مجلة الرسالة/العدد 237/أبو إسحاق الصابي
مجلة الرسالة/العدد 237/أبو إسحاق الصابي
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
- 3 -
لا بد للكاتب الحريص أن يتحرى النواحي التاريخية التي تتصل بالحياة الأدبية عندما يعرض حياة رجل كأبي إسحاق الصابي خبّ في السياسة ووضع، وارتفع بأسبابها ووقع؛ ليتبين هل كان بؤس ذلك الرجل طوال عمره أثر سرف في خطته، ونتيجة سفه في مسلكه؟ أم أن جيله الذي نشأ فيه هو رأس نكباته، وأس ويلاته، حتى صار البؤس على وجهه كتاباً مسطورا، والشقاء في حياته طريقاً مرسوما؛ لذلك أرى وصف الحالة السياسية في العصر الذي عاش فيه موجِزا.
ولد أبو إسحاق في أوائل القرن الرابع الهجري، والخلافة مزعزعة الأركان، واهية البنيان، يتبارى في تقويض دعائمها وتهوين رواسخها أمراء متعددون، وقواد متحفزون، شغلتهم نفوسهم عن دولتهم، فهم يبغون لشخوصهم ملكاً عضودا، ولذواتهم نهوضاً وسعودا، لا يبالون أن يبنوا ذلك على أنقاض منعة الإسلام، أو على انتهاك حرمة السلام؛ وكان المتألبون أجناساً شتى؛ فللترك طوراً القدح المعلى والنصيب الأعلى، وللديلم حيناً القوة والبطش، والمنعة والبأس، والأمة حيال أولئك وهؤلاء كأسراب القطا تتخاطفها البزاة الجارحة، أو كقطعان الحملان تتناهبها الذئاب الضارية.
وفي الثلث الثاني من هذا القرن استتب الأمر قليلاً لآل بويه واطمأن إليهم الملك، فاستولى معز الدولة بن بويه على بغداد بعد أن انتشر فيها الفساد، وطغت عليها الفاقة، واجتاحتها المخمصة؛ حتى هجرها أهلها إلى المدائن والقرى يستمطرون الرحمة، ويبحثون عن الطمأنينة والدعة، وبعد مدة خلع معز الدولة الخليفة المستكفي بالله؛ لاتهامه إياه بدسائس يحوكها ضده، وتدبيرات ينسجها في الخفاء له، وولى بعده أبن عمه المطيع لله، وكان هذا كرة صولجانها معز الدولة، وخلة سيفها آل بويه؛ يأمرون فيأتمر، ويشيرون فيصنع، ويشاءون فينفذ، أما أن يكون له من الأمر شيء، فذلك مالا سبيل إليه. وظل ذلك شأن معز الدولة يدير شئون الأمة متفرداً، ويقضي في سياستها متوحداً، حتى أدركه المنون في منتصف القرن الرابع. فتولى الملك بعده ابنه بختيار، وتلقب بعز الدولة، وقد أشرف على الخلافة أحد عشراً عاماً، وهو لاهٍ عن أمر وَليَه، وملك سَلبَه حتى سُلبه؛ لها بالغواني الكواعب والمغنيات الكواكب، فبرز له منافس قوي أوتي نبلاً وبعد همة ونباهة ذكر وحسن أحدوثة هو عضد الدولة، فدخل بغداد فاتحاً، وقبض على محمد بن بَقية وزير عز الدولة وصلبه على رأس الجسر، وهو المرثي بالقصيدة الخالدة لأبي الحسين الأنباري وأولها:
علو في الحياة وفي الممات ... لحق تلك إحدى المعجزات
