مجلة الرسالة/العدد 237/أناشيد صوفية
مجلة الرسالة/العدد 237/أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 72 -
إنني أبرأ من الاستسلام، وأنا أستشعر الحرية تحوطني في لذة وطرب.
وأنت - دائماً - تفرغ في كأسي من رحيقك العطر ذي الألوان رشفةً سائغة، فتفعم هذا الإناء الأرضي.
إن دنياي ستشعل من نورك مصابيحها العديدة، وتضعها أمام محراب معبدك.
لا، لن أغلق أبواب حواسي، فإن لذاذات البصر والسمع واللمس تحمل في ثناياها نشوة منك.
نعم، إن أوهامي ستتحرّق في شعلة من مرح، وإن رغباتي ستتفتح عن ثمرة من حب.
- 73 -
لقد خبا ضوء النهار وانتشرت عتمة الغسق على الأرض، وآن لي أن أنطلق إلى الغدير لأملأ جرّتي.
ونسمات الليل تشجيها موسيقا الموج الحزينة. آه، إنها تناديني لأندفع في أضعاف الظلماء، وما في الطريق الموحش من عابر سبيل، والريح تزف زفيفاً، وصوت خرير الموج يتصاعد هائجاً من جوف النهر.
لست أدري إذا كنت سأعود إلى الدار؛ ولست أدري من عساي أن ألقى على الطريق. إن هناك في القارب الذي يرسو في الناحية الضحلة من النهر، رجلاً مجهولاً يعزف على قيثاره.
- 74 -
إن آلاءك تفيض علينا فتسد مآربنا، ثم ترتد إليك وما نقصت شيئاً.
فالنهر يجد كل يوم عملاً، وهو يندفع إلى الغاية بين الحقول والقرى، ولكن مجراه المستمر يهفو نحو قدميك ليغسلهما.
والزهر يتأرّج فيملأ الهواء عطراً شذيّاً، غير أن غايته إن يقدم نفسه إليك.
إن الاندفاع في عبادتك لن يجدب العالم.
ومن نفثات الشعراء خذ ما يحلو لهم، ولكنك ما تزال غرضهم الاسمي الذي إليه يشيرون.
- 75 -
وعلى مر الأيام، أفتسمح لي - يا إله الحياة - أن أقف بازائك وجهاً لوجه؟ وفي خضوعي وذلتي، أفأقف بازائك - يا إله الكون - وجهاً لوجه؟
وتحت سمائك العظيمة، في وجدتي وسكوني وذلة قلبي، أفأقف بازائك وجهاً لوجه؟
وفي دنياك الصاخبة وهي تضطرب بالكد والتناحر، وبين الزمر المتدافعة، أفأقف بازائك وجهاً لوجه؟
وحين ينتهي عملي في هذه الدنيا أفأقف - يا ملك الملوك - وحيداً صامتاً وجهاً لوجه؟
- 76 -
لقد عرفتك إلهاً لي ثم تنحيت جانباً. . . فأنا لم أعرفك أخاً فأندفع إليك، ولا أباً فأنحني أمام قدميك، ولا صديقاً فأشد على يديك.
ولم أقف حيث أراك تهبط فتهدي نفسك إلي، فأضمك إلى صدري وأتخذك رفيقاً.
إنك أخ بين أخوتي غير أني لا أعيرهم انتباهاً، فأنا لا أقسم بينكم حبي، ولكني أخصك بجميع قلبي.
في حالي نعيمي وبؤسي لا أسكن إلى رجل بل أعتمد عليك أنت. إنني لأنزوي وفي نفسي أن أنزع عني ثوب الحياة لأنني لا أريد أن أغتمر في خضمها.
- 77 -
في بدء الكون، والكواكب تسطع - أول ما سطعت - في تألق، اجتمع الآلهة في السماء، وانطلقوا يغنون (أوه، ما أجمل صورة الكمال! ما ألذ الطرب المحض!).
وعلى حين فجأة دوّى صوت من بينهم (إنه ليخيل إليّ أن هناك نقصاً. إن إحدى حلقات الضوء مفقودة؛ إن كوكباً قد ضاع!).
