مجلة الرسالة/العدد 213/في التاريخ السياسي:
مجلة الرسالة/العدد 213/في التاريخ السياسي:
المأساة الفلسطينية ومشروع التقسيم البريطاني
بقلم باحث دبلوماسي كبير
لما تسربت الأنباء الأولى عن مشروع اللجنة الملكية البريطانية في تقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما عربية والأخرى يهودية، وقبل أن يذاع تقرير اللجنة أبدينا في (الرسالة) أن هذا الحل الجديد الذي ابتكرته السياسة البريطانية لتسوية المسألة الفلسطينية لم يكن حلاً موفقاً، وأنه لا يمكن أن يرضي أحداً من الفريقين المتنازعين
والآن وقد مضت أسابيع على ظهور تقرير اللجنة عن مشروع التقسيم، وعرفنا إلى أي حد ذهبت اللجنة الملكية في استنتاجاتها وفي توصياتها، وكيف استقبل العرب مقترحاتها بعاصفة من السخط والإنكار المطلق لا في فلسطين وحدها ولكن في جميع أنحاء الجزيرة العربية، وكيف اعتزمت فلسطين أن تستأنف النضال في سبيل حياتها وكيانها، وكيف تغدو اليوم وشيكة انفجار جديد لا تؤمن عواقبه، فأنه يصعب علينا أن نعتقد أن الحكومة البريطانية التي أقرت مقترحات اللجنة على عجل لم تعتده في مثل هذه المناسبات الخطيرة، ستغضي عن هذه العوامل الجيدة التي ظهرت في الميدان منذ ظهور التقرير، والتي لا يمكن أن تعاون على استتباب السلام المنشود في فلسطين
إن مشروع التقسيم الذي تقترحه اللجنة يمزق فلسطين شر ممزق بل هو يقضي القضاء الأخير على كيانها القومي ويخرجها من عداد الأمم والمجتمعات ذوات المميزات الخاصة ويحرمها من كل أمل في التقدم والنهوض؛ وإن نظرة واحدة إلى الحدود المقترحة لهذا التقسيم تكفي للحكم بأن فلسطين تمحى بمقتضاه من خريطة الوجود ولا يبقى منها برسم الدولة العربية الجديدة سوى صخور وبسائط صحرواية لم يتح للعمران طيلة القرون أن يذللها وأن يستثمرها؛ وماذا عسى أن يبقى من فلسطين العربية إذا اقتطعت منها كل سواحلها وثغورها وقواعدها المقدسة وكل بقاعها الخصبة؟ إن الدولة اليهودية التي يشير التقرير بإنشائها تشمل في الواقع كل قواعد فلسطين وثغورها التاريخية عدا ثغر يافا الذي يبقى وحده مخرجاً بحرياً للقسم الصحراوي الذي خصص للعرب؛ أما بقاع فلسطين المقدسة التي لبثت علماً عليها طوال القرون فقد تقرر أن تؤلف منها منطقة خاصة توضع تح أشراف عصبة الأمم أو بالحري تحت إشراف الانتداب البريطاني، وبذلك تجرد كل فلسطين من قواعدها التاريخية وكل ثرواتها ومواردها الاقتصادية في مصلحة الدولة اليهودية الجديدة؛ ومع ذلك فاللجنة الملكية تنوه في تقريرها بأهمية هذا التقسيم بالنسبة للعرب، وتقول لنا إنه (سيمكنهم من الحصول على استقلالهم الوطني والتعاون على قدم المساواة مع العرب في البلاد المجاورة، وذلك في كل ما يؤول إلى وحدة العرب ونجاحهم وسيخلصون نهائياً من خوف تسلط اليهود عليهم ووقوع الأماكن المقدسة بيد اليهود)