في هذا العصر أهلّ أبو إسحاق ودرج، وشب واكتهل، وشاب وهرم، فلا بدع أن يناله ما ناله، ولكن البدع أن يخرج من هذا المعترك لا عليه ولا له، إذ معنى هذا أنه كان في الأدباء من النكرات، وفي رجال الدولة من الإمعات، وأن حياته لتنبئ عن غير هذا، فقد اعتقل في عصر معز الدولة عندما أناب عن الوزير المهلبي على ديوان الوزارة والرسائل لخروج الوزير إلى الشام مقاتلاً، فقتل بعمان، وقبض على عماله جميعاً وعلى رأسهم أبو إسحاق ومن قوله وهو معتقل:
يا أيها الرؤساء دعوة خادم ... أوفت رسائله على التعديد
أيجوز في حكم المروءة عندكم ... حبسي وطول تهددي ووعيدي؟
قلدت ديوان الرسائل فانظروا ... أعدوت في لفظي عن التسديد؟
أعليَّ رفع حسام ما أنشأته ... فأقيم فيه أدلتي وشهودي
ولما فك اعتقاله خدم عضد الدولة وهو بفارس، بالشعر والكتابة يفيض عليه المدح ويضفي الثناء حتى صار الصابي من جملة خاصته، وموضع ثقته ومحبته، ومحل رفده ورضيخته؛ وحتى همَّ بالنزوح معه إلى فارس بعد حلف عقد بينه وبين عز الدولة بختيار خوف سطوته، وخشية بطشه وفتكه؛ لتوثق علاقته بعضد الدولة، ولكنه - وهو من عرفنا رعاية لأهله، وحدباً على ولده - خاف أن يأخذ عز الدولة البريء بالمذنب، والمحسن بالمسيء، فينال أهله منه سوء لا يجد لرده دفعاً، ويصيبهم منه شر لا يعرف له درءا، فيكون كمن يفدي نفسه بولده، ويستخلص دمه بدماء ذوي قرابته، وما عرفنا فيه خيانة للجار الجنب، فكيف به يسلم بنيه وذويه، ويخرج مع البازي عليه سواد؟ عرف عضد الدولة ما يعتلج في نفسه، وما يضطرب به فكره، فجعل أمنه في سربه جزءاً من الحلف، وسلامته في ولده شرط من شروط العقد، فنص فيه على حراسته في نفسه وماله، وترك تتبعه في شيء من أحواله. وبعد مزايلة عضد الدولة بغداد استخفى خائفاً، واستتر متوجساً شراً، حتى توسل أحد أصدقائه إلى عز الدولة وإلى وزيره ابن بقية أن يهبا له أمناً، ويبذلا له عوناً، فقبلا التوسل وتركاه طليقاً، وما لبثا أن قيداه سجيناً بإغراء ابن السراج لهما به، وفي هذا يقول ياقوت في معجمه (وجرت له في هذه النكبة خطوب أشفى فيها على ذهاب النفس، ثم كفاه الله بأن فسد أمر ابن السراج مع ابن بقية بما عامله بالعلة التي عرضت له، فقبض عليه، ونقل القيد من رجل أبي إسحاق إلى رجله) وفي محبسه هذا كتب إلى ابن بقية يستعطفه ويستميحه:
ألا يا نصير الدين والدولة الذي ... رددت إليها العز إذ فات رده
أيعجزك استخلاص عبدك بعدما ... تخلصت مولاك الذي أنت عبده؟
وصفا له الجو، وهدأت عواصف الشر، فاستخدمه عز الدولة فأخلص، واصطفاه فكان نعم المصطفى، وكتب له كتباً كانت مثار حنق عضد الدولة، ومدار إحنه، ولشد ما غضب عندما أنشأ كتاباً عن الخليفة الطائع لله يشيد فيه بعز الدولة، ومنه (وقد جدد أمير المؤمنين له (أي لعز الدولة) مع هذه المساعي السوابق، والمعالي السوامق، التي يلزم كل دان وقاص، وعام وخاص، أن يعرف له حق ما كرّم به منها، ويتزحزح له عن رتبة المماثلة فيها) فقد أحفظه هذا التعريض أعظم حفيظة، واضطغن عليه أشد ضغينة، فلما ملك بغداد سنة