مجلة الرسالة/العدد 238/زفاف بوران إلى المأمون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 238/زفاف بوران إلى المأمون

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 01 - 1938



للأستاذ محمد طه الحاجري

سرى الخبر في بغداد أن أمير المؤمنين المأمون قد أزمع البناء على بوران بنت الحسن بن سهل. ولقد طالما كان البغداديون يتنظرون هذا الخبر، ويستشرفون له، ويمنون أنفسهم بمظاهر الفرح الشامل، والطرب الكامل، تغمر الجو من حولهم، ويتجردون فيها من همومهم، ويمسحون بها على ما بقي من آثار الفتن الماضية في ذكرياتهم. فما إن انبعث ذلك الخبر حتى سرى في بغداد كلها، وأصبح حديث القوم الشهي إلى أنفسهم، الحظي عند أخيلتهم، وانتشر في المدينة جو من السعادة والغبطة جدير ببغداد الطروب

ثم علم القوم أن أمير المؤمنين قد أجمع على أن يتم على الحسن تكرمته، ويبالغ في ملاطفته، فيجعل الزفاف في بيته؛ وأنه منحدر في دجلة إلى ضيعته في (فم الصِّلح) حيث يقيم؛ فتهيأت بذلك الفرصة السعيدة لنفوسهم المرحة، فأخذ كثير من فتيان بغداد وسرواتها يعدون العدة للخروج في موكب الخليفة. فما جاء موعد الخروج حتى كانت دجلة تموج بالسفائن والزوارق من شتى الأشكال، وقد ركبها ألفاف من الناس من مختلف الطبقات: فهؤلاء من أهل اليسار والنعمة، قد نضدت لهم الفرُش، ووفرت لهم أسباب الترف، ووسائل الطرب، من قيان مثقفات، ودفوف وعيدان، وما إلى ذلك. وأولئك من أهل الحرفة، فهم يلتمسون النجعة، ويرجون التوسعة، ويأملون أن ينا لهم من ذلك الفيض الفياض ما تثلج له صدورهمثم نزل المأمون من قصر الخلافة، وحوله أصفياؤه وأصحابه إلى السفينة المعدة له، واتخذ مكانه فيها. وسارت السفينة جنوباً تتهادى في سيرها، ومن ورائها تلك السفن والزوارق، تنطلق منها نغمات العيدان، وأصوات القيان، حتى امتلأ جو دجلة مرحاً ونشوة

وكان يسير بازاء ذلك الموكب النهري الجميل الذي يمثل النزعة الفنية البغدادية، موكب رائع رهيب يمثل القوة العسكرية العباسية، يتألف من قواد الدولة وأجنادها، وقد ركبوا خيلهم وأخذوا سلاحهم وارتدوا أروع ثيابهم؛ وسار على رأسهم العباس ابن المأمون؛ وهكذا أخذ الخليفة طريقه إلى دار صهره.

وكان الحسن بن سهل قد ترك بغداد فراراً بأعصابه الرقيقة من زحمتها العنيفة، وأبعد في جنوبها حيث يطيب الهواء ويسود الهدوء؛ فأتخذ له قصراً ومعسكراً في بقعة هادئة جميلة، عند (فم الصِّلح) إلى شرقي دجلة: يشرف عليه الجبل من شرقيه، وتجري دجلة إلى غربيه، وينساب نهر الصِّلح في شماله، وتضطرد من حوله الكروم والبساتين، وتنفح عليه الأزهار والرياحين.

ولما علم الرجل أن أمير المؤمنين قد أزمع تشريفه في داره للبناء على ابنته استطار فرحاً؛ ثم ما لبث ذلك الفرح أن أخذ يعبر عن نفسه تعبيرات فنية رائعة تجلت في قصره الذي أخذ يتأنق في تزيينه، حتى صار فتنة للناظرين، ويبالغ في تأثيثه، ليكون جديراً باستقبال الخليفة فيه. وكان مزاجه الشعري يملي عليه بعض الصور الشعرية الرائعة التي كان يخترعها الخيال الفارسي المترف، والتي كانت موضع الإعجاب في ذلك العصر، فيسرف في تمثيلها، ويتأنق في تصويرها، كتلك الصورة التي اخترعها الحسن بن هانئ، وافتتن بها أهل عصره:

كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب

فلم يأل في ذلك جهداً؛ ففرش القاعة الكبرى التي أعدها لاستقبال المأمون ببساط نسيجه من خيوط الذهب، وقد تناثرت فوقه حبات اللؤلؤ؛ وهو يتألق ويمج الأشعة في أضواء الشموع، وأي شموع! إنها شموع مصنوعة من العنبر، تسطع بالنور وتنفح بالعطر؛ فجعل كل ذلك يبعث في القاعة جواً سحرياً أخاذاً، تسبح به الروح في أحلامها، وكأنما نرى فيه صورة من الجنة وأخيلتها.

