مجلة الرسالة/العدد 21/نداء إلى أدباء العرب
مجلة الرسالة/العدد 21/نداء إلى أدباء العرب
الاحتفال بمرور ألف عام على وفاة شاعر العربية الأكبر أبي
الطيب احمد المتنبي
قتل أبو الطيب المتنبي في رمضان سنة 354 للهجرة وفي رمضان سنة 1354 أي بعد سنتين وشهرين يمر ألف عام على وفاة شاعرنا العظيم. إن مرور عشرة قرون على وفاة أديب كبير لحادث ذو شان في تاريخ الأدب. وإني أناشد الأدباء في البلدان العربية أن يفكروا في إقامة مهرجان عظيم تشترك فيه وفود تمثل الأقطار العربية الشقيقة احتفالا بذكرى شاعرنا الخالد. وإني أرجو أن يترك أمر تأليف لجنة الاحتفال للمجمع العلمي العربي في دمشق أو للمجمع العربي الذي أنشأه جلالة فؤاد الاول ملك مصر أو لهيئة جديدة تمثل فيها جميع الأقطار العربية.
بيروت
فلسفة ليبنتز
1646_1716
للأستاذ زكي نجيب محمود
1. نظرية ذرات القوة 2. التآلف الأزلي 3. نظرية المعرفة 4. الله والعالم
التآلف الأزلي
ولكن إذا كانت هذه الذرات القوية التي يتألف منها الكون بأسره عبارة عن عوالم صغيرة مستقلة، لا يؤثر بعضها في بعض، فماذا عسى أن تكون الرابطة بينها؟ وبماذا نعلل هذا النظام الدقيق الذي يشتمل الوجود؟ يجيب ليبنتز على ذلك بأنه قانون التآلف الأزلي. فقد ركبت تلك الذرات بادئ ذي بدء بحيث تسير الواحدة موازية للأخرى. وعلى الرغم من تفرقها وانفصالها، فهي تعمل جميعا في توافق دقيق، حتى لتبدو كأن بعضها يعتمد على بعض. أليست تسير طوع إرادة إلهية عليا؟ إذن فهي تسير في نظام واتساق لا تناقض فيهما ولا اضطراب. يقول ليبنتز إن هذا التوفيق بين استقلال الذرات واتساقها في نظام واحد أشبه شيء بجوقة من رجال الموسيقى. كل يقوم بدوره مستقلا، وقد أجلسوا بحيث لا يرى بعضهم بعضا بل ولا يسمعه، ومع ذلك فهم يسيرون في تناغم مستقيم، ما دام كل منهم يعزف وفق المذكرة الموسيقية، فإذا ما سمعهم مستمع في وقت واحد، لحظ في عزفهم تآلفا عجيبا) وبهذه النظرية نفسها قد عالج ليبنتز العلاقة بين العقل والمادة، أي بين الروح والجسد، فالروح يتبع قوانينه الخاصة والجسد كذلك يتبع ماله من قوانين دون أن يؤثر واحد في سير الآخر، فهما يتلاقيان في تناسق بلغ من الدقة حدا بعيدا يستحيل معه الخطأ، فكل خلجة عقلية يجاوبها وضع من الجسد كما لو كانت العلاقة بينهما علاقة العلة بالمعلول. ولا يمكن تعليل هذا الاتفاق المستمر بين العقل والجسم إلا بإحدى ثلاث، يسوق لها ليبنتز تشبيهه المشهور: فهما كساعتين تسيران معا في دقة تامة، ولا يكون ذلك إلا 1) أن يكون للساعتين آلة
واحدة تديرهما معا في آن واحد (2) أو يكون ثمة شخص يعادل بينهما من آن إلى آن بحيث يوفق بين زمنيهما، (3) أو قد تكون الساعتان صنعتا في دقة تامة يستحيل معها الخطأ.
فأما الغرض الأول فمردود لأن العقل والجسم لا يؤثر فيهما مؤثر بعينه في وقت واحد، وأما الغرض الثاني فمردود كذلك لأنه يفرض تدخلا مستمرا في علاقة العقل والجسم، وأما ثالث الفروض فهو ما يراه ليبنتز جديرا بعظمة الخالق وكامل قدرته، أي أن كل شطر يسير في طريقه الخاصة، فلا يكون بين الشطرين اختلال أو اضطراب، وهذا التآلف موجود منذ الأزل، وهو ما يسميه بنظرية التآلف الأزلي. ولكن إذا كانت كل ذرة مغلقة في حدودها الخاصة، لا تستطيع أن تطل على العالم الخارجي كما يستحيل أن ينفذ إلى داخلها شيء من العالم الخارجي، فكيف نعلل إدراكنا لله، بل إدراكنا لكل ما يحيط بنا من أشياء؟ أليس الإدراك ضربا من ضروب الاتصال أو هو كل الاتصال؟ كيف يستطيع كائن أن يصل إلى معرفة الله والعالم إذا لم يكن في مقدوره أن يحطم حدود فرديته؟ هذا تناقض ولا ريب، وأغلب الظن أن ليبنتز قد لحظه عند حديثه عن علاقة الإنسان بالله جل وعلا فأنقذ الموقف بأن زعم أن الروح الإنساني لا يقف عند حد تصوير الكون وتمثيله في شخصه، كما هي الحال مع سائر الكائنات، ولكن له فوق ذلك مقدرة على إدراك الله وتقليده، ثم معرفة أجزاء العالم عن طريقه، لأنه يعتقد أن الله جل شأنه هو الذرة السامية الكاملة وهي أساس الذرات جميعا، منها تنبثق، كما ترسل الشمس ضوءها، فإذا ما أرادت ذرة أن تتصل بأخرى، كان لزاما عليها أن تتصل أولا بذلك الأساس أو قل (السنترال) لأنه بمثابة المركز الذي تتفرع عنه الطرق جميعا.
