مجلة الرسالة/العدد 21/هاكم قبعة أخرى
مجلة الرسالة/العدد 21/هاكم قبعة أخرى
تأليف لويجي براندللوا
وترجمة الدكتور محمد عوض محمد.
(ولد لويجي بيراندللو في 28 يونيو سنة 1867، في إحدى القرى بجزيرة صقلية ودرس في روما وفي ألمانيا، ثم عاد إلى روما واحترف أولا مهنة التدريس، وانصرف في جهوده الأدبية أولاً إلى الشعر، ثم إلى التأليف القصصي: ثم المسرحي وقد سلك في بادئ الأمر مسلك جيوفاني فرجا الروائي الصقلي الشهير. فكان يتخذ من قصصه وسيلة لوصف أهل صقلية ومعيشتهم وطباعهم: لكنه ما لبث أن ظهر أسلوبه الخاص. في رواية الشيوخ والشاب وفي قصة المرحوم ماتيا باسكال. واكبر ما يعاب على بيراندللو تغلب العقل على العاطفة في مؤلفاته ونظره إلى الأشياء على غير حقيقتها. وإغراقه في التحليل وتشاؤمه. ولكن براعته ومقدرته كانت موضع إعجاب شديد في جميع أوروبا. وقد ترجمت قصصه وتأليفه المسرحية إلى 15 لغة. ومثلت قطعته المسرحية باللغة الإيطالية في إنكلترا وفرنسا وسويسرة وفي ألمانيا فقوبلت بحماس شديد. وكان المؤلف نفسه يشرف على إخراجها.) بعد أن قضى دييجو برونو ساعات طوالاً يتمشى، بلا قصد ولا مأرب، على ضفاف نهر التيبر، في ذلك الحي الهادئ المسمى براتي دي كابتللي في مسيرة جدران الثكنات، ومبتعداً قدر جهده على ضوء المصابيح، أحس فجأة أن التعب قد نال منع فتوقف هنيهة تحت ظل شجرة، ثم صعد البرابي المطلة على النهر. . وهناك جاس موليا وجهه تلقاء النهر، ومدلياً رجليه من فوق السور. ومن تحته الماء يتدافع في جريانه بصوت مبهم غامض، وقد انعكست على صفحته القاتمة أضواء مرتعدة مضطربة أرسلتها مصابيح الضفة المقابلة وشمل السكون المكان، فلم يكن ينبعث من المنازل المقابلة صوت، ومن وراء تلك المنازل، على
بعد شاسع كان يبدو شبح مدينة روما. وفي السماء قطار يتدافع من السحب الصغيرة، ذات اللون الرمادي الشاحب. وكإنما كانت تهرول مسرعة، لكي تلبي دعوة داع قد أهاب بها من المشرق إلى اجتماع غامض عجيب، وقد اشرف القمر من فوقها كأنه يستعرضها وهي تمر سراعاً بين يديه. جلس الفتى من غير حراك، وقد ولى وجهه شطر السماء، محدقاً في تل السحب. التي استطاعت بجريانها السريع أن تكسب الليلة المقمرة نشالها وحركة. لا شك أن هذا أحد الناس. قد وقف ليرقب مثله منظر الليل ولكي يتأمل في تلك السحائب وهي تمضي سراعاً، وإلى القمر في السماء إذ يستعرضها، وإلى تلك المياه المظلمة القاتمة، وما انعكس عليها من شعاع مرتعد مضطرب. ثم تنهد تنهد الحزين، فان إحساسه وجود رجل آخر ضايقه، وافسد عليه تلك اللذة الحزينة التي يبعثها شعوره بالوحدة، ومن حسن الطالع انه كان يجلس في الظلام، فعسى القادم ألا يراه، والتفت لكي يستوثق من الأمر. وجعل يحدق في هذا الغريب. يا عجباً! ما خطب هذا الرجل وقد وقف جامداً فريداً وحيداً؟ ثم ما هذا الشيء الذي بيده كأنه حقيبة صغيرة؟ لا ليست هذه حقيبة. بل قبعة. . . وبعد فماذا عساه أن يفعل؟ رباه! انه يصعد السور. . أتراه يريد أن يرتكب. . ويلاه. . ما هذا؟ وتراجع دييجو بغريزته إلى الوراء، مغمضاً عينيه، حابساً نفسه، وماداً يده إلى الأمام كأنما يدفع شراً، وهو يتوقع سماع صوت ذلك السقوط المروع في الماء الذي تحته. حادث انتحار. . . يا عجباً. . كيف يجوز مثل ذلك؟ ثم فتح عينيه، وجعل يحدق في الماء تحديقاً شديداً وهو يحاول أن يخترق ببصره أعماقه السوداء. فلم تقع عيناه على شيء. . . الصمت شامل والهدوء باسط جناحيه. . لا صياح ولا نداه ولا صوت. فيا عجباً! ألم يره أحد، ولم يسمع صوته إنسان؟ هنالك تحت لجج النهر رجل يغرق، ولعله الآن يكافح في يأس وفي جهد. . . كل هذا يجري وهو جالس في مكانه مرتعداً عاجزاً خائراً!. . . أما يحمل به أن يبادر فيطلب النجدة! أو يصيح بأعلى صوته ولكن هيهات. . لم يعد يجدي الصياح والاستنجاد! لقد رضي أن يبقى مختبئاً في مكانه المظلم، تاركاً ذلك المسكين يغرق!. . جمد في مكانه كالصخرة الصماء، حابساً نفسه، سائلاً نفسه من آن إلى آن: أحقا قضي الأمر. . قضي الأمر؟ وبعد حين جعل ينظر فيما حوله. . لعل الأمر كله حلم رآه! إن كل شيء باق كما هو لم يتغير: المدينة راقدة تحرسها المصابيح، وسط سكون عميق كما كانت من قبل، والأضواء ترتعد على صفحة الماء القاتمة بأشعة ثعبانية ملتوية. . لم يتغير في هذا المنظر كله سوى شيء واحد: فلقد كان على عمود مصباح من المصابيح قبعة الرجل بقيت هناك حيث تركها، وكان المصباح يرسل عليها شعاعاً شاحباً مشؤوماً. . وكانإليه أن تلك القبعة تؤنبه وتتهمه. . فأخذ يرتعد فرقاً. ثم نزل مسرعاً من فوق البرابي، وجعل يعدو ومنزله مستتراً بظلام الليل. (دييجو! دييجو! ما خطبك؟) (لا شيء يا أم! وما عساه أن يكون خطبي؟) (لست ادري أيها العزيز. . . غير أني. . . حسبتك. . . لقد جئت متأخراً الليلة فهل أهيئ لك حجرتك الآن؟) فالتفت الفتى إلى أمه مغضباً، وقال: يا عجباً لك! انك! تسألينني هذا السؤال كل ليلة من ليالي عمري!) وكان هذا الرد كأنه سوط يستحثها، فاندفعت العجوز الصغيرة الجسم نحو الحجرة وهي تجر إحدى رجليها. اتبعها الفتى نظرات قد امتزج فيها الغيظ والكمد ورآها وهي تختفي آخر الدهليز، فتنفس الصعداء إشفاقا عليها، ثم لم يلبث أن عاود الضجر والكمد. وقد بقي ينتظرها - دون أن يعرف للانتظار سبباً، ولا ماذا عساه أن ينتظره - في هذه الحجرة المظلمة، ذات السقف القذر والجدران الممزقة الورق، التي اتخذتها الأم لصناعة الثياب حجرة صغيرة كئيبة قد غصت برخيص الأثاث، وبعدد الحياكة المختلفة: آلة للخياطة، مقص مستطيل، تماثيل سخيفة ذات صدور ضخمة، شريط مقاس، قطعة من الطباشير، أكداس من صور الأزياء ذات الابتسامة الكالحة. . . وكلها أشياء قد ألف دييجو رؤيتها فلم تعد تستلفت نظره. لقد عاد إلى منزله، يحمل
في رأسه صورة كأنها منظر شاهدة في مسرح، صورة تلك السماء العجيبة، تغشاها السحائب الصغيرة الخفيفة. ومنظر النهر القاتم، قد انعكست في صفحته أضواء المصابيح والمنازل العالية على الضفة المقابلة، وذلك الشبح البعيد لمدينة روما، وذلك الجسر الممدود. . ثم تلك الأقنعة! كانت أمامه صور كل تلك الأشياء الجامدة، حاضرة لكنها غائبة. وكذلك هو. . لقد كان حاضراً غائباً. جلس في مكانه المظلم يرقب الرجل وهو يغرق. . فكأنه لم يكن هناك، وكأنه كان غائباً، فلم يحرك ساكناً، ولم يفتح فمه، ولم يستنجد. والآن قد رجع إلى داره وقد ملكته الحيرة، واستولى عليه