مجلة الرسالة/العدد 213/السرقات الأدبية
مجلة الرسالة/العدد 213/السرقات الأدبية
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
سأقص على القراء حادثة أعذر من لا يصدقها ولا ألوم من يرتاب في صحتها، ولكنها مع ذلك حقيقة، وبعض الحقائق أغرب من تلفيقات الخيال. وذلك أني على أثر الثورة المصرية في سنة 1919 ذهبت إلى الإسكندرية لأقضي فيها أياماً أو لأتخذ فيها مقامي - حسب الأحوال - وكنت لا أزال سقيم الأعصاب جداً. وكنا في رمضان فأفطرنا واسترحنا ثم خرجنا لنحيي الليل بالسهر كما هي العادة وكنت منشرح الصدر، ولكني لم أكد أتجاوز عتبة البيت حتى وقفت وقلت لقريبي إني محموم، فأنا راجع، فجسني فلم يجد بي شيئاً فأصررت على أنها الحمى، فرقدت وكنت لا أكاد أطيق الصهد الذي أحسه. وزال عني ذلك بعد ساعة أو اثنتين غير أني لزمت الفراش وعادني طبيب الأسرة في اليوم التالي فقال: إن هذه حمى عصبية. فاستغربت ولكني عانيت من الأعصاب ما جعلني أصدق كل شيء، وبقيت أياماً في البيت زارني في خلالها صديقي الأستاذ العقاد وترك لي رواية روسية أتسلى بها، فأكببت عليها وقرأتها في ساعات أحسست بعدها أني صرت أقوى وأصح بدناً وأقدر على المكافحة والنضال في الحياة، وأنه صار في وسعي أن أستخف بما يحدث لي سقم الأعصاب من الوهم. وعدت إلى القاهرة، ومضى عام فطلب مني بعضهم أن أترجم له رواية؛ فقلت لنفسي إني مدين لهذه الرواية الروسية بشفائي بالروح الجديدة التي استولت علي، فيحسن أن أنقلها إلى العربية عسى أن تنفع غيري كما نفعتني. وقد كان. نقلت الرواية بسرعة، وكنت أذهب إلى المطبعة لتصحيح المسودات فيقول لي العامل أحياناً: إن الأصول نفدت، فأقعد في أي مكان وأفتح الرواية أروح أترجم وأرمي للعمال بالورقة بعد الورقة، وكأني أدون كلاماً حفظته من قبل. ولست أذكر هذا الأباهي به ولا أقول لكم إني رجل بارع، بل لسبب آخر سيأتي ذكره في موضعه. وفرغنا من الترجمة والطبع؛ ولم يعن الناشر بأن يبعث إلي بنسخة من الرواية ولم أعن أنا بأن أطلب أو أدخر نسخة؛ وقد نسيت أن أقول إني سميتها (ابن الطبيعة) وكان اسمها في الأصل (سَنين) وهو اسم بطلها. وليس هذا إعلاناً فقد نفدت من زمان طويل. كان هذا في سنة 1920. وفي سنة 1926 شرعت أكتب قصة (إبراهيم الكاتب) وانتهيت منها ولم أرض عنها فألقيتها ف درج حتى كانت سنة 1930 فخطر لي أن أنشرها، فدفعت بها إلى المطبعة، فاتفق بعد أن طبعنا نحو نصفها أن ضاعت بعض الأصول وكنت لطول العهد قد نسيت موضوعها وأسماء أشخاصها فحرت ماذا أصنع؛ ثم لم أر بداً من المضي في الطبع فسددت النقص ووجهت الرواية فيما بقي منها توجيهاً جديداً. ونشرت الرواية. وبعد شهور تلقيت نسخة من مجلة (الحديث) التي تصدر في حلب وإذا فيها فصل يقول فيه كاتبه إني سرقت فصلا من رواية ابن الطبيعة. فدهشت ولي العذر. واذكروا أني أنا مترجم ابن الطبيعة وناقلها إلى العربية، وأن أربعة آلاف نسخة نشرت منها في العالم العربي، وإني أكون أحمق الحمقى إذا سرقت من هذه الرواية على الخصوص. فبحثت عن ابن