مجلة الرسالة/العدد 225/مصطفى صادق الرافعي
مجلة الرسالة/العدد 225/مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 10 -
الرافعي شاعر الأناشيد
ولع الرافعي منذ نشأته في الشعر بالأناشيد الوطنية والأغاني الشعبية، يفتنّ في نظمها، ويبدع في أوزانها وأساليبها؛ ففي سنة 1903 أخرج في الجزء الأول من ديوانه بضع قصائد وطنية، تفيض عاطفة وتشتعل حماسة؛ واشتهر من بينها قطعته (الوطن) التي يقول في مطلعها:
بلادي هواها في لساني وفي دمي ... يمجِّدها قلبي ويدعو لها فمي
وذاعت على ألسنة تلاميذ المدارس، يحملهم المعلمون على استظهارها في دروس المحفوظات إلى يومنا هذا، كما اشتهر كثير من قصائده الوطنية وأغانيه الشعبية. وجاء في هامش ديوانه بعد تمام هذه المقطوعات: (قد تمت القطع التي نظمت للنشء من تلامذة المدارس، وقال ناظمها: إنه إذا وجد الناس أقبلوا عليها أقبل هو على نظم غيرها مما هو أرقى، غير مبال بوعورة هذا المسلك الذي لم يسلكه قبله أحد. فها نحن أولاء ننتظر من الصحفيين وشبان العصر أن يأخذوا بيده في هذا المشروع، حتى لا يغيض ما بقي في ذلك الينبوع. . .)
ثم دأب على نظم أمثال هذه الأغاني، ينشر منها طرفة رائعة في كل جزء من ديوانه، فنشر نشيد الفلاحة المصرية، وأرجوحة سامي، وغيرهما، وأذاع في الصحف كثيراً مما نظم من (أغاني الشعب)
وإنك لترى الرافعي في هذه الأغاني والأناشيد، له طابع وروح غير ما تعرف له في سائر شعره، فتؤمن غير مضلل أن الرافعي هبة الزمان للعربية ليزيد فيها هذا الفن الشعري البديع الذي تقطعت أنفاس شعراء العربية دونه منذ أن أنشد شاعرهم في الزمان البعيد: (نحن بنو الموت إذا الموت نزلْ. . .) ثم لم يقل أحد من بعده شعراً يترنم به في الحرب، أو يدعو إلى الجهاد، أو يستنفر إلى المعركة، حتى أنشد الرافعي. . .
ويقيني أن اسم الرافعي إذا كتب له الخلود بين أسماء الشعراء في العربية، فلن يكون خلوده وذكره لأنه ناظم ديوان الرافعي، أو ديوان النظرات، أو المدائح الملكية في المغفور له الملك فؤاد، أو قصائد الحب والغرام بفلانة وفلانة من حبائبه الكثيرات، ولكنه سيخلد ويذكر لأنه شاعر الأناشيد. . .
ونهضت الأمة نهضتها الرائعة في سنة 1919، ودوّي صوت الشعب هاتفاً: إلى المجد إلى المجد، إلى الموت أو الحرية؛ وصاح صائح الجهاد يدعو كل نفس من داخلها، فإذا الأمة صوت واحد؛ على رأي واحد إلى هدف واحد؛ وإذا مظهر رائع من مظاهر الإيمان بحق الموجود في وجوده يتمثل في كل مصري، ويستعلن على كل لسان في مصر
واجتمع رأي طائفة من رجالات مصر على أن يكون لهذه النهضة نشيد يعبر عن أمانيها وغايتها، ويكون أغنية كل مصري، تجتمع عنده خواطر نفسه، وخلجات فكره، وهمسات قلبه؛ فيكون صوتها من صوته، ولحنها من أحلامه، وبيانها من معاني نفسه.
وتلفّت الناس يفتشون عن ذلك الشاعر الموهوب الذي يؤملون أن تتحدث الأمة بلسانه وتهتف بشعره. وأعلنت لجنة النشيد عن جائزة وضربت أجلاً. . .