نظرية المعرفة:
من أين جاءت إلى الإنسان هذه المعلومات التي تملأ شعاب ذهنه؟ أما (لوك) فرأيه في ذلك معروف. وهو أن كل معلوماتنا إنما جاءت عن طريق الحواس فأثرت في صفحة الذهن التي برزت إلى هذا العالم نقية بيضاء لا تشوبها شائبة، وأما (ديكارت) فيزعم أن الطفل يولد مزودا ببعض الآراء الفطرية التي لا يمكن أن يحصلها بالتجربة، طرفان متناقضان من الرأي، كتب لهما أن ينتهيا إلى ليبنتز الذي لا يعجز عن جمع المتناقضات في وحدة متسعة! ألم يوفق بين مذهبي الفردية والكونية، وأخرج منهما فلسفة الذرات القوية؟ وهاهو ذا كما عهدناه يوفق بين لوك وديكارت في نظرية تحصيل المعرفة! فهو من ناحية ينكر على لوك رأيه في انعدام الآراء الفطرية. ويرى هو أن للعقل أساسا من المعلومات يستحيل أن يحصل بدونه شيئا، فيولد وهو يحمل بين طياته معرفة كامنة بالقوة ولا تصل إلى درجة الشعور إلا إذا أيقظتها التجارب التي تنفذ إليها عن طريق الحواس، فليس من شك في أن الطفل يولد مزودا بميل إلى استطلاع الحقيقة قبل أن يصادف من حياته تجربة ما، ويكفي أن يكون لديه تلك القوة العقلية وحدها ليجوز لنا القول بأن له معرفة فطرية، وإذن فيجب أن نكمل نظرية لوك التي يلخصها في هذه العبارة: (ليس ثمة في العقل من أثر إلا ما تبعثه الحواس) بأن نضيف إليها هذا التعديل: (اللهم إلا العقل نفسه)!! كذلك ينقض ليبنتز رآى ديكارت في الآراء الفطرية، فلا يذهب معه في أن المعرفة التي تولد مع الطفل تكون عند الولادة محددة واضحة، إنما يعتقد ليبنتز إن تلك المعرفة تكون بادئ الأمر سابحة في اللاشعور، وتظل غامضة مهوشة حتى تدركها التجربة فتوقظها من مكامنها وتزيل ما يغشاها من غموض بما تنشره على معالمها من ضوء، فحياة العقل عبارة عن تقدم مطرد مستمر من إدراك مهوش مضطرب إلى إدراك دقيق محدود. شأنه في ذلك شأن كل ذرة في الكون، حياتها انتقال من الغموض إلى الوضوح في الإدراك. من ذلك نرى أنه وافق ديكارت على وجود الآراء الفطرية، بل لم يرضه أن يقف عند الحد الذي وقف عنده ديكارت. من أن بعض الآراء فقط تولد مع الطفل وبعضها الآخر تحصله الحواس فادعى هو أنها جميعا تولد فطرية ولا يستحدث منها في الحياة شيء كما وافق لوك على أن التجارب التي تنفذ إلى العقل عن طريق الحواس لها كل الأثر في تكوين المعرفة، والفرق بينهما إن ليبنتز لا يرى هذه المعرفة قد استحدثت بل انتقلت من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل، أو قل انتقلت من حالة الخمود إلى اليقظة والنشاط، وهكذا استطاع ليبنتز أن يقرب وجهتي النظر إلى حد الاندماج.
