مجلة الرسالة/العدد 221/في الأدب العربي
مجلة الرسالة/العدد 221/في الأدب العربي
دعبل الخزاعي الشاعر المتمرد
للأستاذ عبد الحليم عباس
قال دعبل: مضى علي ستون عاماً ما تصرم منها يوم إلا وقلت فيه شعراً. وقد يكون مغالياً في هذا ولكن الشيء الذي ليس فيه مغالاة أنه نظم كثيراً أضعاف ما خلص إلينا، فقد ضاع الكثير من شعره؛ وليس هذا الضياع بالمستغرب، وإنما المستغرب أن يصل إلينا شيء من شعره فقد كان الرجل طلعة، ومرعباً بهجائه. وحسبك أن تعلم أن من جملة من أقذع في هجومهم خمسة من الخلفاء، وفئة صالحة من الأمراء والوزراء والقواد، ثم كان إلى جانب ذلك شيعياً. أفلا ترى أن الزمن كان متسامحاً إذ أبقى على شيء من شعره؛ على أن هذه البقية كافية للحكم على شعره، وتقديره من حيث الجودة، ولكنها لا تكفي أبداً لدراسته من الناحية النفسية، فليس يمكننا أن نعرف معرفة صحيحة أسباب تمرده، ولا أن نجزم في الحكم على بواعث ثورته؛ وقصارى جهدنا أن نفترض وأن نتخذ من الكلمة الصغيرة ترد في سيرته مفتاحاً للغوص على هذه النفس العجيبة. . .
كان البحتري يتعصب لشعره، ويفضله على مسلم بن الوليد، ويقول في أسباب هذا التفضيل: (إن شعره أدخل في كلام العرب من شعر مسلم. . .) أما إنه أدخل في كلام العرب من شعر مسلم فمما لا يمتري فيه اثنان، بل لعله أدخل في كلام العرب من شعر كل الشعراء الذين تقدموه في الدور الأول للدولة العباسية؛ وأما أنه خير من مسلم فالبقية الباقية لا تجيز لنا هذه المقارنة. هو متين السبك، شديد أسر التراكيب، فحل الأسلوب، حتى لو دعته الضرورة أن يقول شعراً في أقل الأمور التي لا تدعو إلى الاحتفال بالشعر ولفظه، قال:
أسر المؤذن صالحٌ وضيوفه ... أسر الكمى هفا خلال الماقط
بعثوا إليه بنيه ثم بناتهم ... ما بين ناتفةٍ وآخر سامط
يتنازعون كأنهم قد أوثقوا ... خاقان أو هزموا كتائب ناعط
وما هذا المؤذن الذي أسره صالح وضيوفه، كأنهم أسروا الخاقان وهزموا الكتائب؟ ديك دجاج لا أكثر ولا أقل. أتينا بهذه الأبيات، لندلل على أن دعبل لا يتنزل عن فحولة اللفظ حتى في أتفه المواقف. . ولكن واأسفاه لقد ضاع جلة هذا الشعر الفحل. ولنترك الآن الأسف والحكم على شعره فليس ذلك بمجٍد شيئاً. . ولندرسه على ضوء ما تبقى من شعره ومن سيرته
والآن أيهما الشقي بصاحبه: أدعبل وهو يحمل خشبته - على حد تعبيره - فلا يجد من ينزو به الغيظ وتثور به الحمية فيصليه عليها، أم أهل عصره وهم يتجرعون غصص ثورته، ويصطلون بنار هجوه، يمدحهم مرة فيغدقون عليه النعم، ويتملقونه بالهبات، عله يفيء إلى الرضا، ولكنهم ما يعتمون - لا لشيء إلا أن دعبل أراد - أن يرو الرضا ينقلب سخطا، والمدح هجاءً مقذعاً، لا تشفع فيه عارفة، ولا ينهنهه الخوف من سلطان.
لم يترك وزيراً ترهب صولته، ولا قائدا يخشى فتكه، إلا شنع عليه حتى الخلفاء رقى إليهم، فأقض مضاجعهم، وبعث فيهم من الوجل أضعاف ما بعث فيه سلطانهم. تصافي والمأمون - عقب هجائه لأبيه - فلا أذن سمعت، ولا قصيدة اشتهرت حتى كان كما يقول تاريخ عصره أول داخل على الخليفة، وآخر من يترك مجلسه، ولكنها أيام. . . وإذا ببغداد تنشد قصيدة جديدة في هجو الخليفة من نظم دعبل
ويأخذ الرشيد بطبعه، وهو الخامل بعد لم تعرفه أندية الشعر ولا محافل بغداد، وتصله هبته قبل أن تراه عينه، ثم يموت الرشيد فيكون رثاؤه إياه. . .