وأما الطريق ما بين القصر ودجلة فقد مهد وحف بماء شاء الخيال المترف أن يحف به من زينة أخاذة. وقد أقام الحسن في طرفه على شاطئ النهر جوسقاً جميلاً، نضدت فيه الفرش، وأعد لاستقبال العباس بن أمير المؤمنين. وكان الحسن في ذلك اليوم الموعود جالساً في ذلك الجوسق ينتظر، حتى وصل الموكب العسكري يقدم موكب الخليفة، فاستقبله الحسن وإن وجهه ليطفح بشراً، ثم مضى به إلى القصر، ولم يمض قليل حتى وقفت سفينة الخليفة على باب الحسن في نهر الصلح، فقام إليه الرجل وهو لا يكاد يكاتم سروره بما أفاء عليه الخليفة من شرف يقصر عنه كل شرف، بزواجه ابنته، وتشريفه بيته

وأمضى المأمون ليلته في سمر وطرب، وكانت (فم الصِّلح) تموج بالوافدين عليها من أهل الدساكر والقرى ممن جاءوا يشهدون المهرجان العظيم، فضلاً عمن كانوا في موكب الخليفة من البغداديين بين أصوات المزاهر والقيان تشق أجواز الجو، وتملؤه بأسمى مظاهر البهجة والهناءة. وقد شاء المأمون أن يمد في أسباب الفرح لهذه الأسرة، وأن يربط بين القلوب فيها، فأمضى في الليلة التالية زواج محمد بن الحسن بن سهل بابنة عمه العباسة بنت الفضل

فلما كانت الليلة الثالثة كان زفاف بوران إلى المأمون. وكان زفافاً اقترن بمظاهر النبل العربي والترف الفارسي؛ واجتمعت لديه عظمة المأمون وكرم الحسن، وكان مبعث بركة على الأسرة العباسية وعلى رجالات الدولة، وعلى أهل الحرفة، وذوي البؤس والمسكنة

فقد ذكروا أن المأمون أذن في هذه الليلة للسيدة زبيدة أن تؤدي حجها، وكانت ممنوعة منه، وكان هذا المنع أثراً من آثار الفتنة التي كانت قائمة بين المأمون وابنها الأمين

كما عفا عن إبراهيم بن المهدي، وكان أسيراً لديه، بعد الثورة التي ثارها عليه، محاولاً انتزاع الخلافة لنفسه؛ ثم خلع عليه، وقلده سيفه، ورد إليه ماله ورفع مكانه، وأتاح للأدب العربي أن يظفر بأمتع ما قاله شاعر في الشكر العميق والاعتراف بالجميل

وهكذا مسح على قلوب أسرته فشفى جراحها، واستل ما كان قد بقي عليه من حفائظ فيها. وما أمجده عملاً إنسانياً كان ذلك الزواج الإنساني النبيل مثاره ومبعث خيره

وأما الحسن فقد كان مضرب المثل في الحفاوة والترف فقد بالغ في ذلك مبالغة الرجل يرى كل شيء من ذلك قليلاً في جانب ما يشعر به، وما يحسب أنه قد ناله؛ فاستوقف أنظار الناس بإسرافه، حتى أصبح موضع أحاديثهم، ومثار عجبهم وتعجيبهم، ومن صور ذلك الإسراف شمعة عنبر أوقدها ليلة الزفاف، تزن أربعين مناً، أي ثمانين رطلاً أو تزيد، وقد أقامها في (تَوْر) من الذهب، مبالغة في السرف، حتى لم يفت المأمون فيما قالوا أن يلاحظ هذا ويأخذه عليهم. وحسبك هذا المثل وما تقدم لتتصور مقدار ما بلغ إليه الترف في هذا الزفاف البديع

كما أقام الولائم الفخمة لكل من كان هنالك من قواده وعساكره، ورجال المأمون وحاشيته، ثم تلك الجموع الحاشدة التي اجتمعت للمشاركة في الفرح، والتي يكفي للدلالة عليها أن نذكر أن طائفة الملاحين فيها كانت تبلغ نيفاً وثلاثين ألفاً، وقد ظل كل يوم يجددها ويفتن فيها، وقد أحاطها بكل مظاهر الجمال والفرح، كما كان لا يفتأ يخلع على القوم شتى الخلع، حتى عاد المأمون إلى بغداد بعد أن قضى هنالك سبعة عشر يوماً، كان مبلغ ما أنفق فيها على ما يقول الطبري وابن الطقطقي وغيرهما خمسين مليوناً من الدراهم

أما هباته في تلك المناسبة السعيدة، على القواد ومن إليهم من أمراء الهاشميين، فقد كانت بدعاً في أسلوبها ومقاديرها، غاية في الكرم والأريحية، تضمن لأصحابها الثراء الدائم، فقد كتب رقاعاً بأسماء طائفة من ضياعه، ثم وضعها في بطاطيخ من العنبر، ونثرها عليهم، فكل من وقعت في يده رقعة باسم ضيعة بعث فتسلمها، ملكاً خالصاً له، وتذكاراً بليغ الأثر في حياته لذلك الزواج الميمون

وحين أزمع المأمون المسير بزوجه إلى بغداد بعث إليه بعشرة ملايين درهم، فما حملت إليه حتى ثارت به أريحيته فأخذ يغدقها في قواده وأصحابه، وخدمه وحشمه، ثم مضى مع الخليفة يشيعه وعاد بعدها إلى داره قرير العين مطمئن الضمير

وأما بوران فقد مضت مع زوجها العظيم ونزلت دار الملك والخلافة، فكانت درته اللامعة، بجمالها الفتان، وذوقها المرهف وذكائها الوقاد، ومعرفتها الواسعة، وأدبها العظيم

ولقد ظل زواج المأمون ببوران غرة في التاريخ الإسلامي، بما قام عليه من أشرف معاني الوفاء والرعاية، وما اقترن به من أعظم مظاهر النبل، وأبهر دلائل الكرم والأريحية

محمد طه الحاجري