الطبيعة وراجعتها وإذا بالتهمة صحيحة لا شك في ذلك، بل هي أصح مما قال الناقد الفاضل. فقد اتضح لي أن أربع أو خمس صفحات منقولة بالحرف الواحد من ابن الطبيعة في روايتي (إبراهيم الكاتب). أربع أو خمس صفحات سال بها القلم وأنا أحسب أن هذا كلامي. حرف العطف هنا هو حرفه هناك؛ أول السطر في إحدى الروايتين هو أوله في الرواية الأخرى. . . لا اختلاف على الإطلاق في واو أو فاء أو اسم إشارة أو ضمير مذكر أو مؤنث. . . الصفحات هنا هي بعينها هناك بلا أدنى فرق. ومن الذي يصدقني إذا قلت إن رواية ابن الطبيعة لم تكن أمامي ولا في بيتي وأن أكتب روايتي؟ من الذي يمكن أن يصدقني حين أؤكد له أني لم أر رواية ابن الطبيعة مذ فرغت من ترجمتها، وأني لو كنت أريد اقتباس شيء من معانيها أو مواقفها لما عجزت عن صب ذلك في عبارات أخرى؟ لهذا سكت ولم أقل شيئا وتركت الناقد وغيره يظنون ما يشاءون فما لي حيلة. ولكن الواقع مع ذلك هو أن صفحات أربعاً أو خمساً من رواية ابن الطبيعة علقت بذاكرتي - وأنا لا أدري - لعمق الأثر الذي تركته هذه الرواية في نفسي فجرى بها القلم وأنا أحسبها لي. حدث ذلك على الرغم من السرعة التي قرأت بها الرواية والسرعة العظيمة التي ترجمتها بها أيضاً. ومن شاء أن يصدق فليصدق، ومن شاء أن يحسبني مجنونا فإن له ذاك. ولست أروي هذه الحادثة لأدفع عن نفسي فما يعنني هذا، وإنما أرويها على أنها مثال لما يمكن أن تؤدي إليه معابثة الذاكرة للإنسان. وليست الذاكرة خزانة مرتبة مبوبة، وإنما هي بحر مائج يرسب ما فيه ويطفو بلا ضابط نعرفه ومن غير أن يكون لنا على هذا سلطان. فالمرء يذكر وينسى. ويغيب عنه الشيء ويحضر بغير إرادته وبلا جهد منه، ويعلق بذاكرته ما يعلق وهو غير دار أو مدرك لما يحدث، وتتزاوج الخوالج وتتوالد كما يتزواج الناس ويتوالدون وهو غير شاعر بشيء مما يجري في نفسه من التفاعل وأثره
ولست أحب أن أجعل من نفسي قاضيا يحكم على هذا بالسرقة وعلى ذاك بالانتحال إلى آخر هذا، وإنما أحب أن أعلل وأفسر الحالات أو الحركات النفسية التي تؤدي إلى ما يمكن أن يسمى سرقة أو اقتباساً أو التي تغري إنساناً بما فكر فيه غيره. ولا جديد في تعليلي أو تفسيري فأنه قائم على علم النفس، وإنما الجديد هو التوجيه أو التطبيق، ولا فضل في هذا ولا مزية له. ومن أجل ذلك أقصر هذا في الفصل على الأمثلة فإن المقام لا يتسع لها ولما يبدو لي من وجوه التعليل، وأرجو أن تتاح لي فرصة قريبة أشرح فيها مذهبي ورأيي في هذه الحالات
وقد عني العرب بتعقب شعرائهم، فكل شاعر ظهر له من ينخل كلامه ويغربله ويرد المعاني إلى أصحابها أي إلى الذين سبقوا إليها. والسبق في الزمن هو الذي يكسب السابق الحق في المعنى؛ وأنا أقول المعنى لأنه لم يكن ثم موضوع للقصائد غير الأغراض المألوفة مثل المدح والهجاء والفخر والغزل وما إلى ذلك. ولما كان البيت في الشعر العربي القديم هو الوحدة فقد صارت الأبيات المفردة هي مدار هذا الضرب من النقد؛ فهذا أخذ معنى البيت الفلاني من فلان، وذاك نظر إلى قول علان، إلى