وتبارى الشعراء في الافتنان والإجادة، وتقدم كل شاعر ببضاعته، وتقدم الرافعي فيمن تقدم؛ ولكن اثنين لهما مكانهما وخطرهما بين شعراء العصر لم يتقدما بشيء إلى لجنة النشيد: هما شوقي أمير الشعراء، وحافظ شاعر النيل. أما حافظ فلأنه من المحكمين في اختيار النشيد، وأما شوقي. . . من يدري؟
وكان على رأس لجنة النشيد الوزير العالم والأديب، الأستاذ جعفر ولي باشا، فكأنما عز عليه أن ينتهي الأجل المضروب فيتقدم الرافعي، ويتقدم الهراوي، ويتقدم عبد الرحمن صدقي، ويتقدم غير هؤلاء ممن يقول الشعر، وممن لا يحسن إلا أن يزن فاعلاتن ومفعولاتن على كلام، ولا يتقدم شوقي وحافظ
ونسأت اللجنة الأجل المضروب، وسعى الساعون إلى الشاعرين الكبيرين ليحملوهما على الاشتراك في المباراة؛ فأما حافظ فأصر وأبى، وأما شوقي. . . يرحمه الله، لقد كان حريصاً على أن يقول الناس في كل مناسبة: لقد قال شوقي. . . ولكن ماذا يقول ذلك اليوم؟ وكان لشوقي نشيد، أنشأه منذ عهد لتفتتح به (فرقة عكاشة) موسمهما التمثيلي؛ فماذا عليه لو تقدم بهذا النشيد القديم إلى لجنة المباراة؟
وتقدم شوقي إلى اللجنة بنشيده المشهور:
بني مصرٍ مكانكمو تهيَّا ... فهيا مهِّدوا للمجد هيَّا
وتساءل الأدباء بينهم: لماذا مدّت اللجنة الأجل المضروب؟ فلم يلبثوا أن جاءهم الجواب الصريح؛ فعرفوا أن اللجنة لم تفعلها إلا حرصاً على أن يكون النشيد المختار من نظم شوقي. . .
عندئذ نجمت ثورة أدبية حامية، وتمرد الأدباء على اللجنة وحكم اللجنة، وهل كان لهم أن يطمئنوا إلى عدالتها وقد ذاع الحكم قبل موعد الفصل في القضية؟
وكان الرافعي على رأس الثائرين، فأنشأ بضع مقالات في (الأخبار)، وللأخبار يومئذ مذهبها السياسي وكاتبها الأول هو المرحوم أمين بك الرافعي؛ فسحب الرافعي نشيده من اللجنة قبل أن يسمع الحكم فيه، وراح يعلنها ثورة صاخبة على اللجنة وأعضاء اللجنة، وعلى شوقي وأنصار شوقي، وقال في نشيده ما يقال وما لا يقال، وتابعه جمهرة من الأدباء؛ فكتب المازني والعقاد في (الديوان)، وكتب غير المازني والعقاد؛ وشوقي رحمه الله رجل كان على فضله ومكانته وعلى منزلته في الشعر، ضيق الصدر بالنقد والناقدين؛ فمن هذا كان بينه وبين الرافعي شيء من يومئذ، إن لم يكن من قبل يوم نشر الرافعي مقاله في (الثريا) عن شعراء العصر في سنة 1905؛ فما التقيا من بعد حتى لقيا الله؛ على أن أحداً من أدباء العربية لم ينصف شوقي بعد موته ولم يكتب عنه مثل ما كتب الرافعي عن شوقي في مقتطف ديسمبر سنة 1932، وهو نموذج من الأدب الوصفي أحسبه نادر المثال فيما يكتب الكتاب عن الأدباء المعاصرين
ومضت لجنة المباراة في طريقها غير آبهة لما يقال، ومضى الرافعي في ثورته؛ ثم لم يلبث أن جمع لجنة غير اللجنة، من أصدقائه وصفوته، والآخذين عنه، لتنظر في نشيد الرافعي وحده
وأصدرت اللجنة الأصيلة حكمها، فكان الفائز الأول هو شوقي، وفاز من بعده الهراوي وعبد الرحمن صدقي، وأعلنت اللجنة الأخرى أن نشيد الرافعي هو النشيد القومي المصري. . . وسبّقت بين المغنين جائزة، ليصنعوا لحناً لنشيد الرافعي
إلى العلا، إلى العلا، بني الوطن ... إلى العلا، كلُّ فتاةِ وفتىً
وفاز الموسيقار الكبير الأستاذ منصور عوض بالسبق إلى اللحن والجائزة!
ليس من همي هنا أن أوازن بين نشيدي شوقي والرافعي؛ فقد مات نشيد الرافعي (إلى العلا. . .) بعدما سبقه نشيد شوقي إلى الموت بعشر سنوات، ولم تُجْدِ كل المحاولات في بعثه ونشره. . . وإن كان لي أن أقول شيئاً هنا في الفرق بين النشيدين فهو أن أصف كيف كان استقبال الناس لنشيد الرافعي واحتفائهم به في كل مكان، وكيف كان نشيد شوقي
لقد سمعت نشيد الرافعي أول ما سمعته في حفل رسمي أقيم لإذاعته بطنطا في سنة 1921 أو 1922 بمسرح البلدية؛ فما أحسب أني رأيت نشيداً احتفل له الناس ما احتفلوا لنشيد الرافعي يومئذ؛ فإذا كان قد مات بعد ذلك بسنين وجر عليه النسيان أذياله، فما أظن ذلك كان لضعف فيه أو نقص يعيبه، ولكننا نعيش في شعب أكبر فضائله أن ينسى. . . وعند الله الجزاء. . .!