الله والعالم:
كان ليبنتز مؤمنا شديد الإيمان، يصدر عن عقيدة سليمة ودين قويم، فهو يرى لزاما عليه أن يرد بالحجة ما تنطلق به بعض الألسنة من اتهام بالشر والنقص، وأن يثبت للناس أن هذه الدنيا التي نعيش فيها هي أكمل ما يستطاع خلقه من الدنى. أليس الله جل شأنه علة وجود الأشياء جميعا؟ إذن فلابد أن يكون قويا إلى أبعد حدود القوة، كاملا إلى أقصى مراتب الكمال، حكيما إلى أعمق أغوار الحكمة، خيرا إلى أوسع آماد الخير. صور لنفسك هذه الحكمة المطلقة قد تآزرت مع ذلك الخير الأسمى في خلق العالم، ثم حدثني كيف يكون؟ أليس من الطبيعي المحقق أن يجيء على أحسن ما تجيء العوالم؟ هذا حق لا ريب فيه. لأن الله تعالى يصدر عن منطق مستقيم يتفق مع ما له من كمال، ولا يسع ذلك المنطق الكامل إلا أن ينتج عالما أقرب ما يكون إلى الكمال (لأنه إذا أخرج عالما دون ما يستطاع إخراجه، كان في عمله ما يمكن تهذيبه وإصلاحه). هذا الإيمان العميق لم يصادف من فولتير إلا سخرية مرة! فيرد على ليبنتز بقوله إن تجربته في الحياة علمته أن هذا العالم، على نقيض ما وصف، أسوأ ما يمكن خلقه من العوالم. ولو كان فيه ذرة من كمال لأمحى من وجهه هذا البؤس الذي يزهق ألوف الألوف من النفوس الكسيرة، وقد هاج هذا القول من فولتير شابا مؤمنا إلى درجة الحماسة فتصدى له وهاجمه في الصحف هجوما عنيفا، فلم يكن من الساخر العظيم إلا أن رد عليه في رفق هادئ بقوله: (يسرني أن أعلم أنك أصدرت رسالة تهاجمني فيها، فقد أوليتني بذلك شرفا عظيما، ولكن ألا تستطيع يا سيدي أن تحدثني عما يدفع آلاف البشر لجذ حلوقهم في هذا العالم الذي تصفونه بأنه خير ما يستطاع خلقه، وإني لك من الشاكرين). كذلك تصدى هجل لنقد ليبنتز في رأيه هذا عن العالم، واحتج بأنه قد تركه قضية بغير دليل. فلنسلم معه جدلا بأن هذه الدنيا خير ما يمكن خلقه، أفيكون هذا دليلا على خيرها وصلاحها؟ إذا أنت أرسلت خادمك إلى السوق ليبتاع لك شيئا! فجاءك به الخادم سيئا كريها ثم أقنعك أنه خير ما يباع في السوق، أفتحكم على هذا الشيء بالجودة لأنه كذلك؟ كلا ولا ريب فلا يمنع سوءه وشره ألا يكون هناك أحسن منه، كذلك قل في العالم، قل ما شئت من خير ما يمكن وجوده، ولكن هذا لا يبرئه من النقص والشر. وكأنما ليبنتز قد لحظ هذا الضعف فيما يقول فاعترف أن في العالم شرا كثيرا، ولكنه لا يرى ذلك مناقضا لنظريته، بل يتخذ هذا الشر نفسه دليلا على صحتها. فلولا ما تحوى الحياة من بؤس وألم. لما كانت الدنيا خير ما يستطاع خلقه، لأنهما كثيرا ما يكونان سبيلا إلى الخير وسببا في وجوده!! (المرارة القليلة كثيرا ما تكون ألذ مذاقا من السكر الحلو!). ثم يسير ليبنتز بعد ذلك في البحث عن أصل الشر في العالم، فيقرر أن علة وجوده هي هذا الجانب المادي. فقد ذكرنا فيما سبق أن لكل ذرة في الوجود جانيا فعالا، وإلى جواره جانب سلبي منفعل، هو الجانب المادي منها، وبقدر ما ترجح كفة الجانب الفعال كانت الذرة أدنى إلى الكمال، ولذلك ترى كل ذرة لا تفتأ تسعى جهدها لكي تتغلب على جانبها المادي السلبي الذي يقعد بها عن السمو في سبيل الكمال. والإنسان (ككل شيء آخر) لا يدخر وسعا في هذا الجهاد العنيف الشاق. وهذا الجهاد نفسه (الذي لامناص منه بحكم طبيعة التكوين الذري) هو أصل الشر وسبب البلاء فالشر إذن نقص نشأ عن محاولة التخلص من قيود المادة، فكأنه لم يوجد إلا ليكون سلما للصعود نحو الكمال الأسمى. وعلى هذا الاعتبار يكون الشر وسيلة للخير!!
أضف إلى ذلك أن وجود الشر إلى جانب الخير، مما يعمل على جمال الحياة، التي كانت تقل عما هي الآن كمالا وجمالا لو أنها لا تحوي إلا خيرا محضا. ومن ذا الذي يتمنى حياة لا ألم فيها، تجيء على صورة واحدة لا اختلاف فيها!؟ ثم يذكر ليبنتز أن الخير هو الجانب الإيجابي من الحياة، والشر هو الجانب السلبي منها، ولما كان الله تعالى لم يخلق، بداهة، إلا الجانب الإيجابي، فلا يمكن أن يعد سببا في وجود الناحية السلبية. ولا يمكن أن يكون الله خالقا لما نرى في الحياة من شرور وآلام.