مجلة الرسالة/العدد 21/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 21/الكتب
جان دارك
في سبيل الوطن
تأليف الأستاذ غانم محمد
هذا كتاب ألفه الأستاذ غانم محمد فاخرج به للناس درة من اثمن ما تحوي لجة التاريخ من درر، ونشر صفحة من اسطع ما طوى الدهر من صفحات. وهو بهذا الكتاب قد أذاع في الناس مثلاً أعلى للتضحية والفداء، ونموذجاً ساميا للوطنية المشتعلة الصادقة ممثلة في جان دارك، التي ارتفعت إلى مستوى القديسين وأولياء الله الصالحين. وما قولك في فتاة ريفية ساذجة لم تتجاوز من عمرها ثماني عشرة سنة قضتها في العمل المنزلي ورعي الغنم، تتصدى لإنقاذ الوطن من الاستعمار الإنجليزي الذي انشب أظافره في الأعناق ولم تكن لتزحزحه جحافل الجيوش. وكأنما أرادت عناية الله تبعث بهل لتخليص وطنها، فبينما هي جالسة في يوم من أيام الصيف في ظل دوحة ترعى غنمها. إذا بأوراق الشجر تهتز والأطيار تطلق أغاريدها عالية في الفضاء، فانتبهت جان من إطراقها ورفعت رأسها نحو الشجرة وأغصانها التي اهتزت فجأة. فشعرت برعدة تمشى في جسمها طولاً وعرضاً، ورأت السماء تنشق عن نور ساطع ينبعث من بينه هاتف يناديها ويردد اسمها ويقول لها في وضوح: (جان! جان! لا تخافي، كوني ابنة طيبة، فسوف تذهبين لنجدة ملك فرنسا) فتقدمت جان في ذهول نحو الصوت، فرأت أن التي تخاطبها هي القديسة كاترين وان التي بجوارها هي القديسة مرغريت، فانتفضت جان وتولد فيها شعور غامض من طرب وذعر، واعتزمت من فورها إنجاز ما تطلبه السماء، فالتمست حاكم
المنطقة تطلب إليه أن يرسلها إلى مليكها لكي تعينه بإذن الله فسخر منها هذا الحاكم ما وسعته السخرية، ولكنها أخذت تطلب وتلح في الطلب لآن أصواتها السماوية أمرتها بذلك وليس لها عن طاعتها مجيد، وما هي إلا أن أرسلها لحاكم في حرس عسكري إلى حيث ولي العهد - وقد مكر به الإنجليز وأقصوه على العرش بحجة عدم شرعيته لضم فرنسا إلى إنجلترا - فلم تكد تظفر جان بالمثول بين يدي الدوفين (ولي العهد) حتى أعلنت رسالتها التي تلقتها من القديسين الاظهار، والتي لم تزل الأصوات المقدسة تأمرها بها يوم وتلح عليها في النهوض بأعبائها، وهي أن ترفع حصار الإنجليز وتتوج ولي العهد ملكاً على فرنسا. فتشكك الملك في أمرها بادئ الأمر، وأرسلها إلى جماعة من العلماء، أخذت تناقشها وتحاورها ثلاثة أسابيع كاملة. ثم أصدرت الحكم الآتي (لقد تحققنا وبهذا نعلن، أن جان دارك المعروفة باسم العذراء مؤمنة صادقة الإيمان وكاثوليكية سليمة العقيدة، ولا شيء في شخصها أو لفظها يخالف الدين، وواجب الملك أن يتقبل ما تعرضه عليه من المساعدة، لأنه إذا رفض معونتها حرم نفسه معونة الله). فلم يسع الملك بعدئذ إلا أن يعين جان دارك قائداً عاماً للجيش الفرنسي!! جمعت جان فلول الجيش الهزيم، ونفخت فيه روحاً جديداً يشتعل جرأة وحماسة، وأخذت - وهي الفتاة الصغيرة الساذجة - تقود الجند من نصر إلى نصر، حتى أجلت الإنجليز، وردتهم أذلاء بعد