اسلمي يا مصر
وتطورت الفكرة الوطنية فتمثلت بشراً في سعد زغلول؛ فهو المصري الذي لو أرادوا أن يمثلوا ذلك الشعب العريق إنساناً تراه العين لما وجدوا إلا صورته، ولو سألوا: من الرجل الذي يقول أنا الأمة صادقاً غير محتال لما وجدوا غيره. . .
وتطورت فكرة النشيد القومي عند الرافعي فرأى رؤياه في منامه، فلما أصبح ألف نشيده (اسلمي يا مصر) وما كان هم الرافعي عندما ألفه أن يجعله نشيداً قومياً؛ إنما قصد إلى أن يجعله بياناً رمزياً على لسان سعد، أو كما يقول الرافعي في خطابه إلى سعد في جبل طارق:
(وما أردت بإظهار نشيدك إلا أن تظهر في كل فرد من الأمة على قدر استعداده، ويبقى اسمك الجليل مع كل مصري على الدهر ليكون مصدراً من مصادر إمداده
(ويقولون إنه نشيد يقربك من الأجيال الآتية، وأنا أقول إنهم هم يتقربون به إليك، ويجدون منه الوسيلة لتقبيل اسمك المحبوب إذ لا يستطيعون مثلنا تقبيل يديك، ويعلمون في كل زمن من شرح هذا الاسم الكبير أنه الرجل الذي خط قلم الأزل كتاب نهضته الكريمة، واختاره الله للأمة كما اختار الأنبياء إلا أنه نبي الفكر والعزيمة. . .)
قلت: إن الرافعي لم يكن يعني بإنشاء نشيده (اسلمي يا مصر) أن يجعله نشيداً قومياً، فإنه لمطمئن إلى أن نشيده (إلى العلا. .) ماض في طريقه إلى هذا الهدف؛ إنما كان يعني أن يضع في هذا النشيد صوت سعد كما تصورت حقيقته في نفسه؛ لكن نشيده ما كاد ينشر ويذاع، حتى أبدت البلاد رأيها؛ فقام الطلبة والأدباء والفنانون يدعون دعوتهم إلى اتخاذه نشيداً قومياً لتجعل صوت سعد في هذا النشيد صوت البلاد، ولتتخذ ما فيه من معاني المجد شعاراً لكل مصري، أن كان صوت سعد يومئذ هو صوت كل مصري
وتألفت اللجان في مختلف البلاد لإعلانه وإذاعته، وتسابق الملحنون إلى ضبط نغمته ورسم لحنه؛ فكان أسبقهم إلى ذلك الموسيقار منصور عوض، والموسيقار صفر علي؛ واللحن الأول أدق اللحنين وأوفاهما بالغاية؛ ولكن اللحن الثاني أذْيع وأعم، وبه تنشده فرق الكشافة المصرية بعد إذ صار نشيدها الرسمي
النشيد القومي في سنة 1936
ونجحت الدعوة نجاحها المؤمل، فصار نشيد (اسلمي يا مصر) هو نشيد مصر القومي من سنة 1923 إلى سنة 1936 حين أعلنت الحكومة عن المباراة العامة لتأليف نشيد قومي يهتف به الشعب وتعترف به الحكومة
في هذه الفترة كان الرافعي على نية إنشاء نشيد وطني جديد، إجابة لرغبة تقدم بها إليه شبان الوفد؛ فما أذاعت الحكومة بيانها عن المباراة حتى تقدم بنشيده الجديد:
حماةَ الحمى، يا حماة الحمى ... هلمُّوا، هلموا لمجد الزمن
لقد صرخت في العروق الدما ... نموت، نموت، ويحيا الوطن
كما تقدم بنشيده الآخر: (اسلمي يا مصر)؛ ولأمر ما استبعدت لجنة المباراة النشيد الثاني، ومنحته الجائزة الثانية على النشيد الأول. وما أريد أن أعرض لرأي اللجنة وحكمها في هذا النشيد الجديد، فذلك باب من النقد الأدبي ليس من قصدي التعرض له في هذا المقال؛ فإن للتاريخ الأدبي حكمه في هذا الشأن، يوم تُنسى الأحقاد وتمحى العداوات