قبران في طوس: خير الناس كلهم، ... وقبر شرهم هذا من العبر
لا ينفع الرجسُ من قرب الزكىِّ ولا ... على الزكىِّ بقرب الرجس من ضرر
والرجس هاهنا هو الرشيد. . .
ونعجز إن نحن لاحقناه، نذكر من تصدى لهجائهم، فحسبك أن تعلم أنه لم يسلم منه - كما يقولون - أقرباؤه ولا عشيرته الأدنون، فقد هجا خزاعة، وما خزاعة غير قبيلته التي أراد أن يكون فيها نسبه، فالبعض يهمس همساً خفياً - فرقاً منه - أنه دعي النسب في خزاعة. فأيهما الشقي؟ اهو بعصره، أم عصره به؟
أما هو فقد استمرأ طعم الشقاوة، بل نظن أنه كان يجد فيها لذته
ما أطول الدنيا وأعرضها ... وأدلني بمسالك الطرق
الحق أن أهل عصره هم الأشقياء به، هو بلاء صب عليهم في أرفه العصور وأحلاها: لقد طبع - أبو علي - وهذه كنيته - على الهجاء، وما هو بالهجاء، وإنما الحريق يأتي على العدو والصديق، فم علة هذا؟ أهي نفس فطرت على الشر بطبيعتها؟ أم أن هناك دوافع وحوافز ساقته إلى النقمة وقسرته على هذا التمرد؟ هذا ما نحاول جهدنا أن نتلمسه في سيرته وما نأسف - من أجله - على ضياع الكثير من شعره
وأول ما يتبادر للذهن انه قد يكون في عقيدته الدينية تعليل لنقمته على عصره، فقد كان شيعياً كما أسلفنا، أشاد بمدح العلويين فمن المحتمل أن يكون انساق مع عاطفته الدينية، فاخذ يشنع على العباسيين، الخلفاء والوزراء وكل من له صلة بهم؛ على أن هذا إن يصدق على شاعر فعلي غير دعبل، فالعصر العباسي شهد ثلاثة من الشعراء المتشيعين، دعبل، والسيد الحميري، وديك الجن، واوسطهم أخلصهم للعلويين، السيد الحميري هو الذي اتخذ مدح العلويين مجالاً لشعره، أما الاثنان الآخران فقد كان تشيعهم من النوع الحقيقي - إن صح هذا التعبير - انهمك الشاعر السوري في رثاء جاريته وردة، وفي البكاء والحنين على جوار أخر. . . أما دعبل فقد وجد في الهجاء متسعاً يلهيه عن التشيع. . . لم تعرف له في العلويين قصيدة عبقرية خلا واحدة
مدارسُ آياتٍ خلتْ من تلاوةٍ ... ومنزلُ وحيٍ مقفر العرصات
صحيح أنها صادقة اللوعة، تنم عن إخلاص، وهو شيء لا ننكره، وإنما الذي نذهب إليه وتؤيده سيرته نفسها أن يكون مصدر نقمته على الذين هجاهم نظرته إليهم كمغتصبين أو كأعوان لمغتصبي حق أبناء علي، وإلا فما يمنعه أن يلمح إلى أفضليتهم في خلال هجائه للعباسيين على الأقل؟ مرة واحدة ذكرهم في هجو الرشيد
وليس حيٌ من الأحياء نعرفه ... من ذي يمان من بدو ومن حضر
إلا وهم شركاءٌ في دمائهم ... كما تشارك أيسارٌ على جزر
وليس يرد على هذا المأمون جد في طلبه لهذه القصيدة فغير دعبل يستشعر الخوف، أو يتدبر العواقب. أليس هو القائل للمأمون نفسه:
إني من القوم الذين سيوفهم ... قتلت أخاك وشرفتك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خموله ... واسترفعوك من الحضيض الأوهد
والقائل المتوكل: ولست بقائل قذعاً ولكن ... لأمر ما تعبدك العبيد
وللمعتصم:
ملوك بني العباس في الكتب سبعةٌ ... ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة ... خيارٌ إذا عدوا وثامنهم كلبُ
