مجلة الرسالة/العدد 221/هكذا قال زرادشت

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 221/هكذا قال زرادشت

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 09 - 1937



للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

حكمة البشر

ليست الأعالي ما يخيف بل الأعماق، فعلى الجرف تحدق العين في الهاوية وتمتد اليد نحو الذرى فيقبض الدوار بالإرادتين على القلب

أفتعلمون أيها الصحاب ما هي إرادة قلبي المزدوجة؟ إن الخطر المحدق بي على منحدري إنما هو اتجاه نظري إلى الذروة بينما تتلمس يدي مستنداً في الفضاء. وما أعلق إرادتي إلا على الإنسان فتشدني إليه مرهقات القيود لأنني منجذب منه إلى الإنسان المتفوق فإليه تندفع إرادتي الثانية. إنما أنا أحيا بين الناس كالضرير لا يعرف من حوله، كيلا تفقد يدي ثقتها من الوقوع على مستند مكين

أنا لا أعرفكم، أيها الناس، تلك هي ظلمتي أتلفع بها وتعزيتي ألجأ إليها

فأنا جالس أمام الباب متوجهاً إلى الأوغاد صائحاً بهم: إلي يا من يريد أن يخدعني

إن أول حكمة بشرية أعمل بها هي أن أستسلم لخداع الناس فلا أضطر إلى الوقوف أبداً موقف الحذر لأن في الناس من يخدعون

ولو أنني وقفت هذا الموقف في العالم أكان يتسنى للإنسان أن يثقل منطادي فيمنعه من الانفلات والانطلاق إلى أبعد الآفاق؟

إن إغفالي للحذر إنما هو عناية تسهر علي لإيصالي إلى ما هو مقدور

إذا أنت امتنعت عن الشرب من كل كاس فإنك هالك ظمأ، فإذا أردت أن تبقى طاهراً بين الناس فعليك أن تتعود الاغتسال بالماء القذر

لكم ناجيت قلبي، فقلت له: صبراً أيها القلب الهرم، إنك لم تفلح بهذه النقمة فتنعم بها كأنها نعمة

وهذه حكمتي البشرية الثانية: إنني أداري المغرور بأكثر مما أداري الفحور، لأن الغرور الجريح مبعث كل النائبات، في حين أن العزة الجريحة تستنبت جرحها ما هو خير من إذا لم يحسن الممثلون لرواية الحياة أدوارهم فيها فخير لك ألا تشهدها؛ وليس أمهر من أهل الغرور في التمثيل لأنهم يقومون بأدوارهم وكل إرادتهم متجهة إلى اكتساب رضى المشاهدين وإعجابهم، وهم لا يدخرون وسعاً في سبيل خلق شخصيتهم وتمثيلها، لذلك يلذ لي أن أنظر من خلالهم إلى الحياة فهم خير دواء للسوداء. إنني أداري أهل الغرور لأنهم أساة أحزاني المقيمون الإنسان ممثلا أمام عياني

وفوق ذلك فمن له أن يسير الأعماق في تواضع المغرور فأنا أريد له الخير وأشفق عليه بسبب اتضاعه، فهو يريد أن يقتبس منكم ثقته بنفسه متغذياً من نظراتكم، متسولاً الثناء من تصدية أكفكم. إن المغرور ليصدق أكاذيبكم إذا ما أحسنتم إيرادها عنه، فما هو إلا حائر يشك بأعماق نفسه في قيمة نفسه

إذا كانت الفضيلة الحقيقية تجهل ذاتها فالمغرور كذلك لا يعرف شيئاً عن تواضعه

أما حكمتي البشرية الثالثة فقائمة على إنني لا أدع لاستحيائكم سبيلا إلى تنفيري من مشاهدة الأشرار، فأنا أسر بالنظر إلى ما تخلق حرارة الشمس من عجائب المخلوقات كالنمور وأشجار النخل والأفاعي ذوات الأجراس. ولكم بين الناس مثل هذه المخلوقات العجيبة أفقستها حرارة الشمس أيضاً، وفي الأشرار أيضاً من البدائع الشيء الكثير. . .

إن أوفركم عقلا لا يبلغ في نظري منتهى الحكمة، كذلك لا أرى الشر إلا مبالغاً في وصفه. ولكم تساءلت مشككا: لماذا لا تزال الأفاعي تطن بأجراسها؟

إن لكل شيء مستقبله حتى الشرور، فالظهيرة البالغة التناهي في إشراقها لم تنكشف للإنسان حتى اليوم. لكم من أمور تعتبر شروراً في هذا الزمان وهي لا تتجاوز الثلاث عشرة قدماً حجماً، ولا الثلاثة أشهر بقاء، وغداً سيولد ما هو أعظم منها. ولا بد من أن تخلق الحياة التنين المتفوق خليقاً بالإنسان المتفوق، فان شموساً محرقة ستدخل حرارة الإبداع في الغابات الغضة الرطبة لم تمسسها يد بعد

لا بد من أن تصبح وحوشكم نموراً وعقاربكم تماسيح، فيجد القناص في الغاب ما يرضيه

والحق أن فيكم كثيراً من المضحكات يا رجال العدل والصلاح. ولشد ما يضحكني خوفكم ممن دعوتموه إبليساً. لقد بعد المجال بين روحكم وكل عظيم، فإذا ما لاح لكم الإنسان المتفوق بصلاحه أورثكم خوفاً ورعباً. فانكم، ايها الحكماء والعلماء، ستولون الأدبار إذا ما لفحتكم الحكمة المشعة على الإنسان المتفوق في غبطته وعريه.

لقد وقعت عيني عليكم، آيها العظماء، فأدركت هذا السر، وهاأنذا أعلنه لكم، إنكم ستصفون الإنسان المتفوق الذي أنبئكم به بأنه شيطان الشياطين.

أتعبني هؤلاء العظماء، وأشدهم إرهاقاً أوفرهم عظمة، فأنا أتوق إلى اجتياز مرتبتهم فأفوتها وأنا أتجه إلى الإنسان المتفوق

لقد عرتني هزة عندما شاهدت خيار العظماء في عريهم فشعرت بجناحين استنبتهما ساعداي لأحلق بعيداً عنهم في آفاق الدهور الآتية. إنني أتوجه إلى الدهور البعيدة، إلى الظهيرات الغارقة بأنوار لم يحلم بها الفن من قبل، فهنالك تتجلى الآلهة خجولة من كل ما يقع من حوادث على الأرض.

ليتني أراكم متنكرين، أيها الاخوة والأقرباء، أهل الصلاح والعدل، فتبدون بحللكم وقد نفخها الغرور، وليتني أجلس بينكم متنكراً أنا ايضاً، كيلا أعرف من أنتم ولا أعرف من أنا، لأن هذه آخر حكمة من حكم البشر.

هكذا تكلم زارا. . .