آخر هذا إن كان له آخر. ولهم في هذا الباب حكايات بعضها لاشك مختلق والبعض قد يكون صحيحا، وأعني بهذه الحكايات ما يراه المرء في كتب الأدب من أن بعض الشعراء المستهترين المستخفين بالدنيا وما فيها من مثل أبي نواس سمع شاعرا مغمورا ينشد قصيدة فأعجبه معنى بيت فيها فأخذه جهرة وقال: أيروى لك هذا المعنى وأنا حي؟. . ومثل ما يروون من أن المتنبي كان ينكر في حياته أنه قرأ شعر ابن الرومي، فلما قتل وجدوا بين أوراقه نسخة خطية بالطبع من ديوان ابن الرومي وعليها تعليقات بخط المتنبي. ولا فائدة من محاولة التمثيل لهذا النوع من السرقات فإن الكلام خليق أن يطول بلا جدوى ومن غير أن نجيء فيه بجديد وأكثر القراء يستطيعون أن يرجعوا إليه إذا شاءوا في كتب الأدب المتداولة. لهذا أوثر أن أسوق أمثلة مما في الآداب الغربية مما يدخل في باب السرقات فإن الأمر في هذه أمر موضوع يقتبس، أو قصيدة برمتها تؤخذ من أولها إلى آخرها على طولها بالحرف الواحد. والقليلون يعنون بتعقب هذا فذكر أمثلة منه خليق أن يكون أمتع.
أشهر شعراء الإغريق هومر كما لا أحتاج أن أقول؛ وقد قرأت ترجمتين إنجليزيتين له وحطمت رأسي بهما وأعترف أنه لم يرقني منه إلا القليل، ولكن كنت أخشى أن أجاهر بهذا الرأي لئلا يقول عني إخواني إن ذوقي فاسد أو إن بي نقصاً في الاستعداد الأدبي؛ أما الآن فإني أستطيع أن أجهر بذلك وأن لا أخشى تهماً كهذه. على أني لا أذكر هومر الآن لأقول رأيي فيه بل لأروي قصتين صارتا الآن معروفتين: الأولى أن الأدب الإغريقي كان في العصور الوسطى مجهولاً أو مدفوناً وكان لا يعرفه إلا الرهبان الذين احتفظوا بنسخ منه ضنوا بها على النشر والإذاعة لأنه أدب وثني، وفيما عدا هؤلاء الرهبان لم يكن أحد يعرف شيئاً لا قليلا ولا كثيراً عن الأدب الإغريقي، فكان من سخرية الأقدار أن الرجل الذي رد إلى العالم هومر في القرن الرابع عشر كان سكيراً نصاباً وشريراً كبيراً، وأن الرجل الذي حمله على ترجمة هومر كان من أبرع كتاب النهضة، وأن الرجل الذي آلى على نفسه أن يعمل على نشر جمال الأدب الإغريقي في العالم كان لا يعرف حرفاً واحداً من اللغة الإغريقية. هؤلاء الثلاثة الذين جمعهم الحظ هم بيلاتس وبوكاكشيو وبترارك فأما أولهم فكان مغامراً يؤثر أن يستخفي لأسباب لعل البوليس أعرف بها؛ وكان قذراً كثير الشعر دميم الخلقة، ولكنه كان يعرف اللغة الإغريقية فجاء به بوكاكشيو وأنزله عنده ضيفاً فبقي ثلاث سنوات. أما بوكاكشيو فمعروف مشهور وهو عندي أنبغ نوابغ الإيطاليين ولكنه كان ساذجاً وكان لا يعرف قدر نفسه وكان عظيم التوقير لبترارك حتى لقد صار في آخر حياته يخجل لأنه كتب ما كتب باللغة الإيطالية العامية لا باللاتينية. وأما بترارك فقد اقتنع لسبب لا نعرفه بأن المخرج الوحيد من السوء الذي يراه في زمانه هو إحياء درس الأدب الإغريقي، ويظهر أنه كان هناك اعتقاد بأن هذا الأدب المقبور هو القادر وحده على حل المشاكل التي كانت تواجه العالم في ذلك الزمان، وهكذا عرف الناس هومر بعد أن قبره الزمن عدة قرون.