سبع وستين وثلاثمائة هجرية أمره أن يؤلف كتاباً في مناقبه، وفي آثار الدولة الديلمية، وذكر فتوحها، فأطاع. وبينا هو في تأليفه وتصنيفه، وتسويده وتطريسه زاره في داره عدو في ثياب صديق، وسأله عما يعمل، فزعم عنه أنه قال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب الفقها، فحركت القالة المزعومة في عضد الدولة كوامن غيظه، وأثارت منه عوامل ضغنه، فأمر بإلقائه تحت أرجل الفيلة، ولولا أن استشفع فيه من أصدقائه نصر بن هارون، ومطهر بن عبد الله، وعبد العزيز بن يوسف، لكان في ذلك اليوم من الهالكين؛ فقد أقبلوا على الأرض يقبلونها بين يدي ملكهم ضارعين مستشفعين راجين متوسلين؛ حتى صدر أمره باستحيائه مع اعتقاله، واستصفاء أمواله، فبقى في معتقله هذا ثلاث سنوات وسبعة أشهر وأياماً، وإن جاء ذكرها في شعره أربعاً على سبيل التجوز في قصيدة يسترحم بها عضد الدولة، وقد خرج لزيارة مشهد أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأولها: توجهت نحو المشهد العلم الفرد ... على اليمن والتوفيق والطائر السعد
تزور أمير المؤمنين فيا له ... ويالك من مجد منيخ على مجد
فلم يُر فوق الأرض مثلك زائراً ... ولا تحتها مثل المزور إلى اللحد
وفيها يقول:
أمولاي: مولاك الذي أنت ربه ... إليك على جور النوائب يستعدي
وهذي يدي مدت إليك بقصة ... أعيذك فيها من إباء ورد
أتاني شتاء ليس عندي دثاره ... سوى لوعة في الصدر مشبوبة الوقد
فلو أن برد الجلد عاد إلى الحشا ... وفار الحشا الحران مني على الجلد
أزيحت لنفسي علتاها فأعرضت ... عن البث والشكوى إلى الشكر والحمد
وداويت داءي النقيضين ذا بذا ... أعدل إفراطاً من الضد للضد
ومنها:
فلا تبعدني عنك من أجل عثرة ... فإن جياد الخيل تعثر إذ تخدى
ولو كنت تنفي كل من جاء مخطئاً ... إذن لعممت الناس بالنفي والطرد
ومن زلّ يوماً زلة فاستقالها ... فذاك حقيق بالهداية والرشد
توالت شني أربع ومدامعي ... لها أربع كالسلك سل من العقد
أحوم إلى رؤياك كيما أنالها ... حيام العطاش الناظرات إلى الورد
ويبدو لي أنه أفرج عنه عقب هذه القصيدة، ولكنه ما سلم حتى ودَّع، وما هنئ حتى ووسى؛ إذ قبض عليه مرة أخرى عندما فتح بغداد للمرة الثانية بعد أن استشفع لديه قبل وصوله إليها بأبي سعد بهرام بن أردشير، وسأله أن يذكره لدى عضد الدولة، ويقيم له عذره، ويوضح له أمره؛ فكان جواب عضد الدولة العفو والمغفرة في كتاب طويل منه: (ومن كانت به حاجة إلى إقامة معذرة، واستقالة من عثرة، أو الاستظهار في مثل هذه الأحوال بوثيقة، فأنت مستغن عن ذلك بسابقتك في الخدمة ومنزلتك من الثقة، وموقعك لدينا من الخصوص والزلفة). ومنه: (فاسكن إلى ذلك واعتمده، ولك علينا - الوفاء به - عهد الله وميثاقه، وقد حملنا أبا سعد - أعزه الله - في هذا الباب ما يذكره لك. والله نستعين على النية فيه وهو حسبنا).