ليس ما ذكرت هو جهد الرافعي في الأناشيد، وليس بهذا وحده يستحق أن نخلع عليه هذا اللقب الذي لا أرى غيره من شعراء العربية جديراً به؛ فما أستطيع أن أحصي كل ما أنشأ الرافعي في هذا الباب، وحسبي أن أذكّر بنشيده الخالد الذي أنشأه في سنة 1927 ليكون شعار (الشبان المسلمين)، فهنا، في هذا النشيد، يُعرف الرافعي الشاعر المسلم المجاهد الذي وقف قلمه وبيانه على خدمة المسلمين والعرب
أما (نشيد الملك)، و (نشيد بنت النيل)، و (نشيد الطلبة) الذي أنشأه ليكون به هتاف تلاميذ المدرسة الثانوية بطنطا - فذلك من البيان له فصل بعنوانه في تاريخ الأدب العربي
البحر المنفجر
في أناشيد الرافعي عامة، تعرف له طابعاً وروحاً ونغمة هي سر نجاحه فيما ألّف من أناشيد، ويميل في أناشيده الوطنية خاصة إلى إبراز معنى القوة في سبك اللفظ ولحن القول؛ ولو أنك سمعته مرة وهو في خلوته الشعرية يحاول شيئاً من هذه الأناشيد لسمعت لحناً له رنين يشترك فيه صوت الرافعي، ونقر أصابعه على المكتب وخفق نعله على أرض المكان؛ وعلى أن الرافعي كان أصم لا يسمع قصف المدافع، فإنه كان لا يستوي له النظم إلا في مثل هذه الحال. واسألوا صديقنا الأستاذ مصطفى درويش المحقق بوزارة المعارف: ماذا رأى وماذا سمع يوم صحب الرافعي من طنطا إلى القاهرة وكان يؤلف في القطار نشيده (حماة الحمى. . .)؟
واسألوا الآنسة ماري قدسي معلمة الموسيقى بوزارة المعارف تحدثكم عن خبر الرافعي يوم جلس إليها وهي تعالج تلحين نشيده (بنت النيل) ويوم جلست إليه تعزف له على البيانة لحنها لنشيد (اسلمي يا مصر) وهو يسمعها بعينيه تتبعان أصابعها على المعزف وهو ينقر على الأرض بعصاه ورجليه، وينفخ شدقيه وفي أذنيه وقر ثقيل. . .!
هذه النغمة التي كانت تتمثل للرافعي في سمعه الباطن وهو يعالج نشيداً من الأناشيد، كان لها أثرها الفني في عمله، وهي هي التي كانت تشعره أحياناً بالعجز عن أن يجد في موازين الشعر العربي النغمة التي كان يريدها في أناشيده كطبل الحرب؛ فلما هم أن يضع نشيد الطلبة:
مَجْداً مَجْداً مَدْرَستي ... مدرستي مَجْداً مَجْداً
عن علمي عن تربيتي ... مدرستي حَمْداً حمداً
لم يجد له نغمة تلائمه فيما يعرف من بحور الشعر، فاخترع له هذا الميزان الذي يزنه به قارئه، وسماه: (طبل الحرب) ولكن صاحب المقطم أشار عليه أن يسميه (البحر المنفجر) وتفعيلاته (فَعْلٌ، فَعْلٌ، فُو) مكررة في كل شطر، مع بعض علل في الميزان يمكن إدراكها بالموازنة بين الشعر وتفعيلاته
هذا هو الرافعي شاعر الأناشيد، وهذا جهده وما بلغ؛ وقد كان على نية إصدار ديوان من شعره سماه: (أغاني الشعب) جمع فيه ما أنشأ من الأناشيد الوطنية، وأغاني الجماعات والطوائف لولا أن عاجلته المنية. فلو أن أدباء العربية ذكروا يوماً أن عليهم واجباً لإمام من أئمة الأدب العربي كان يعيش في هذا العصر فاجتمعوا على العناية بآثاره وإتمام رسالته الأدبية، لأخرجوا لقراء العربية ذخراً من الأدب العربي والبيان الرفيع لا يقدر على إنشاء مثله جيل كامل من مثل أدباء هذا الزمان. . .!
ورحم الله جماعة تألفت منذ بضعة أشهر لتأبين الرافعي في شهر أكتوبر، وأوشك شهر أكتوبر أن ينتهي وما استطاعت الجماعة أن تثبت أن فيها حياة. . .!
يرحمك الله يا مصطفى، وفي ذمة الله ما جاهدت لهذه الأمة التي لا تعرف الجميل!
(شبرا)
محمد سعيد العريان