حكم عليه بالموت أشار عليه أصدقاؤه بمغادرة أتينا والنجاة بنفسه، فأبى عليهم ذلك، وآثر الموت على الفرار. ولما قدمت إليه كأس السم تجرعها بجرأة ورباطة جأش، ولم يكد يفرغ من تناول ما فيها حتى أجال نظره بين أصحابه، فلمح عبراتهم تتساقط على وجناتهم حزناً عليه، وألماً لما حل به؛ فآلمه هذا المشهد، ووقف في أصدقائه خطيباً وهو في نزاعه الأخير، يشرح لهم الموت ونظرته إليه، ويطلب إليهم أن يكفوا عن البكاء. وقد نظر الشاعر الفرنسي الكبير لامارتين إلى هذه الرواية، فنظم حوادثها في شعر يفيض رقة وعذوبة وجمالا وسلاسة، وجعل عنوانها (موت سقراط). وفيما يلي خطبة سقراط بعد تجرعه السم، وهي من أروع ما جاء في هذه القصيدة الفذة
(أحمد عيتاني)
ماذا؟! أتبكون أيها الأصدقاء؟!
أتبكون وقد تحررت روحي من أثقالها الجسدية الدنيئة
فهي كالبخور تحرقه الكاهنة
على وشك الطيران نحو الآلهة؟!
أتبكون أيها الأصدقاء
حينما ترحب روحي بهذا اليوم الطاهر
الذي كانت تطمح إليه؟!
حينما توشك على السفر في رحله مقدسة
تبحث فيها عن الحقيقة
فتعثر عليها، وتتعرف إليها؟! إذاً علام الحياة إذا لم يكن مصيرنا للموت؟!
علام أحببت الألم في سبيل العدالة؟!
علام كانت نفسي الحبيسة
تقاوم حواسها وميولها الدنيئة العنيفة
أثناء تلك الميتة التي تسمونها الحياة؟!
ماذا عسى تكون الفضيلة بغير الموت أيها الأصدقاء؟!
ذاك ثمن المعركة، ذاك تاج سماوي
يمنحنا إياه حكم زكي في نهاية المرحلة
إن صوت جوبيتر يدعوني إليه
ألا فلنقدسه أيها الأصدقاء
فإني أستمع إليه الآن!
لقد كان بوسعي، لو رغبت في بقية من الأجل
أن أحمل السماء على ترديد ندائها إليّ.
ولكن، لِتحفظني الآلهة من هذا!
فأنا حين تدعوني إليها أُلبيها عبداً مطيعاً!
وأنتم أيها الأصدقاء: إذا كنتم تحبونني
فأريقوا على رؤوسكم العطور،
شأنكم في أبهج أعيادكم،
وعلقوا على حائط سجني قرباناً،
ثم خذوا بيدي نحو ذراعي الموت،
وقد توجتم جباهكم بأطواق الرياحين
كما يؤخذ بيد العريس الشاب إلى سرير زفافه،
وقد أخذت الجموع المتدافعة
تنثر أمامه الأزهار، أمام عتبة عروسه!
وبعد، فما الموت؟ إن هو إلا تحطيم هذه العقدة الدنسة؛ إن هو إلا فسخ هذه الاقتران الشائن بين الروح والأرض؛
إن هو إلا إزاحة عبءٍ ثقيل نرمي به في القبر!
إن الموت انتقال أيها الأصدقاء، وليس فناء!
والإنسان مادام رازحاً تحت هذا الجسد المقيد به
يزحف بعناء عظيم نحو الخير الحق.
ومادامت رغباته السافلة تقطع عليه هذا المسير
فسيسير وراء الحقيقة بخطوات راجفة، وربما أضاعها أيضاً!
ألا إن من يصل إلى آخر حياته التي يرجوها
ويبدو له شعاع فجر يومه الأبدي
ليعودُ ثانية نحو السماء، وكأنه شعاع من أشعة المساء!
ويرتدُّ ثانية إلى جوار الآلهة، بعدما أُقصى عنها
حيث يحتسي بشَرهٍ ذلك الرحيق المسكر
ويبدأ حياته من ذلك اليوم الذي يقضي فيه!
ألا إن الموت ألم، والألم شر أيها الأصدقاء!
ولكن ما يدرينا ذلك؟!
ولو كانت ساعة الموت الرهيبة
ساعةً يتألم فيها جسمنا الفاني
كما تتألم الضحية الذبيحة
أو ليس عن الشر يصدر كل الخير؟!
إن الشتاء ليتمخض عن الصيف، وإن الليل لينكشف عن النهار!
لقد وضع الله تعالى بنفسه هذه السلسلة،
ونحن، وقد جئنا إلى هذه الحياة على الرغم منا؛
فليست هذه الميتة الهانئة التي يرهبها ضعاف النفوس
إلا ابتداء حياتنا في العالم الخالد!
ولكن، أيكفي أن نموت لنبعث ثانية؟! لا! بل يجب أن نحرر أنفسنا من نير حواسنا
ونعملَ لنصرتها على ميولنا الفانية!
يجب أن تكون حياتنا هذه موتاً طويلاً!
إن حياتنا معركة، والموت انتصار لنا فيها!
إن الأرض لدار يطهر فيها الإنسان نفسه؛
فعليه، وهو فيها على عتبة الموت قد تجرد عن حواسه،
أن يقذف إلى النار بثوبه المدنس
قبل أن يتقدم بروحه، ضحيةً طاهرةً
إلى الآلهة الزكية في الدار الصالحة!
إنهم (الأشخاص الصالحين) يلحقون بالأبطال والآلهة لدى الإشارة الأولى!
يلحقون بهم في السماء حيث لا يوجد موت!
إنهم يلحقون بهؤلاء الذين دمروا شهواتهم إبان حياتهم القصيرة
فأخضعوا المادة للعقل وأذلوها له.
هؤلاء الذين خضعوا للشرائع والقانون،
وأصغوا إلى صوت ضميرهم الداخلي،
واتبعوا طريقاً سوياً بعيداً عن الناس،
وخدموا الآلهة وعبدوها، وفي ذلك أصل الفضيلة،
وأحبوا الحقيقة، وتألموا للفضيلة،
فاستعادوا حريتهم من الآلهة ابنة السماء
أحمد محمد عيتاني
عضو بعثة جمعية المقاصد في معهد التربية