ودخل عضد الدولة بغداد وهو عنه راض، وبرحها إلى الموصل وهو إلى ولاء الصابي مطمئن، ولكن الوشاة - وما أكثرهم - نبشوا الدفائن، وأخرجوا كتباً من عز الدولة إلى أحد عماله بخط الصابي، وفي بعضها قدح في عضد الدولة، ورفعوها إليه، فكتب من الموصل بالقبض عليه، ولعل حديثه هو عن نفسه أدق من حديثنا عنه، فهو يقول:
(كنت جالساً بحضرة أبي القاسم المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة في يوم القبض عليَّ إذ وردت النوبة، ففضت بين يديه وبدأ منها بقراءة كتاب عضد الدولة، فلما انتهى إلى فصل منه وجم وجوماً بان في وجهه، فقال لي أبو العلاء صاعد بن ثابت: أظن في هذا الكتاب ما ضاق صدراً به، وقمت من مجلسه لأنصرف، فتبعني بعض حجابه، وعدل بي إلى بيت من داره؛ ووكل بي، وأرسل يقول لي: لعلك قد عرفت مني الانزعاج عند الوقوف على الكتاب الوارد من الحضرة اليوم، وكان ذلك لما تضمن من القبض عليك، وأخذ مائة ألف درهم منك، وينبغي أن تكتب خطك بهذا المال، ولا تراجع فيه؛ فوالله لا تركت ممكناً في معونتك وتخليصك إلا بذلته. وقد جعلت اعتقالك في دار ضيافتي، فطب نفساً بقولي، وثق بما يتبعه من فعلي) كما قبض على ولديه أبي على الحسن، وأبي سعيد سنان؛ وقد وفى الوزير أبو القاسم بما وعد، فسأل عضد الدولة إطلاقه واستخلافه لقيام أبي القاسم على رأس جند لقتال صاحب البطيحة فقال له:
أما العفو فقد شفعناك فيه، وينبغي أن تعرفه ذلك وتقول له إننا قد غفرنا لك عن ذنب، لم نعف عما دونه لأهلنا يعني: عز الدولة والديلم، ولأولادنا بيتنا - يعني: أبا الحسن محمد بن عمر وأبا أحمد الموسوي، ولكنا وهبنا إساءتك لخدمتك وعلينا المحافظة فيك على الحفيظة منك، وأما استخلافك إياه بحضرتنا فكيف يجوز أن ننقله من السخط والنكبة إلى النظر في الوزارة ولنا في أمره تدبير، وبالعاجل، فتحمل إليه من عندك ثياباً ونفقة وتطلق ولديه، وتقدم إليه عنا بعمل كتاب في مفاخرنا. فحمل إليه المطهر ما أمر به الملك وأطلق ولديه، ورسم له تأليف الكتاب وبقى الصابي في محبسه يؤلف حتى أتم المؤلف، فلم يفرج عنه لوقته بل قيل: إنه أخر الإفراج عنه سنة، فلما رفع إليه إحدى قصائده يطلب فيها الصفح عنه والإفراج، قرأت عليه ولديه بعض أصدقاء أبي إسحاق ومنهم أبو الريان حامد بن محمد وعبد الله بن سعدان فقبلا الأرض وقال أحدهما: إن من أعظم حقوقه علينا وذرائعه عندنا أن عرفناه في خدمتك، وخالطناه في أيامك. قال: فإذا كان رأيكما فيه، فأنفذا وأفرجا عنه، وتقدما إليه بملازمة داره إلى أن يرسم له ما يليق بمثله، فأفرج عنه قبل وفاة عضد الدولة بأيام، وقيل بل بقي في السجن حتى أفرج عنه ابن عضد الدولة أبو الحسين تاج الدولة.
وإني أرجو غير فاخر أن أكون قد وفقت في سرد وقائع هذا الجزء من حياته، وقربت بين الروايات المتضاربة عن اعتقالاته مستنداً في ذلك الترتيب على التاريخ السياسي للدولة البويهية، وفي المقال التالي نتحدث عن كتابته.
عبد العظيم علي قناوي