الذهول، كأنما كان ما سمعه ورآه لم يكن سوى حلم نائم. . لم يلبث أن رآى قطة كبيرة، ذات فروة رمادية ناعمة. وثبت فوق المائدة، وجعلت تنظر إليه بعينين خضراوين خاليتين من كل معنى، هذه قطة الدار، اتخذوها لصيد الجرذان. غير أنها منذ أيام انتزعت من الجدار قفصاً به عصفور جميل. . ثم لم تزل تحتال دائبة، تدفعها القسوة والنهم، حتى استطاعت أن تخرج العصفور من بين القضبان. ثم التهمته. وقد حزنت أمه لهذا حزناً شديداً. . بل انه هو أيضا قد آلمه أن يفترس ذلك العصفور المسكين على هذه الصورة، أما القطة، فهل تأثرت أو أحست ندماً على ما ارتكبت؟ كلا! بل ها هي ذي جالسة في سكون وطمأنينة، كأن لم تقترف ذنباً ولئن رفعها بعنف على المائدة فإنها لن تعرف لهذا الاضطهاد سبباً. عجباً ألا يستطيع هو أن يكون مثلها؟ إلا يمكنه أن يقترف الإثم كما فعلت هذه الهرة، ثم ينسى كل شيء بعد ارتكاب الجريمة بلحظة؟ إن الآفة الكبرى التي تستحقه وتعنيه هي انه يتذكر. . يتذكر أبدا ويعلم أن الناس سيذكرون أبدا. لكنه يخيل إليه انه في هذه الليلة يرى الأمور في ضوء جديد. . مثلاً: نظرته إلى أمه. . . انه لم ينظر إليها الليلة كأنها أم. . . بل امرأة عجوز كأمثالها من النساء. . . ذات جسم ضخم وانف غليظ قد اعوج قليلاً أحد جانبيه. ولها شامة كبيرة في قاعدة منخرها الأيسر، وخداها الشاحبان تغشاهما خطوط زرقاء من الأوردة الدقيقة. وقد تدلى كل خد في ترهل وضعف. . . وقد جعلت تنظر إليه بعينين متعبتين خائرتين. وحين حدق في وجهها أطرقت بعينها، وقد ملأها الخجل والعار. . . ولكن مم تخجل الأم؟ لقد كان يعرف جد المعرفة سر هذه الخجل، وهذا الشعور بالعار. وأخيراً ضحك ضحكة الساخر. وقال ((عمتي مساءً أماه!)) وانطلق إلى حجرته، واغلق بابها.
جلست الأم إلى مائدة الحياكة، لكي تتم خياطة ثوب، ستحضر صاحبته في طلبه في الصباح. لكنها لم تجلس لتتم عملها فحسب، بل لكي تفكر قليلاً. . . ماذا عساه قد جرى لفتاها الليلة؟ طالت غيبته ولم يرجع إلا متأخراً. وكانت تغشاه رعدة. ووجهه شاحب كأنه خرقة بيضاء. . . وليس الشراب سبب هذا الاضطراب. إنها لم تنشق من فمه رائحة الخمر وليس دييجو من الشاربين. ومع ذلك، فليس من شك في انه قد ألم به اليوم حادث. أتراه قد التقى من جديد بأولئك الرفقاء الأشرار. الذين كانت صحبتهم وبالاً عليها ودماراً. ذلك ما كانت تخشاه:: نهضت من كرسيها، ومشت على أطراف قدميها حتى وصلت إلى باب حجرته. وأنصتت، فلم تسمع صوتاً لعله إذن قد آوى إلى فراشه وقد غشيه النعاس. . عادت إلى حجرتها. وأخذت تجد في إتمام عملها. كانت من آن لآن تنزع المنظار عن عينيها وتمسحه. لقد كانت من قبل وليس لها مورد رزق سوى ما كانت تمنحه من معاش كإحدى الأرامل. وكانت تجد في هذا كفايتها. أما الآن وقد فقد دييجو منصبه وأضحى بلا عمل. فقد اضطرت إلى السعي والاكتساب. وفوق هذا قد خطرت لها فكرة: وهي أنها تستطيع بفضل جدها واقتصادها أن تجمع من المال ما يكفي لإرسال دييجو إلى أمريكا. إذ لا بد للفتى من فرصة كي ينشد حظه من جديد. أما ها هنا في إيطاليا فقد سدت في وجهه السبل، وهذه البطالة التي اكره عليها إكراهاً توشك أن تأكل روحه وتقضي عليها. أمريكا إذن.