على أن هذه الألفاظ المعسولة لا تغير شيئاً من الحقيقة الهائلة وهي أن مشروع التقسيم يمحو فلسطين العربية من خريطة الوجود لينشئ على أنقاضها وتراثها التاريخي مملكة إسرائيل وليحقق بذلك حلم اليهودية القديم؛ نعم إن المساحة التي تضمها الدولة اليهودية الجديدة هي أقل مما تطمح إليه اليهودية، ولكنها تحتوي كما قدمنا على أطيب ما في فلسطين من قواعد وثغور، واليهودية تغدو في هذا الحيز الضيق أقوى وأشد إيماناً بالمستقبل؛ ثم هي مع ذلك بدء فقط؛ واليهودية تأسف بلا ريب أن تخرج بيت المقدس من قبضتها وهي مثوى تراثها الروحي وذكرياتها المقدسة، ولكنها تتعزى عن ذلك بخروجها من قبضة العرب أيضاً، وكونها وهي في يد إنكلترا أقرب إلى نفوذهم؛ ومن يدري فقد تسنح الفرصة فيما بعد لاستردادها بطريقة من الطرق، وبذلك يصبح ظفر اليهودية بإحياء مملكة إسرائيل القديمة كاملا شاملا
والخلاصة أن مشروع التقسيم هو قرعة الفناء للأمة الفلسطينية وهي حقيقة لم يتردد العرب لحظة في إدراكها، ومن ثم كان رفضهم للمشروع بهذا الإجماع السريع المؤثر الذي هو عنوان الخطر القومي، والذي تلوذ به الأمم المجاهدة في مواقف الحياة والموت؛ ولقد جاهدت فلسطين مذ نكبت بالانتداب والوطن القومي اليهودي في سبيل حريتها وعروبتها، ولم تقبل أن تكون ميداناً لهذه التجربة اليهودية الخطرة التي لم تكن تتوجها مع ذلك أية صبغة شرعية أكثر من وعد الحكومة البريطانية بمؤازراتها، فكيف ينتظر منها أن تقبل اليوم أن تقوم في قلبها وفي أطيب بقاعها مملكة يهودية تتمتع بصفة شرعية دولية، تنازعها البقاء وتنذرها بالفناء العاجل بما هيئ لها من أسباب التفوق السياسي والاقتصادي والاجتماعي ومن حسن الطالع أن الأمة الفلسطينية لا تقف وحدها في هذا النضال الذي هو بالنسبة إليها معركة الحياة والموت، فإن شقيقاتها العربيات قد فزعت لفزعها وهبت من حولها تنصرها وتشد أزرها بالقول والعمل معا، فألقى رئيس الوزارة العراقية تصريحاته الرسمية المعروفة في إنكار مشروع التقسيم والحملة عليه بشدة، وفي التنويه بما تتعزمه العراق من مقاومته باعتباره خطراً لا على فلسطين وحدها ولكن على الأمة العربية بأسرها؛ ولم يقف رئيس الوزارة العراقية عند هذه التصريحات القوية الحازمة بل قدم احتجاجه بصفة رسمية إلى الحكومة البريطانية؛ وأيد الشعب العراقي موقف حكومته بتنظيم مظاهرات الاحتجاج في بغداد وغيرها؛ وحذت الحكومة السورية حذو الحكومة العراقية في إلقاء التصريحات الرسمية بمعارضة مشروع التقسيم، وفي توجيه الاحتجاج الرسمي إلى الجنة الانتداب بعصبة الأمم، وقام الشعب السوري بمظاهرات مماثلة لتأييد فلسطين في موقفها؛ وقامت مظاهرات مماثلة في الحجاز، وما تزال عواصم الجزيرة العربية كلها تضطرم بأمواج الاحتجاج والسخط على مشروع التقسيم والعطف على فلسطين وتأييدها في جهادها. كذلك لم تكن مصر بمعزل عن هذه الحركة وإن تكن الحكومة المصرية قد آثرت أن تعمل في صمت وهدوء؛ فقد أعرب رئيس الحكومة المصرية في بيانه الرسمي بمجلس الشيوخ عن اهتمام الحكومة المصرية بالقضية الفلسطينية وأشار إلى ما جرى من اتصاله بالحكومة البريطانية في شأنها أكثر من مرة، وإلى أنه عقب ظهور تقرير اللجنة الملكية قد بادر باستئناف هذا الاتصال والسعي بالمسائل الدبلوماسية إلى العمل على صيانة حقوق العرب ومصالحهم، مؤثراً ألا تكون هذه المساعي موضع المناقشة العلنية حرصاً على مصلحة فلسطين ذاتها؛ هذا إلى ما أبدته الهيئات السياسية والوطنية المصرية من احتجاج على مشروع التقسيم وتأييد قلبي لفلسطين.