فانقطع وتر القيثارة الذهبي، وأمسكوا جميعاً عن الغناء؛ ثم صاحوا في فزع (نعم، إن الكوكب المفقود أشد الكواكب لمعاناً، لقد كان زينة السماء!).
وراحوا - منذ ذلك الحين - يفتشون عنه في دأب ونشاط، وغمرتهم الصيحة، ففقدت الدنيا - في ثناياها - بهجتها الوحيدة!
وفي هدأة الليل وسكونه تبادلت الكواكب الابتسامات والهمسات (عبثاً تفتشون! إن الكمال التام فوق كل شيء!).
- 78 -
ليست غاية جهدي أن ألقاك على الأرض، فإذا أريد أن أستشعر - دائماً - فقد النظر إليك. . . ولكن لا تمح ذكراك من قلبي لحظة واحدة، ثم ذرني أحمل آلام الحزن لفقدك في غفلتي وفي يقظتي.
وحين أقضي أيامي بين الحشد في سوق الحياة فتمتلئ يداي بالكسب، استلبني من نشوة الربح؛ ولا تمح ذكراك من قلبي لحظة واحدة، ثم ذرني أحمل آلام الحزن لفقدك في غفلتي وفي يقظتي.
وحين أجلس على جانب الطريق أستجم من أثر الأين والبُهر، فأنشر فراشي على الثرى؛ ألقِ في روعي أن رحلتي ما تزال طويلة؛ ولا تمح ذكراك من قلبي لحظة واحدة، ثم ذرني أحمل آلام الحزن لفقدك في غفلتي وفي يقظتي.
وحين تتزيّن حجراتي وتتصاعد أنغام القيثارة وترتفع رنات الضحك، دعني أشعر كأنني لم أدعك إلى داري. . . ولا تمح ذكراك من قلبي لحظة واحدة، ثم ذرني أحمل آلام الحزن لفقدك في غفلتي وفي يقظتي.
- 79 -
أنا كأنني نُثار سحابة خريف تضطرب عبثاً في أرجاء السماء؛ آه، إن شمسي دائماً تتألق! إن لمساتك لم تحولني إلى بخار فأكون شعاعاً منك يحصي عدد الشهور والسنين التي تنفصل عنك.
وإذا كانت تلك إرادتك، وهذه هي غايتك، فاجذب إليك حطامي المنقض، واصبغه بالألوان وزينه بالذهب، ثم أرسله بين هوج الرياح ليبدو في فنون أخَّاذة.
وإذا كانت مشيئتك أن تنتهي من عملك والليل ساج، فسأذوب وأتلاشى بين أضعاف الظلام، أو في بسمة الصباح اللامع. . . في الصفاء والنقاوة.
- 80 -
في أوقات الفراغ آسى أنا على أيامي الضائعة، ولكنها - يا إلهي - لم تضع، فأنت قد بسطت يديك على كل ساعة منها.
إنك تستقر في أعماق كل شيء، فأنت تنفث في الحبة فتصبح نبتة، وتنفخ في الكِم فبتفتح عن زهرة، وتنضج الزهرة فتحور ثمرة.
لقد كنت أستشعر الجهد والضنى فاستلقيت على فراشي وفي خيالي أن كل عمل في العالم قد وقف، وعند الصباح انطلقت إلى حديقتي فألفيتها تموج بالزهر الغض.
- 81 -
إن الزمان لا نهائي بين يديك يا سيدي، وليس هنا من يستطيع أن يحصي عدد اللحظات.
الليل والنهار يتعاقبان، والدهر يتفتح ويذوي كأنه زهرة، وأنت وحدك تعرف كيف تبقى، والقرون يتلو بعضها بعضاً، تدفع زهرة برِّية صغيرة إلى الكمال.
لم يبق من وقت نضيعه فلنتدافع نحو الفرصة السانحة، فنحن فقراء يؤذينا الكسل.
وهكذا تصرم الزمن وأنا أحبو منه كل شاكٍ يعتفي، فأقفر محرابك من القرابين.
وعند الغروب انطلقت أشتد نحو بابك خيفة أن يغلق علي، غير أني وجدت أنه ما يزال في الوقت بقية.
كامل محمود حبيب