ومن المحقق أن هومر كان يعرف الأساطير المصرية وأنه استعان بها في قصيدته - الإلياذة والأوديسية - وأحسب أن كثيرون قرءوا البحوث التي نشرها الأستاذ عبد القادر حمزة وأثبت فيها - استناداً إلى ما وقف عليه وكشف عنه العلماء بالآثار المصرية والتاريخ المصري القديم - أن هومر أخذ كل العقائد وكل القصص من المصريين. والمصريون كما لا يحتاج أن أقول - أسبق بآلاف السنين لا بمئاتها فقط، وهم الذين نشروا في العالم القديم العقائد التي لا تزال باقية إلى اليوم. وهم أول من فكر في الروح والآخرة والحساب والعقاب. وقد ذهبت مدنيتهم ولكن آثارها بقيت وهي على قلتها كافية للدلالة على حضارتهم. وقد نشر الأستاذ عبد القادر حمزة النصوص وأثبت منها أن هومر أخذ قصصه من مصر وأن كل ما فعله هو تغيير الأسماء وقلبها إغريقية. وأنا أزيد على ذلك أن هيرودوت يقول عن هومر كلمة لها مغزاها، ذلك أنه يصف عمله بأنه (تنظيم)، ويقول عنه في موضع آخر إنه وضع (إطاراً) للقصص، وفي موضع آخر أيضاً إنه (جمع). ومعنى هذا أنه كان معروفاً أن هومر لم يبتكر قصصه وإنما جمعها ورتبها ونظمها. ويظهر أنه كانت هناك روايات متعددة مختلفة وأن هومر شعر بالحيرة بينها ولم يدر أيها يؤثر: الرواية المصرية أم الروايات المشوهة التي شاعت في إسبارطة وأثينا وفي غيرهما؟ ولهذا اضطرب ولم يستقر على رأي في أيهما هو البطل - هكتور أو أخيل - ويرجح بعضهم أنه لحيرته بين الروايات المختلفة أعد نصين، واحداً ينشده على الجانب الأسيوي والآخر ينشده على الجانب الأوربي. على أن المهم أن هومر أخذ موضوعه كله بكل ما انطوى عليه من مصر، فلولا مصر لما كان هومر. وأحسب أن الدنيا ما كانت حينئذ تخسر شيئاً فقد أصبح هومر اسماً لا أكثر
وأدع التوافه مثل قول أكثر من ناقد واحد: إن الرومان مدينون بفكاهتهم للإغريق، وإنه ما نكتة في الأدب الروماني إلا وهي مأخوذة من نكت الإغريق أو لها ما يقابلها عندهم، ومثل قولهم إن (الأبولوجيا) أو الاعتذار الذي كتبه سنيكا لما أمره نيرون بالانتحار ليس سوى تقليد ضعيف للأبولوجيا التي كتبها أفلاطون عن سقراط بعد الحكم على سقراط بالموت، ومثل قولهم إن وصف درع (إينياس) في قصيدة فرجيل مأخوذ من وصف هومر لدرع أخيل، وقولهم أيضاً إن خير ما في إينيادة فرجيل منقول بالحرف من وأن القصيدة كلها في الحقيقة ليست أكثر من مقاطيع منقولة من شعراء سابقين مثل هومر وأبوللونيوس ورودياس ولوسيلياس ولوكريشلاس وأن مكروبيوس ضبط كل هذه السرقات، ومثل قولهم إن الشاعر الإنجليزي (مارلو) - معاصر شكسبير - انتحل أبياتاً كثيرة ترجمها عن اليونانية في روايته (الدكتور فاوست). أدع كل هذا لأنه كما قلت من التوافه وأثب إلى ملتون الشاعر الإنجليزي المشهور، وأعترف أني لا أحبه وأني ما استطعت في حياتي أن أقرأ له قصيدة مرتين. وأشهر ما لملتون قصيدة (الفردوس المفقود) وأختها (الفردوس المستعاد) والأولى لا الثانية هي التي تقوم عليها شهرته. وهذه يقول النقاد إن من المعروف أنها عبارة عن جملة سرقات من ايسكلاس ودافيد وماسينياس وفوندل وغيرهم. ولكنه لم يكن معروفاً أن الفردوس المفقود كله - موضوعه ومواقفه وعباراته أيضاً - مترجمة ترجمة حرفية عن شاعر إيطالي مغمور غير معروف كان معاصراً لملتون. لم يكن هذا معروفاً حتى اهتدى إليه (نورمان دوجلاس) فقد اتفق له أن عثر على نسخة وحيدة من رواية (ادامو كانوتو) لمؤلفها (سرافينو ديللا سالاندرا) وهذه الرواية وضعت في سنة 1647.