عزة، ومهدت الطريق لتتويج ولي العهد شارل السابع ملكاً على فرنسا. وقد بذلت في هذه السبيل مجهود الجبابرة، وتعرضت لأخطر المواقف، حتى إنها في أثناء الهجوم على حصن (لي توريل) جرحت جرحاً بليغاً بين كفها ورقبتها، وسال منها دم غزير فوقعت على الأرض تبكي بكاءً مراً، وانتهز الإنجليز فرصة إصابتها وتجمعوا حولها قاصدين تمزيقها إرباً إربا، ولكن الفرنسيين قاوموهم وصمدوا لهم، ويقول مارك توين: (دار القتال حولها على أيهم يستولي عليها - وفي الواقع على فرنسا - لان جان في أثناء تلك الدقائق القليلة، كانت هي فرنسا للطرفين، فمن استولى عليها فقد استولى على فرنسا إلى الأبد، وكانت تلك الدقائق العشر هي أهم الدقائق التي دقتها الساعة في تاريخ فرنسا كله في الماضي وفي المستقبل. . .) أنجزت جان دارك رسالتها التي أمرتها بها أصواتها المقدسة، وهي تتويج الملك، وكان لها أن تعود إلى قريتها، ولكن نفسها الكبيرة لم تهدأ، وأصرت على أن تجاهد حتى تظهر أرض الوطن من كل إنجليزي! وبينما هي في جهادها على رأس شرذمة من أنصارها، تمكن منها أحد الأعداء. وكان فرنسياً موالياً للإنجليز، فجذبها من فوق جوادها وألقي بها على الأرض، وبذلك وقع ذلك الملاك الطاهر في الأسر، فسيقت جان إلى السجن، وما هي إلا أن اشتراها الإنجليز من أسرها بالمال، اشتروها بعشرة آلاف من الجنيهات، لينتقموا منها شر انتقام. وبعد أن قضت في سجنها مدة تجلجل في أصفاده، حيث شدت بسلسلة غليظة من الحديد إلى كتلة خشبية، يحرسها خمسة من الجند الأشداء، لا ينون عن توجيه الألفاظ القاسية والعبارات المخجلة، وهي أمامهم مطروحة ترسف في أغلالها، قدمت بعد ذلك إلى المحاكمة بتهمة السحر والشعوذة والكفر، واستولت المحكمة على مقاعدها - وكانت مؤلفة من ستين عضواً ونيفاً، كلهم من فطاحل العلماء - فاخذ هؤلاء الدهاة يقدحون أذهانهم في نصب الشباك لتلك الفتاة الطاهرة، وهي تصمد لهم، وتفحمهم، ولكن عبثاً حاولت، فلا بد من اتهامها. وبعد مؤامرات وتدبير حكم عليها بالإعدام حرقاً لأنها ضالة كافرة!! صعدت جان منصة الإعدام بخطى ثابتة، وشد الجلاد وثاقها ثم أشعل النار في الوقود المعد حولها، واخذ الدخان يتصاعد، ولما لفحتها السنة السعير صرخت من أعماقها قائلة: (لست ضالة ولا كافرة! وان ما تلقيته من الوحي كان من عند الله) ولما بدأت النار ترعى جسدها أخذت تصيح: (عيسى! عيسى! مريم! مريم!) وصارت تردد هذه الألفاظ حتى تدلى رأسها وفاض روحها. هذه قصة جان دارك مبتورة مدهوشه، وقد وفق الأستاذ غانم محمد في إبرازها وتصويرها توفيقاً بلغ حد الكمال. فليس هذا الكتاب واحد من الكتب، يتلى ثم يطوى وكأنه لم يكن، كلا! إنما هو فيض من الشعور القوي النبيل سيغمرك ويحتويك حين قراءته، وسيطبعك بطابع هيهات أن يزول أثره ما بقيت على الدهر إنساناً. اشهد أنني قضيت في هذا الكتاب ساعات كانت من أمتع ما جادت به الأيام، فاقل ما نتوجه به إلى الأستاذ المؤلف هو تهنئة تنبعث من الصميم.
1