وشيء آخر إذا كان كرهه للخلفاء، ومناصبته إياهم العداء، تشيعاً لأبناء علي، فما ذنب أقربائه؟ ما ذنب عشيرته خزاعة، بل ما ذنب هؤلاء الذين ليس لهم من جريرة غير موافقة أسمائهم للقافية في شعر دعبل
ما جعفر بن محمد بن الأشعث ... عندي بخير أبوة من عثعث
عد البيوت التي ترضى بعشيرتها ... تجد فزارةً العكلي من نسبك
إذن فلم تكن العقيدة الدينية هي كل السر في هذه الثورة، وعامة هذا الهجاء، لعله تعصبه للقحطانية على النزارية، لا على الأرجح، لأن من بين من هجاهم من ليسوا من نزار، بل نظن أن هذه كلها دوافع جاءت متاخرة، وإنما السر كله في تركيبه
يقول لأحد أصدقائه: ما كانت لامرئ عندي من منةٍ إلا وتمنيت موته. فما عسى يرى علماء النفس في هذه الخاطرة؟؟ أباء منحرف عن وجهته؟ كيفما يكن فما هو بالرجل الخير هذا الذي يود أن يكافئ المحسن إليه بتمني الموت له
وما ترى فيمن تهتاج نفسه لقول الشعر، فتضيق عليه فنون الشعر إلا أن ينشئه هجاء، فإذا سأله سائل: لمن؟ قال: (لم يستحقه أحد بعد، حتى إذا ما لاحاه أحد، ذكر اسمه فيه، ونشره في الناس
ودعبل يعلل هذه الظاهرة في نفسه بأن الهجاء آخذ بطبع الشاعر من المديح وأن الناس له أرهب. وقد قال مثل هذا بشار وقد يكون بشار صادقاً بالقياس لنفسه، بل هو صادق ما في ذلك شك، ولكن دعبلاً قد أخطأ في تعليل ظاهرة الهجاء فيه؛ إنه مسوق إليه بطبيعته، إنه يفتن فيه، ويتخذه مجالاً لفنه، كما يتخذ بعض الشعراء الغزل مجالاً للقريض
وعدا هذه الطبيعة المتمردة والناقمة فيه منذ نشأته الأولى، فقد كان يرافق الشطار واللصوص، واتهم مرة بالقتل
وبقي هذا الخلق ملازماً له كل حياته، فكان يلاقي قطاع الطرق يؤاكلهم ويؤانسهم، فلا يؤذونه (ولا هو يتعرض لهم بأذى) قال أحدهم: ما زلت أعرف فيه مشية الشطار
هو ناقم ولكنك لا تلمح فيه هذه النقمة إلا هينة لينة، فلا يشكو الزمن كما يشكوه غيره من كبار الناقمين، كأنه أعلى من أن يضج بشكوى. . .
حملت على زمنٍ ظالعٍ ... فوف تكافى بشكر زمن
وهو إذ يتهجم على الأحياء ويستفد جهد ثورته، لا يوازن بين قدره وأقدارهم كما يفعل ابن الرومي في الهجاء، ولعل مرد هذا إلى أن دعبل لم يكن معجباً بنفسه كما كان ابن الرومي الذي أضعف أدواته الشعر
وإذا كان الهجاء آخذا بطبع الشاعر، فما باله يكره ملاقاة الخلفاء أمنية كل شاعر؟ أراد ابن المدبر أن يقدمه للخليفة فاعتذر أحد أصدقائه: إن أبا علي موسوم في الهجاء ومنيته أن يخمل ذكره. فقال دعبل لصديقه: ما عدوت الذي بنفسي
ولسنا نحب أن نختم هذا الفصل دون أن نشير إلى شيء من التسامح الذي تحلى به عصره. أحب أبو مسعد المخزومي أن يوغر عليه صدر المأمون فأنشد هجاءه فيه، فقال: أجبه، قال: لو أمرتني أن آتيك بالذي على منكبيه لفعلت. قال: أما هذه فلا. . .
إن العصر الحديث جد محتاج إلى ملوك وأمراء ووزراء يستبقون القتل والسجن لغير رجال الأدب
(شرق الأردن)
عبد الحليم عباس