مجلة الرسالة/العدد 225/الكميت بن زيد
مجلة الرسالة/العدد 225/الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
تمهيد
في الأدب اجتهاداً لم يغلق بابه كما أغلق في الفقه وغيره من علومنا الشرعية، وقد كان لامتياز الأدب بهذا على غيره من العلوم أثر كبير في ازدهاره في هذا العصر، وفي وصوله إلى ما لم يصل إليه في عصر من العصور السابقة، وهو في هذه النهضة المباركة شغل الطالب في معهده، والتلميذ في مدرسته، بل شغل الناس جميعاً على اختلاف أنواعهم ومذاهبهم. ولو أن غير الأدب من العلوم كان له حظه من فتح باب الاجتهاد لم يصر إلى هذا الجمود الذي صرف الناس عنه، وجعلهم يكرهون النظر فيه، ويخشون ما يصيبهم من العنت إذا خرجوا عن مألوفه
وللنفس حاجات في هذا الاجتهاد المغلق تجعلها تحن إليه الفينة بعد الفينة، فإذا خشيت العنت أو أصابها فيه شيء من العنت عدلت عنه إلى غيره حباً في المسالمة، أو يأساً من حال الناس في هذه الناحية؛ ولا تجد مثل الأدب في رحابة صدره للاجتهاد، وعدم ضيق أهله بأثر الاجتهاد فيه، فتلج بابه، وتسلى عنها به ما يصيبها من أذى الناس وجحودهم لفضل المخلصين العاملين فيهم
وهأنذا الآن بصدد الكتابة عن الكميت بن زيد الأسدي، وبصدد التنويه بالفتح الجديد الذي فتحه في الأدب العربي بهاشمياته، لأرفعه بها إلى درجة الزعامة على شعراء عصره (عصر بني مروان) ولأبعد جريراً والفرزدق والأخطل عن هذه الدرجة التي اتفق الناس على منحها لهم، ولا عليّ من مخالفة الناس فيما ذهبوا إليه في زعامة الشعراء في هذا العصر، فليس في الأدب كفر ولا إلحاد ولا غيرهما مما يرمي به الباحثون جزافاً في هذه الأيام
ونحن إذا بحثنا في هذه الزعامة الشعرية التي عرفها الناس لجرير والفرزدق والأخطل نجد أن ملوك بني مروان هم الذين روجوا لهذه الزعامة، وهم الذين شغلوا الناس بهؤلاء الشعراء عن الكميت وغيره ممن يخالف سياستهم، ويناوئ بشعره ملكهم، ويناصر به غيرهم من منافسيهم، وقد مضى عهد بني مروان ومضت بعده عهود وعهود، وكان لحب التقليد الذي مني به الإسلام والمسلمون أثره في بقاء الناس على هذه الزعامة الشعرية
وإنما روج ملوك بني مروان لجرير والفرزدق والأخطل لأنهم وجدوا في شعرهم انحرافاً عن الجادة التي يجب أن يكون الشعر عليها، ووجدوا فيه ما يخدم مآربهم في حكم الأمة الإسلامية حكماً مطلقاً لا يقيدهم فيه قانون سماوي أو وضعي، وفي الاستئثار لأنفسهم وأنصارهم بأموال هذه الأمة وخيراتها، يصرفونها في اقتناء القيان، وشراء الجوار الحسان، وإشباع شهواتهم في هذه الحياة، والقضاء على روح المقاومة للظلم في الأمة حتى تخضع لهم، وتستكين لحكمهم؛ ولا نستثني منهم في ذلك إلا الملك الصالح عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقد سار في حكمه القصير على خلاف سيرتهم، وأشاح بوجهه عن أولئك الشعراء الذين كانوا يروجون لهم
ولم يكن مثل جرير والفرزدق والأخطل في ذلك إلا كمثل من يعيش منا الآن بعقول القرون الماضية، ولا يتأثر عقله بشيء من العصر الذي يعيش فيه، فهكذا كان أولئك الشعراء يعيشون بعد الإسلام بعقول الشعراء الذين لم يدركوا عهده، ولم تعمل في نفوسهم رسالته، ولم تؤثر في قلوبهم هدايته، ولم يهذبهم تقويمه وإصلاحه، فاستعملوا شعرهم في خدمة أغراضهم وقضاء مآربهم، وتملقوا به ملوك بني مروان طمعاً في أموالهم ودنياهم، ولم ينظروا فيه إلى الأمة وما تطلبه من الشعر الذي يوفظها من غفلتها، وينهض بها من كبوتها، ويحارب عوامل الفناء التي تعمل عملها فيها، بل ساعدوا خصومها عليها، وعملوا بشعرهم على تفريق كلمتها، والرجوع بها إلى حالة الجاهلية، فكان شعراً رجعياً جامداً بغيضاً، ولا تسري فيه روح الحياة، ولا يصح أن يمون صاحبه به زعيماً في الشعراء
فإذا نظرت في شعر الكميت بن زيد وجدته يمثل لك عصر بني مروان تمثيلاً صادقاً، لا أثر فيه للخداع والغش، ولا يشوهه الحرص الممقوت على الصلات والجوائز، وخيل إليك أنك تعيش في عصر بني مروان مع الذين عاشوا فيه، وأن ظلمهم وإفسادهم حاق بك كما حاق بهم، فأخذ قلبك يضطرب بالحقد عليهم، وأخذت نفسك تضطرم بالثورة على ملكهم، وتنشد في ملكاً آخر يسود فيه العدل، وينتصر الحق على الباطل، وتنهض به الأمة، وينتظم لها أمر دينها ودنياها