إن أمريكا هي وحدها المكان الصالح له، فلا بد من إرساله إلى أمريكا ولو كان في هذا موتها وفناؤها. لا بد أن يفتح لولدها باب الحظ. . . ولدها هي. . . ذلك الفتى الكريم. . لله ما أطيبه! وما أجمله، بل وما أقدره وما أذكاه! ألم يكن من قبل قادراً على الكتابة والتحرير. حتى لقد نشرت له الصحف بعض ما كتب؟ ثم ما جرمه الذي اجترم، وما ذنبه الذي اقترف؟ لم يكن الأمر سوى ضرب من عبث الشباب، والذنب فيه راجع إلى لأولئك الرفقاء الأشرار، وإلى ذلك الروسي أو البولندي، أيا كان وأيا كانت جنسيته. . ذلك الأجنبي القذر، ذلك السكير المهين، الذي جاء إلى روما لكي يسوق أبناء الأسر الشريفة المبجلة إلى الدمار والعار، فوا أسفاه على أولئك الفتيان البله، كيف ضاع رشادهم، وضلوا عن طريق الصواب، إذ دعاهم ذلك الأجنبي الكثير المال إلى منزله، فطاشت أحلامهم ما بين كؤوس الخمر والنساء وضروب اللهو. . ويصل ذلك الروسي المقامر على أن يأتي بالورق ويلح عليهم أن يلاعبوه، اجل كان يلح عليهم إلحاحا. ولئن كان قد خسر نقوده. فذلك جزاؤه على إصراره وعناده. لكنه بعد هذا يذهب ويا للعار! فيتهم أصدقاؤه بالغش والتزوير. ثم يسعى في مقاضاتهم لكي يجلب إليهم الدمار مدى الدهر. . سمعت الأم صوتاً كأنه صوت بكاء مكتوم ينبعث من حجرة ابنها، فنادته: (دييجو!) فلم يرد جواباً. أنصتت مرة أخرى، وألصقت إذنها بالباب، انه مستيقظ، فما عساه يصنع الآن. انحنت ونظرت من ثقب المفتاح. . رحماك اللهم! انه يقرأ. . عاد إلى مطالعة تلك الصحف الكريهة التي اشتملت على تفاصيل المحاكمة، فلماذا. . لماذا يريد أن يعود إلى قراءتها. . وفي هذه الساعة من الليل؟ ونادته بصوت عال: (دييجو!) ثم فتحت الباب فالتفت أليها، وهو يثب فزعاً. وقال: (ما الخطب يا أم، ما بالك لم تأوي إلى فراشك!) قالت: (وأنت، ما بالك لم ترقد في فراشك بعد؟) فتكلف الابتسام وجعل يمد ذراعيه. (أنا؟ إني أتسلى قليلاً) فقالت العجوز وهي تعصر يديها عصراً: (دييجو! دييجو! احرق هذه الأوراق! استحلفك أن تحرقها. . لماذا تريد أن تؤذي نفسك؟ ماذا يجديك هذا كله؟ انس ذلك الحادث تماماً!) فنظر إليها وهو يضحك. (شيء بديع!. . كأني إذا نسيت ذلك الحادث فقد ينساه الناس جميعاً! ما أبدع هذا! وما أسهلها وسيلة! ننسى الحادث كلنا في لمحة الطرف! ثم نتساءل هل حدث شيء؟ لا. . . لا. . . لا شيء مطلقاً. . . السجن! كلا لم يكن هنالك سجن. بل كان ما في الأمر أني سافرت. . . في إجازة خارج القطر. . . إجازة بديعة دامت ثلاث سنين) ثم قال مغيراً لهجته: (يا أماه! هذا عبث لا طائل تحته. فلنتكلم في موضوع آخر. ألا ترين أني قد قضى على القضاء المبرم؟ ألا ترين كيف تنظرين - حتى أنت - إلى؟) (لا يا دييجو. . . لا. . . انك على خطأ وكل ما هنالك أيها العزيز إني كنت انظر. . . اجل كنت انظر. . . إلى ثيابك. . . فقد باتت رثة. لا بد لك الآن من بذلة جديدة.) فنظر إلى ثيابه نظرة فحص وتحقيق. ثم ضحك وقال: (إذاً أنت تظنين أن هذا هو السر في تحديق الناس بي كلما رأوني! لست أنكر أن ثيابي قد امتدت إليها يد البلى قليلاً، ولكن هذا القدر القليل ليس بشيء ذي خطر وأنا شديد الحرص