مجلة الرسالة/العدد 242/فلسفة التربية
مجلة الرسالة/العدد 242/فلسفة التربية
كما يراها فلاسفة الغرب
الناحيتان الاجتماعية والنفسية
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 10 -
(لا يعيش المرء بالخبز وحده)
(الإنجيل)
(إن عقل الرجل ليضيق، وإن مشاعره إزاء غايات الإنسانية لتتحجر إذا ما قصر فكره على الحشرات، أو المعادلات الجبرية، أو تدبيب أسنان الدبابيس!)
(جون ستيوارت مل)
(لا كمال إلا باتحاد الجهد والشوق، وهنا يكون المرء سابحا (مع) التيار؛ أما الشوق دون ما جهد فطفو فوق التيار، كما أن الجهد دون ما شوق سباحة ضد التيار)
(هورن)
رأيت في المقال الآنف ما تستطيع أن تستفيده التربية من علمي الحياة ووظائف الأعضاء. وسترى اليوم فائدتها بالمثل من علمي النفس والاجتماع
الناحية الاجتماعية
وتتلو هذه الناحية ناحية الفسيولوجيا. والتربية هنا هي الأسلوب الذي يجعل الفرد مشاركا في حياة الجنس، ويعنى بعلاقته مع غيره من أعضاء الجماعة ومثلهم العليا. وعناصر هذه الناحية ثلاثة: الإدراك والوجدان والنزوع، أي الحق والجمال والخير.
1 - أما (الحق) فسبيله (العقل) الذي يبدأ بالمحسوس وينتهي بالمعقول، والذي تشمل علومه (الموضوعيات) و (الذاتيات) على السواء. وتعرفنا هذه (العلوم) بالعالم وتشجعنا على البحث وتحررنا من الأوهام. فدراسة الطبيعة مثلا تقوي فينا (الملاحظة) و (الاستقراء) وبعد (النظر) و (التجويد)، وتمكننا من السيطرة على القوى الطبيعية، وتنتهي بنا إلى فكرة (الوحدة) التي يندمج فيها الكون كله. ودراسة الرياضة تعطينا كما يقول المسيو فكرة واضحة عن (القياس)، وتنتهي بتفكيرنا إلى نتائج مؤكدة، وتبث فينا احترام الحق، وتقدم لنا أكبر أداة للبحث الدقيق في علوم الطبيعة. أما الفلسفة والأخلاق واللغة والفن والدين فقيمتها جميعاً عظيمة إلى أبعد حد وإن خلت من النفع المحسوس كما يتهكم دعاة (الخبز)!؛ ألم يقل الإنجيل (لا يعيش المرء بالخبز وحده)؟ أو لا ترتفع هذه العلوم بالمرء إلى عليين وتجعله فوق البشر؟
2 - وأما (الجمال) فسبيله العاطفة ويشمل الفن والدين. والجمال المحسوس وحدة تسيطر على كثرة، وتبدو في مادة تجسم معنى. وأرقى الفنون هو (الأدب)، وأرقى ما في الأدب (الشعر)، والعلاقة بين الفلسفة والأدب هي أن هذا يعبر عن الحياة بالإلهام، وتلك تعبر عنه بالمنطق؛ كما أن العلاقة بين الفن والدين هي أن هذا تعبير عن الشعور إزاء الشيء الإلهي، وذلك تعبير عنه إزاء الشيء الجميل. هذا وقيمة الفنون في التربية عظيمة بحيث لا سبيل إلى إغفالها. أليس الإحساس بالجمال أمتع شعور يستطيع أن ينعم به العقل؟ أو لا يمدنا ذلك الإحساس بقوة سامية تعيننا على الرفعة في الحياة؟ أو لم يعترف (دارون) بطل التاريخ الطبيعي المشهور في مذكراته الخاصة: أن انكبابه على (العلم البحت) قد افقده لذة ذلك الشعور العظيم بالجمال؟ أو لم يصرح بأنه لو ارتد صغيراً لأخذ نفسه كل يوم بترتيل قصيدة من الشعر، وسماع لحن من الموسيقى، ورؤية آية من آيات الفن لئلا يفقد على مر الزمن أسمى شعور بالسعادة يتاح للإنسان؟ وكذلك قيمة الدين في التربية عظيمة ولاسيما في هذا العهد المادي الجشع الذي يملأ الإنسان عتواً وغروراً. ذلك أن الشعور الأساسي في الدين هو الضعف والاعتماد، ويؤدي ذلك بنا إلى الإحساس (بالجوهر الخال) في أمثل صوره وأعظمها، وإلى الفناء فيه والرضا بقضائه وقدره فيسهل علينا احتمال الحياة، ونقدم على الكفاح فيها بقوة وبأس وإقدام. ولكن لما كانت دراسة الدين في المدارس تؤدي أحياناً إلى نزعات وعصبيات طائفية، فإن الأمل في (المعلم) وفي لباقته وحسن منزعه لم يزل كبيراً. ذلك أنه يستطيع أن يكون أمام التلاميذ (نبياً) لا شيخاً ولا حاخاماً ولا مطراناً!