فهو شعر حي ناهض يدعو إلى الحياة والنهوض؛ أما شعر جرير والفرزدق والأخطل فهو شعر ميت جامد يدعو إلى الموت والجمود، ولم يكن الخضوع لزعامة هذا الشعر إلا أثراً من آثار الروح الشيطانية المستولية على النفوس منذ فقد في المسلمين الحكم الصالح، وأخذوا يعيشون عيشة آثمة جاهلية، يضيع فيها الحق، وينتصر عليها الباطل، وتنشر فيها أعلام الشر، وتطوى أعلام الخير، فأظلمت العقول، والتبست عليها الأمور، فصارت ترى الباطل حقاً، والشر خيراً، والإثم طاعة وبراً، وجمدت على هذا بطول الزمن حتى صارت حالها تدعو إلى اليأس في إصلاحها، وإزالة هذه الغشاوة عنها
على أني فيما أراه من زعامة الكميت على شعراء عصره أذهب في هذا مذهب بعض العلماء والشعراء كانوا يتعصبون له ويقدمونه في الشعر على غيره من الشعراء جميعاً. قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني محمد بن القاسم الأنباري، قال حدثني أبي، قال حدثنا الحسن بن عبد الرحمن الربعي، قال حدثنا احمد بن بكير الأسدي، قال حدثنا احمد بن أنس السلامي الأسدي، قال سئل معاذ الهراء: من أشعر الناس؟ قال: أمن الجاهليين أم من الإسلاميين؟ قالوا: بل من الجاهليين، قال: امرؤ القيس وزهير وعبيد بن الأبرص. قالوا: فمن الإسلاميين؟ قال: الفرزدق وجرير والأخطل والراعي. قال فقيل له: يا أبا محمد ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت؟ قال: ذاك أشعر الأولين والآخرين
وقال أبو الفرج أيضاً: أخبرني الحسن بن علي الخفاف، قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال حدثني احمد بن بكير، قال حدثني محمد بن أنس الأسدي السلامي، قال حدثني محمد بن سهل راوية الكميت قال: جاء الكميت إلى الفرزدق لما قدم الكوفة فقال له: إني قد قلت شيئاً فاسمعه مني يا أبا فراس، قال: هاته، فانشده قوله:
طَرِبتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ ... ولا لعِباً مني وذو الشوق يلعبُ
ولكن إلى أهل الفضائل والتُّقَى ... وخير بني حوَّاَء والخير يُطْلَبُ
فقال له: قد طربت إلى شيء ما طرب إليه أحد قبلك، فأما نحن فما نطرب ولا طرب من كان قبلنا إلا ما تركت أنت الطرب إليه
وفي رواية أخرى عن محمد بن علي النوفلي، قال سمعت أبي يقول: لما قال الكميت بن زيد الشعر كان أول ما قال الهاشميات فسترها ثم أتى الفرزدق بن غالب فقال له: يا أبا فراس إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد الأسدي، قال له: صدقت، أنت ابن أخي، فما حاجتك؟ قال: نفث على لساني فقلت شعراً فأحببت أن أعرضه عليك، فإن كان حسناً أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً أمرتني بستره، وكنت أولى من ستره عليّ. فقال له الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني ما قلت، فأنشده:
طَرِبتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ
قال فقال لي: فبم تطرب يا ابن أخي؟ فقال:
ولا لعباً مني وذو الشوق يلعبُ
فقال: بلى يا ابن أخي فالعب فإنك في أوان اللعب، فقال:
ولم يُلهني دارٌ ولا رسم منزل ... ولم يتطرّبني بنانٌ مُخضَّبُ
فقال: ما يطربك يا ابن أخي؟ فقال:
ولا السانحات البارحات عشية ... أمر سليم القرن أم مر أغضب
فقال: أجل لا تتطير، فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ... وخير بني حوَّاَء والخير يطلبُ
فقال: ومن هؤلاء ويحك؟ فقال:
إلى النَّفر البيض الذين بحبِّهمْ ... إلى الله فيما نابني أتقرَّبُ
قال: أرحني ويحك من هؤلاء؟ قال:
بني هاشم رهط النبِّي فإنني ... بهم ولهم أرضى مراراً وأغضبُ
خفضتُ لهم مني جناحي مودَّةً ... إلى كَنَفٍ عطفاه أهل ومرحبُ
وكنت لهم من هؤلاء وهؤلا ... مُحباً على أني أُذمُّ وأغضبُ
وأُرَمى وأرْمِى بالعداوة أهلَها ... وإني لأُوذَى فيهمُ وأؤنَّبُ
فقال له الفرزدق: يا ابن أخي أذع ثم أذع، فأنت والله أشعر من مضى، وأشعر من بقى
وهذه الهاشميات من الدرر اللوامع في سماء الشعر العربي، وبها يسمو شعر الكميت على غيره من الشعر، وقد أجاد فيها في مدح بني هاشم والدعاية لهم، وتصوير حكم بني مروان تصويراً شنيعاً ينفر الناس منه، ويدعوهم إلى الثورة عليه، حتى هيأ النفوس إلى تلك الثورة التي قام بها بعده أبو مسلم الخراساني، فقضى على حكم المروانيين، وأقام بعده حكم العباسيين الهاشميين
ولاشك أن الشعر الذي يبلغ به صاحبه هذه المنزلة العالية ويستطيع به أن يقيم دولة ويقعد دولة، هو الشعر الذي يستحق به صاحبه الزعامة على شعراء عصره، لا ذلك الشعر الذي لا يعد وأمره أن يكون ألفاظاً جوفاء لا طائل تحتها، ولا ثمرة في هذه الحياة لها
وقد شهد الفرزدق شهادة أخرى لهذه القصائد، فقيل له: أحسن الكميت في مدائحه في تلك الهاشميات، فقال: وجد آجراً وجصاً فبنى
عبد المتعال الصعيدي