عليها. البسها في عناية، وامسحها واكويها. والحقيقة أن مظهري حين البسها لا بأس به مطلقاً. فهو مظهر الرجل الفاضل، الذي يستطيع أن يتخذ مكانه في العالم على غير استحياء ولا خجل. . . فدعى هذا الكلام! فليس ورتءه من طائل!. . أماه ألا ترين انه قد قضى على القضاء الأخير) ثم أشار إلى الأوراق التي بين يديه: (أن البلاء كل البلاء، هنا، في هذه الأوراق وحقيقة الأمر أننا اطلعنا الجماهير على لعبة ورواية مدهشة. فهل تحسبين انهم ينسونها بكل هذه السرعة؟ لا أظنهم جاحدين بهذا القدر. . . ويا لها من رواية تلك التي أريناهم. . . رواية تتمثل فيها الأرواح عارية دنيئة ملوثة، وهي تحاول أن تختفي عن الأنظار، يوم كان كل منا يجذب رداء المحامي الذي يدافع عنه لكي يستر به عاره، اجل كانت رواية مدهشة رائعة. أتتذكرين كيف ارعد الناس ضاحكين في
ساحة القضاء حينما سمعوا ما فعلناه بذلك الروسي يوم أن ألبسناه الزي الروماني القديم وألبسناه الخفين، على ما له من انف افطس ووجه منقط، ورأس مستدير، ومنظار ذهبي، ثم جعلنا ندفع ذلك الخنزير السمين دفعاً، ونضرب رأسه بخفيه وكلما أوسعناه ضرباً ازداد طرباً. لأنه قد اخذ من السكر) (دييجو! استحلفك!) (اجل كان سكراناً، ونحن الذين أسكرناه.) (لا. لا. لم تكن أنت الذي فعل هذا، بل الآخرون. . .) (وأنا أيضا. . . أتعلمين يا أماه أن هذا كان كله من سبيل المزاج. لقد كنا نعبث به ونمزح. ثم تناولنا الورق لنلعب، وكان من السهل أن نربح. والرجل قد ذهبت بعقله الخمر.) (دييجو! استحلفك!) (قلت لك إننا كنا نمزح، هذا وحقك يا أماه، هو الصدق الذي لا مرية فيه، ولكني حين ذكرت هذا في دار القضاء ضج الناس بالضحك، اجل حتى القاضي. . بل لقد كان هو أشدهم ضحكاً. . ضحك الجميع من قولي هذا. . الجميع. . حتى رجال الشرطة. ومع ذلك فقد كان هذا هو الحق. فلقد كنا نرتكب الغش، ونحن لا ندري. أو إذا كنا ندري فما كنا نرى أنفسنا إلا مازحين وهل كانت سوى أموال رجل قذر معتوه، وكانت تنصب من جيبه انصباباً، كما انصبت من جيوبنا فيما بعد. حيث كنا نبذرها تبذيراً في بلاهة وجنون، حتى لم يبقى لدين منها درهم واحد.) ثم التفت إلى خزانة الكتب واخرج منها كتاباً. (هذا كل ما بقي لي من تلك الأموال. فقد مررت يوماً ببائع كتب واشتريت منه هذا الكتاب.) ثم التقى بالكتاب على المائدةفإذا هو ترجمة فرنسية لكتاب جون رسكن المعروف (تاج من أغصان الزيتون). وجعل يحدق في السفر مطبقاً حاجبيه. عجباً كيف خطر له في تلك الأيام أن يشتري هذا الكتاب؟ لقد اعتزم إلا يعود إلى المطالعة، وإلا يخط حرفاً أبدا. وما دعي إلى الذهاب لذلك الروسي سوى عزمه على أن يخمد جذوته، وان يقتل في نفسه حلماً كان يملؤها: حلما بأنه سيغدو يوماً كاتباً ومؤلفاً. ذلك كان حلم شبابه. ولكن الفقر الأليم الذي نزل بأسرته جعل تحقيق هذا الحلم أمرا محالاً. ولهذا صح عزمه على أن يقتله قتلاً. وقفت العجوز تتأمل هي أيضاً ذلك الكتاب الغريب، وبعد لحظة قالت في شيء من التردد: (أترى يا دييجو. . . لو انك عاودت الكتابة) فنظر إليها نظرة كريهة كئيبة، انقلبت لها سحنته وشاهت صورته. لكنها عادت إلى الكلام وقالت: (ماذا يضرك أن تحاول؟ ماذا يدعوك إلى اليأس، وأنت بعد فتى لم تتجاوز السادسة والعشرين ومن يدري لعل لك في الحياة حظاً جديداً ننسى به ما قد مضى. .) فقاطعها، وهو يخاطبها في سخرية وتهكم: (نعم حظ جديد ما اكثر الحظوظ الجديدة اجل ولعمرك لقد أصبت الليلة حظاً جديداً. فلقد شاهدت بعيني رأسي رجلاً يلقي بنفسه في النهر. وجلست في مكاني أراقبه دون أن أحرك ساكناً.) (ماذا تقول يا دييجو؟ أأنت شهدت حادث انتحار الليلة؟) (اجل أنا شاهدت رجلاً ألقى بقبعته على البرابي. ثم صعد وألقى بنفسه في النهر في هدوء وسكون وجلست أنا في موضعي، منصتاً لصوت سقوطه في الماء، وكنت على بضع خطوات منه، جالساً في ظل شجرة، وكان كل ما فعلته أن جلست في مكاني وتركته يغرق. اجل ذلك كل ما فعلت ثم استولي على الذعر فجأة، حين أبصرت قبعته التي تركها خلفه. فلذت بالفرار) (أنت تعلم يا عزيزي انك لا تعرف السباحة. فاني لك أن تقوم بمساعدته وإنقاذه؟) كان في وسعي أن أصيح واستنجد. أو على الأقل أحاول إنقاذه. فقد كان إلى جانبي درجات من الحجر نازلة إلى النهر، لم يكن بيني وبينها غير مترين. أتعلمين إني رأيت هذه الدرجات. اجل رأيتها في وضوح ومجلاء. . ولكني تجاهلت رؤيتها. ثم لم تك إلا لحظة حتى قضي الأمر وغاب عن الإبصار) (ألم يكن بالمكان أحد سواك؟) (كلا لم يكن بالمكان غيري) (لا بأس عليك يا دييجو وماذا عساك أن تصنع وحدك. فلا تبتئس انك متعب منهوك القوى. ولقد هذا كل ما هنا لك ولقد أخذت ترتعد لسهول ما رأيته الليلة. والآن فلتذهب
إلى فراشك ونم لكي تنسى كل شيء) وتناولت يده في شيء من التردد وجعلت تمسحها بكفها. وأجابها على كلامها بهزة رأسه. وقال لها وهو يبتسم (عمتي مساءً يا أماه!)
(نم هانئأً يا بني!) لقد اثر في نفسها انه سمح لها بان تمسك يده وتمر عليها بكفها مراراً. وجعلت تمسح عينها من خلف مناظرها. ثم أطفأت المصابيح وذهبت إلى فراشها وهي تفكر في تلك اللحظة التي سمح لها فيها أن تلاطفه تلك الملاطفة. لم تمض ساعة حتى كان دييجو برنر في مجلسه الأول على البرابي، في ظل تلك الشجرة. وقد جلس كما كان يجلس من قبل ناظراً إلى النهر، ومدلياً رجليه. وكانت السحائب لم تزل تغشى السماء في لونها الرمادي الشاحب وكأن لم يتغير شيء مطلقاً. . بل لقد تغير شيء واحد: فان القبعة قد اختفت. واكبر الظن أن أحد رجال الشرطة قد رآها في تجواله فأخذها. نزل دييجو فجأة عن البرابي ومشى نحو الجسر. ثم انتزع قبعته عن رأسه. ووضعها في نفس المكان حيث كانت قبعة ذلك الرجل الغريب. ثم تبسم وقال: (وهاكم قبعة أخرى!) وكأنه ما فعل هذا لا ليمزح؛ كأنما أراد أن يمازح رجال الشرطة. وعاد إلى مكانه في ظل الشجرة. وجلس برهة يتأمل القبعة، معجباً بمنظرها وكأنه لم يكن له وجود. . ثم اندفع فجأة يضحك ضحكاً عالياً وحشياً. لقد بدت له القبعة كأنها فأر، وكإنما هو قطة ترقبها. . وجعل يتدلى من البرابي شيئاً فشيئاً. . ملقياً بنفسه إلى النهر على مهل. وقد امسك الحاجز الحجري بقبضتيه. فأحس بقلبه يثب وشعر رأسه يقف، ثم أحس بقبضتيه. . وقد أخذتا في الارتخاء. وانفرجت أصابعه؛ فهوى من النهر. . إلى الفناء. .؟