3 - وأما (الخير) فسبيله (الإرادة) ويشمل الأخلاق والقانون والنظم والدساتير والتاريخ.
ويرى (هيجل) أن هذا الأخير (التاريخ) (هو النحو الذي يكافح به الحق على مسرح الحياة، والذي تحقق به إرادة الإنسان إرادة الله)؛ أما الدساتير فهي إرادة الأمة ممثلة في وثيقة، وأما القوانين فهي إرادة الجماعة فيما يخص خيرها العام، وأما الأخلاق فهي كلمة الضمير فيما يخص قدر الإنسان وأعماله مع الناس، ومجال الحرية فيها أفسح وأسمى من مجال القانون. . . وقيمة هذه العلوم في التربية عظيمة أيضاً، إذ بها يعلم الناشئ مركزه في الجماعة ويدرك أنه غاية ووسيلة معاً، كما أنه يستمد من التاريخ ملكة الحكم الصحيح ويملأ ذاكرته وخياله بحوادث فريدة ومثل عليا وبطولات فذة؛ وهذا وغيره يجعله عضواً اجتماعياً يفهم ما له وما عليه، ويصدر أحكامه الخلقية والدستورية على المواقف المعقدة التي تعرض له فلا يكون مجرد (إمعة) يصفق لكل متكلم، ويتشيع لكل كاتب، ويعبد ما لا يستحق أن يعبد، ويتغير ويتحول بهبوب العواصف الطبيعية أو المصطنعة. . .! كما أنه يجعله طامحاً أبداً إلى أن يكون بطلاً هو أيضاً، فيقف موقف الجهاد الذي وقفه (وشنطن)، أو يصرخ صرخة الحق التي صرخها (سعد زغلول)!
وأما فائدة الجماعة ذاتها من التربية فلا تكاد تقدر - إذ هي تحفظ لها (الماضي) وتصونه كالحارس الأمين كيما تستطيع الأجيال أن تبني عليه لتعليه، وهي تصون الحاضر وتسعد أهله وتقوي الرأي العام كما قال الزعيم وشنطن، وتحرر الناس وتضمن لهم حكومة صالحة. ثم هي تمحو الإجرام أو تقلله بفضل تنميتها للشعور والإرادة والمسئولية، وبفضل تحويلها النزعات الشاذة إلى نواح أخرى صالحة، وتقويتها الشعور ضد الإجرام. يقول الأستاذ (فالكنر) إن الإجرام يقل في الأمم المتمدنة من حيث معناه الأدبي، فإن وجد بعد ذلك إجرام بالمعنى القانوني فإنما مرجعه ظروف أخرى تقتضي الإصلاح والتعديل؛ وأخيراً تضمن التربية مستقبل الجماعة إلى حد كبير. أليس الإبقاء على الماضي الجدير بالإبقاء تحسيناً للمستقبل؟ أو لا يزيد امتلاكنا للطبيعة كل يوم بفضل ما ندخله على الماضي من تحسين؟ أو لا توجد علوم الطبيعة عملاً لملايين العمال؟ أو لا تخرج لنا أولئك العلماء الأفذاذ يخضعون البحر والجبل والهواء لإرادتنا؟ ثم إذا كانت التربية لا تخلق عبقرية الفنان أو العالم أو الفيلسوف أفليست تصيدها بشبكتها المحكمة؟ أو ليست تمدها بمادة الأزهار والإيناع؟ وإذاً فالتربية في هذه الناحية الاجتماعية، كما يقول الأستاذ هورن: (هي أحسن وسيلة للملاءمة بين الفرد وبين البيئة العقلية والعاطفية والإرادية)
الناحية النفسية
وأما هذه الناحية فتبحث في طبيعة النشاط العقلي، وفي نوع النمو العقلي، وفي صفات العقل النامي:
1 - فمن حيث طبيعة النشاط العقلي: يرى الجميع أن العقل أساس الإدراك والوجدان والنزوع، وأنه لا ينمو بغير عمل كما هو الشأن في كل شيء، وأنه مرتبط في نموه بنمو الجهاز العصبي وبدرجة احتكاكه بالوسط حوله، وأنه يحتاج فيما يتعرض له من تقليد وشوق وجهد إلى رعاية حتى يكون نموه كاملاً. فمثلاً يجب أن يرى الطفل مثلاً حسنة يقلدها، ويجب أن تكون المدرسة آية في النظافة والنظام والجاذبية والجمال حتى يرتاح إليها ويعمل بتعاليمها، ويجب أن تكون شخصية المدرس قوية تحمل النشء على احترامها وحبها والأخذ منها، هذا من حيث التقليد الذي هو إعلان للنفس يؤدي إلى الاستقلال