والواقع أن قيام اليهودية في فلسطين في مثل هذا الحشد القوي المنظم، خطر داهم لا على فلسطين وحدها، ولكن على العالم العربي والإسلامي كله؛ ويزيد هذا الخطر ويذكيه أن تنتظم اليهودية على هذا النحو إلى دولة ذات شخصية مستقلة تجثم في قلب العالم العربي؛ وهذا الخطر متعدد النواحي، فمن الوجهتين السياسية والاقتصادية يخشى أن تكون هذه الدولة الجديدة التي لا يتأتى لها البناء إلا على ما تستطيع تقويضه من صروح الأمة العربية، مصدر اضطراب دائم في هذا الجزء من الجزيرة العربية؛ وخطرها السياسي على كيان الأمة العربية ظاهر لا يحتاج إلى بيان؛ أما خطرها الاقتصادي فنحن نعرف كيف تعمل اليهودية بوسائلها القوية المعروفة أينما حلت على الاستئثار بجميع الثروات والمرافق؛ على أن هناك خطراً أشد وأفدح من قيام اليهودية في صميم المجتمع العربي والإسلامي على هذا النحو، هو الخطر المعنوي إذا صح التعبير؛ ذلك أن اليهودية كما يشهد تاريخها الفكري والفلسفي تضطرم دائماً بروح الثورة والانتفاض والهدم، وقد كان هذا الروح الثوري الهدام مبعث كثير من الحركات الثورية الهدامة الخفية والظاهرة التي قلبت أوضاع المجتمع، وبثت إليه كثيراً من عناصر الانحلال والفوضى؛ ويكفي أن نمثل لذلك بالشيوعية التي تعتبر اليوم أخطر عناصر الهدم، فهي من نفثات العقلية اليهودية؛ ومذ حلت الصهيونية في فلسطين ظهرت معها العناصر الشيوعية وأخذت تتسرب إلى مصر وسوريا والعراق؛ وهذه العناصر الثورية الهدامة التي تحملها اليهودية معها إلى فلسطين، تغدو إذا ما اشتد ساعد الدولة اليهودية الجديدة خطراً داهما على الأمم العربية التي تجثم في صميمها.
والأمم العربية تقدر كلها هذا الخطر، وكلها من وراء فلسطين في درئه ومقاومته؛ وقد أبدت فلسطين عزمها جلياً قاطعاً على استئناف النضال إذا لم تسمع شكايتها العادلة، وإذا أريد أن تفرض عليها سياسة التقطيع والتمزيق بالقوة القاهرة. على أننا من جهة أخرى نعتقد أن السياسة البريطانية الفطنة لم يفتها أن تقدر ما كان لمشروع التقسيم من سوء الواقع، ولم يفتها بالأخص أن تلاحظ موقف البلاد العربية والإسلامية الأخرى وما ينطوي عليه من دلائل لا تستطيع السياسة البريطانية أن تغفلها؛ ومع أن الحكومة البريطانية قد وافقت على تقرير اللجنة الملكية عن مشروع التقسيم فإن ذلك لا يعني أنها قد اتخذت خطتها النهائية إزاء المسألة الفلسطينية؛ كذلك لم يتخذ البرلمان البريطاني أي قرار في شأن المشروع بالرغم من المناقشات العديدة التي جرت حوله والتي لم تخل من بعض ميول معارضة للتقسيم؛ بل آثر أن يرجئ قراره حتى تنتهي لجنة الانتداب الدائمة لعصبة الأمم من بحث المشروع، وهو الآن أمامها قيد النظر.
والخلاصة أن السياسة البريطانية لا تزال بالنسبة للمسألة الفلسطينية في مفترق الطرق، وهي إذا استطاعت أن تغفل اعتراضات العرب على مشروع التقسيم وإقامة الدولة اليهودية، فأنها لا تستطيع أن تغضي عن موقف الأمم العربية والإسلامية، وهي جميعاً تؤيد فلسطين في ظلامتها ومحنتها؛ وإنكلترا التي تربطها بالأمم العربية والإسلامية روابط صداقة متينة هي اليوم أشد حاجة منها في أي وقت آخر إلى تأييد هذه الأمم ومحالفتها؛ وموقع فلسطين والجزيرة العربية في طريق المواصلات الإمبراطورية أمر جوهري بالنسبة لمستقبل الدفاع عن الهند والإمبراطورية البريطانية؛ فهذه العوامل كلها مما يحملنا على الظن بأن المسألة الفلسطينية قد تجوز تطورات هامة أخرى قبل أن يستبين المصير النهائي الذي قدر لها؛ وللسياسة أعاجيب لا تفنى وكم سمعنا أيام اشتداد النضال بين مصر وإنكلترا، وعيد السياسة البريطانية بضم مصر إلى الإمبراطورية إذا لم تخلد إلى السكينة وتقبل المصير الذي يفرض عليها، ولكن مصر لم تن للوعيد حتى اضطرت سياسة القوة الغاشمة أن تختفي، وأن تترك المجال حراً لسياسة التفاهم والوفاق؛ وكل ما نرجوه في هذه الكلمة هو أن توفق الأمة الفلسطينية المجاهدة في دفاعها المؤثر عن كيانها، وأن يكلل جهادها بما يحقق أمانيها وطمأنينتها.