وأنا أنقل هنا ما يقوله (نورمان دوجلاس) قال:
سأسوق الآن بلا تمهيد ما يكفي لإثبات أن الفردوس المفقود ليس إلا نقلا وترجمة لهذه الرواية
محور قصيدة سالاندرا هو ما أصاب العالم من جراء العصيان الذي أغري به الإنسان الأول. وهذا هو محور موضوع ملتون
والأشخاص في رواية سالاندرا هم الله، وملائكته، والإنسان الأول والمرأة الأولى والحية وإبليس وزملاؤه. وكذلك في قصة ملتون
وفي فاتحة القصيدة أو التمهيد لها يذكر سلاندرا الموضوع ويتكلم عن الله وأعماله. وكذلك يفعل ملتون
ثم يصف سلاندرا مجلس الملائكة المتمردين وسقوطهم من السماء في منطقة جرداء نارية ويسوق أحاديثهم وكيف أنهم يحقدون على الإنسان ويتفقون على الاحتيال على إسقاطه ويقررون أن يجتمعوا في الهاوية حيث يتخذون التدابير الخليقة أن تجعل من الإنسان عدواً لله وفريسة لجندهم. وكذلك في ملتون
وسالاندرا يجسد الخطيئة والموت ويجعل الموت ثمرة الخطيئة. وكذلك يفعل ملتون ويصف سالاندرا سبق العلم الإلهي بنتيجة الإغواء وسقوط الإنسان وتهيئته تعالى لأسباب الخلاص. وكذلك ملتون
ويصف سالاندرا موقع الجنة والحياة السعيدة فيها. ويفعل ملتون مثله
ويشرح سالاندرا الإعجاز في خلق العالم والإنسان وفضائل الثمرة المحرمة. وكذلك ملتون
ويروي سالاندرا الحوار الذي دار بين حواء والحية ويصف الأكل من الشجرة المحرمة واليأس الذي استولى على أبوينا - آدم وحواء - وكذلك ملتون
ويصف سالاندرا فرحة الموت بما ارتكبته حواء والسرور الذي عم الجحيم والحزن الذي انتاب آدم وخروج آدم وحواء من الجنة وحزنهما وندمهما. وكذلك يفعل ملتون
ويتوقع سالاندرا مجيء المخلص وهزيمة الخطيئة والموت ويتكلم عن عجائب الخلق ويصف قتل قابيل لأخيه هابيل ويذكر الخطيئات في الدنيا والحرب وأهوالها. وكذلك ملتون
ويصف سالاندرا الحب الذي ينطوي عليه عيسى عليه السلام والعزاء الذي يشعر به آدم وحواء حين يبشرهما الملك بمجيء المسيح ثم خروجهما من جنتهما الأرضية. وكذلك يفعل ملتون
فالموضوع مأخوذ برمته كما أثبت ذلك نورمان دوجلاس. ويقول برتون راسكو: (إن هذا ليس كل شيء ويحيل القارئ على كتاب اسمه (أولد كالابريا) - كالابريا القديمة - ويؤكد أنه يؤخذ منه أن ملتون ترجم قصة سالاندرا حرفا بحرف وأن ما ليس مترجما عن سالاندرا مترجم عن غيره من الشعراء القدماء
والذي يجعل الأمر أغرب أن ملتون كان قد أعلن قبل ذلك عزمه على نظم قصة خالدة لا يسمح الناس بأن يدعوها تموت وتقبر، ويعني بها الفردوس المفقود، وبعد أن أعلن عزمه هذا بسط لسانه في كل الشعراء الإنجليز الذين تقدموه مثل شوسر وسبنسر وشكسبير ومارلو وجونسون ووصفهم بأنهم صناع آليون، وانتقد هومر وفرجيل وتاسو وعاب شعرهم. ويعلل نورمان دوجلاس اهتداء ملتون إلى قصة سالاندرا بأن ملتون لقيه في رحلته إلى إيطاليا، وأن سالاندرا يرجح أن يكون أعطاه نسخة من قصته عسى أن يعينه على ترجمتها إلى الإنجليزية. ويقول إن ملتون كان له أصدقاء يراسلونه من إيطاليا وإنه قابل جروتياس في باريس وجاليليو في فلورنسا، وإنه يحتمل أن يكون هذان قد أعطياه نسخة من القصة لما نشرت بالإيطالية. والمحقق على كل حال أن قصيدة الفردوس المفقود نسخة طبق الأصل من قصيدة سالاندرا الإيطالي.