أما من حيث الشوق فيجب أن يكون موضوع الدراسة مثيراً لرغبة الطفل وحافزاً لاهتمامه، لأن ذلك كما يرى الأستاذ (شيرمان) أهم كلمة في التعليم. وأضمن سبيل لإثارة الشوق هو المدرس نفسه إذا كان محباً لمهنته ومتحمساً لمادته. وأما من حيث الجهد - وهو ما يبذله المرء في عمل لا يساير شعوره - فيجب - لتقويته - غرس الآمال العذبة البعيدة في نفوس الناشئين، ويجب تعويدهم مخالفة أهوائهم في أمور طفيفة كل يوم حتى تكون لديهم المناعة الكافية ضد كل إغراء دنيء. ويجب التوفيق بين الشوق نفسه والجهد بحيث يصبح الأول كالنسيم الذي يهب على سفينة حياتنا أحيانا، ثم ينحرف عنها أحياناً أخرى، فيقوم لنا الجهد حينئذ مقام المجاديف التي توصلنا إلى البر سالمين، ولنعتقد أبداً أن الكمال كائن في اتحاد الشوق والمجهود حتى يكون المرء سابحاً (مع) التيار لا فوقه ولا ضده. . .
2 - وأما من حيث نوع النمو العقلي فقد أثبت علم النفس أن هناك مراحل تجب رعايتها في حلقات التربية والتعليم حتى يكون النمو سليما. فالطفولة مثلاً تمتاز باللذة والألم وتزعزع الإرادة. وإذاً فلتكن التربية هنا حسية بحتة كثيرة التسامح واللعب. وفي الشباب الباكر تنمو الصداقة والحب، والطموح وروح الاجتماع، وإحساس الخير والجمال، كما تتذبذب الأخلاق وتسود العاطفة. وإذاً فلتكن الدراسة هنا مليئة بالتاريخ الطبيعي، والسياسي، وبالقصص السامي، وبكل ما يؤدي إلى سرعة الحكم ودقته، وإلى كل ما يتسامى بالعواطف والغرائز ويغرس روح المحبة والتعاون، ويرشد الناشئ إلى كيفية حماية نفسه مما يتعرض له من عادات سرية وسقوط خلقي وانهيار جنسي. . . (وإن كان لا يزال هناك من يعتقد أن التحدث في مثل ذلك للشبان وقاحة وفسق. .!!)؛ وفي الشباب المتأخر تتمركز الشخصية ويستقر العقل وتسود الوحدة. وإذاً فلتكن الدراسة هنا مرتقية إلى نظرات كلية جامعة لقوانين الوجود العامة. . . ويتلخص هذا كله في أن الطفل (يرى)، والشاب الباكر (يفهم)، والشاب المتأخر (يتأمل ويحكم)
3 - بقيت صفات العقل النامي، ويمكن إيجازها في أن التعليم نشاط وخلق لا تسلم وقبول، وتأمل وتفكير لا وعي وحفظ، وقوة معرفة أكثر منه معرفة فحسب: حواس مرهفة، وعقل واسع المدى راغب في المعرفة بريء الاتجاه؛ وحب للحق المجرد عن التدجيل والتهويش؛ ومعرفة بالعالم لا تترك شيئاً فيه خرافياً، وإحاطة بالنفس بعد الإحاطة بالعالم؛ وخيال يقدم الفروض للعلم والإبداع للفن، والإحياء للتاريخ؛ وحكم مدرب حصيف عام النظرة منطقي الخطوات؛ وذوق جميل مهذب يدمج الإنسان في الكون ويجعله جميلا في كل شيء؛ وشعور أخلاقي راق يدرك الخير والشر، ويحكم على الخير والشر، ويلوح بساعد الإدارة القوية أمام كل إغراء حقير؛ وحب للعمل وتلذذ به؛ وإحساس بالسعادة يمتلك قوى الشخص جميعاً ويجعله يعيش هانئاً مطمئناً حي الضمير حر الإرادة جريء الجنان؛ واتفاق مع السماء واطمئنان للنهاية المحتومة التي تنقلنا من عالم ناقص إلى عالم كامل. هذا إلى تواضع نزيه، وعشق لأحسن ما في الحياة كله حماس؛ ووفاق تام مع النفس لا يترك في الشخص أدنى نزاع؛ وتعليم للغير هو رسالة النور تبدد ظلام الحياة؛ وحياة تفني النفس في الكون لا الكون في النفس، ولا تشغل المهندس أو الطبيب عن نواحي العيش الأخرى بما فيها من خير وجمال. . .
يقول (هكسلي): (للرجل المثقف جسم خاضع لإرادته، وعقل صاف متئد القوى سهل العمل مليء بما في الطبيعة من حق عظيم وقوانين كلية. هذا إلى امتلاء بالحياة المنسجمة الخادمة لضميره الحي، وإلى حب للجمال وكره للقبح، وإلى احترام للنفس وللناس، وإلى وفاق تام مع الطبيعة يفيدها فيه ويستفيد منها، ويسير معها كوزيرها أو ترجمانها وهي كأمه الحنون)
وتكون التربية هنا هي (الملاءمة بين الرجل التام النمو الجسمي والعقلي، وبين بيئته العقلية والعاطفية والإرادية)
إمكان التربية
بقيت كلمة صغيرة نختم بها هذا البحث الذي مهدنا به لنقد التربية في مصر، وهي كيف تفسر الفلسفة إمكان التربية من الناحية الميتافيزيكية؟ يقول (كانت) في كتابه عن التربية: (إذا تدخل مخلوق أرقى منا في تربيتنا فلسوف نرى إلى أي مستوى يبلغ الإنسان، وإن الإنسان لا يصير إلى ما يستطيع أن يكونه إلا بالتربية. كما تسأل: أين هي النفوس التي فطرها الطبع على الشر حتى تبقى مستعصية على حزم أم رحيمة وسلطة أب محب؟). فترى هل يقوى المدرس حقّاً على التأثير في الناشئ، أو بالأحرى هل الإنسان (حر) حتى تصلحه التربية؟ أما العلم فيقول (بجبرية) المادة وباعتماد العقل - وهو أساس التربية - على (مادة المخ). . . فكيف إذاً نستطيع تغييره؟ ينقدنا الأستاذ (هيزنبرج) فيقول: (إن (جبرية) المادة نفسها موضع شك لأنا لا نستطيع التنبؤ بحالة (الأتوم) المستقبلة إلا بمعرفة مركزه وسرعته في لحظة واحدة. وذلك محال. . . ومع كل فهاهو الإنسان قد خلق لنفسه دنيا واسعة عريضة من التأمل، وسما بخلقه وتطور وتغير، وخرج على ما قد خالوه (قانوناً)، مما يثبت أنه (حر) بالفعل. وإذا قال قائل: إن العالم يسير وراء (غاية) خفية، وإن الإنسان كجزء منه مضطر أن يحقق (مجبوراً) هذه الغاية؟ سألنا: وهل تمنع (حريته) من تحقيق الغاية الكبرى إذا كانت هذه الحرية محدودة بحدودها الخاصة؟ إن القول بالغائية والجبرية الضيقتين يجعل الإنسان مجرد ألعوبة، ومسئوليته الخلقية مجرد تناقض محزن. يقول برجسن في كتابه: (الحرية تجربة راسخة وإن كان الفكر ينكرها)
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرسة الفلسفة بالمدارس الثانوية الأميرية
يسرني أن أسجل هنا شكري (للرسالة) الغراء على تكرمها بإفساح صدرها لهذا البحث المتواضع، وأعدها وأعد القراء
الكرام بتطبيق الحقائق الآنفة على التربية في مصر ابتداء من
العدد القادم إن شاء الله، وأرجو كل من يريد أن يتكرم عليّ
بملاحظة ما أن يكتب إليّ على مدرسة شبرا الثانوية الأميرية
للبنين