وأنتقل الآن إلى ما هو أحدث في أثناء الحرب العظمى. لم يكن لنا عمل بعد السعي وراء الرزق إلا القراءة والإطلاع واتقاء التعرض لمكاره الاعتقال والسجن وما عسى أن يكون وراءهما. وقد وقتني الكتب ذلك مرة وجاء القوم يفتشون بيتي وكان معهم ضابط إنجليزي، فلما دخل المكتبة وأجال عينه في الرفوف وما عليها من كتب الأدب حسن رأيه فيّ ومال إلى الرفق، فانتهى الأمر بخير. ولكن هذا استطرد فلنرجع إلى ما كنا فيه. والذي أريد أن أقوله هو أن صديقي الأستاذ العقاد أعارني يوماً قصة (تاييس) لأناتول فرانس فقرأتها بلهفة فقد استطاع المترجم الإنجليزي أن يحتفظ بقوة الأسلوب وتحدره وبراعة العبارة وسحرها. ومضت بضعة شهور ثم دفع إلي الأستاذ العقاد رواية (هايبيثيا) للكاتب الإنجليزي (تشارلز كنجزلزي) فقرأتها أيضاً، ثم سألني: ما رأيك؟ قلت: غريب. قال: إن الروايتين شيء واحد. قلت: صحيح
والواقع أن الروايتين شيء واحد وأن تاييس مأخوذة من هايبيثيا بلا أدنى شك. وفي وسع من شاء أن يقول إن أناتول فرانس ما كان يستطيع أن يكتب - أو ما كان يخطر له أن يكتب روايته لو لم يسبقه تشارلز كنجزلزي إلى الموضوع. ذلك أن تاييس في رواية أناتول فرانس هي هايبيثيا في رواية كنجزلزي، والعصر هو العصر والبلاد هي البلاد، وكل ما هنالك من الاختلاف هو أن أناتول فرانس أستاذ فنان، وأن تشارلز كنجزلزي أستاذ مؤرخ. وأنا مع ذلك أفضل رواية هايبيثيا وأراها أكبر وأعمق وأملأ للنفس وأمتع للعقل، فما لأناتول فرانس في تاييس غير براعة الأسلوب وحلاوة الفن، ولكن الصور في رواية هايبيثيا أتم وأصدق، والشخصيات أكثر ورسمها أقوى وأوفى والموضوع أحفل. وفي وسعي أن أقول بلا مبالغة إنها تعرض عليك عالماً تاماً لا ينقصه جانب واحد من الجوانب؛ وأما تاييس فليست سوى لمحة خاطفة من هذا العالم
وتشارلز كنجزلزي يرسم لك الحياة في تلك الفترة من تاريخ مصر بكل ما انطوت عليه ويريك الناس والأشياء والعادات والأخلاق والآراء والفلسفات الشائعة والفردية بدقة وأمانة، أما أناتول فرانس فيرسم لك بقلمه البارع خطوطاً سريعة تريك ما وقع في نفسه من ذلك العصر، فهو أشبه بالمصورين الذين يجرون على طريقة الامبرشزنم أي الذين يصورون وقع المناظر في النفس لا المناظر كما هي في الحقيقة والواقع.
هذا بعض ما يسعني ألان أن أذكره وأمثال هذا كثير في الآداب الغربية، وليس له في الأدب العربي نظير، وأسباب ذلك كثيرة يطول فيها الكلام فلنرجئها إلى فرصة أخرى تتسع لوجوه التعليل المختلفة.
إبراهيم عبد القادر المازني