مجلة الرسالة/العدد 21/مطالعات في التصوف

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 21/مطالعات في التصوف

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 11 - 1933



عوارف المعارف. معرفة النفس

وأنت إذا أردت ان تقف لمؤلف عوارف المعارف على رأي خاص في مسألة الروح وجدت أنه لا يستطيع أن يقطع برأي في ذلك إذ هو يرى نفسه إزاء أقوال متناقضة ومذاهب متضاربة لا يكاد الإنسان يأخذ بأحدها حتى يأتي الآخر فينسخ الأول ويزعزع رأيه فيه. ومن هنا كان مؤلفنا أميل ما يكون إلى الإمساك عن القطع برأي في هذه المعضلة. عرض المؤلف بعد ما قدمت لك لمسألة الروح الإنساني وغيره من أنواع الأرواح. وموجز قوله في هذا الصدد هو أن الروح الإنساني العلوي من عالم الأمر. والروح الحيواني البشري من عالم الخلق. وهذا الروح البشري هو محل الروح العلوي ومورده. وهو جسماني لطيف حامل لقوة الحس والحركة. وانه لينبعث من القلب الذي هو عبارة عن هذه المضغة اللحمية الموجودة في الجانب الأيسر من الجسد وينتشر في تجاويف العروق الضوارب، وهذا الروح موجود لدى سائر الحيوانات تفيض منه قوى الحواس، ولورود الروح الإنساني العلوي على هذا الروح الحيواني تجنس الروح الإنساني وباين أرواح الحيوانات الأخرى واكتسب صفة أخرى فصار نفسا محلا للنطق والإلهام. ومن هنا نلاحظ أن النفس الإنسانية تكونت من سكون الروح الإنساني العلوي إلى الروح الحيواني، مثلها في هذا السكون كمثل سكون آدم إلى حواء بحيث نشأ بينهما التآلف والتعاشق.

ومسألة أخرى من تلك المسائل الفلسفية والنفسية حدثنا عنها المؤلف في هذا الباب، واعني بها مسألة العقل ومركزه وآراء الناس في هذا المركز. والناس يختلفون في مركز العقل كما يختلفون في غير العقل من الملكات الباطنية. فمن قائل بأن مركز العقل الدماغ. ومن قائل آخر بأنه القلب. ولعل اختلافهم هذا راجع إلى عدم استقرار العقل وبقائه على نسق واحد. فهو ينجذب إلى البار تارة وإلى العاق تارة أخرى. ورد في أخبار داود عليه السلام أنه سأل ابنه سليمان: أي موضع للعقل منك؟ قال: القلب لأنه قالب الروح. والروح قالب الحياة. وقال أبو سعيد القرشي: الروح روحان: روح الحياة، وروح الممات. فإذا اجتمعا عقل الجسم. وروح الممات هي التي إذا خرجت من الجسد صار الحي ميتا. وروح الحياة هي ما به مجاري الأنفاس وقوة الأكل والشرب وغيرهما. وقال بعضهم (الروح نسيم طيب يكون به الحياة. والنفس ريح حلوة تكون منها الحركات المذمومة والشهوات). ويعمد المؤلف بعد هذا كله إلى الموازنة بين الروح والنفس بحيث يبين لنا من خلال بعض الأقوال، الأخلاق والصفات التي تصدر عن كل من الروح والنفس. فقد قيل أن النفس لطيفة مودعة في القلب منها الأخلاق والصفات المذمومة. على حين أن الروح لطيفة مودعة في القلب منها الأخلاق والصفات المحمودة. ومثل النفس والروح فيما يصدر عن الأولى من أخلاق وصفات مذمومة وما يصدر عن الثانية من أخلاق وصفات محمودة كمثل الحواس في أن العين للبصر والإذن للسمع. الخ. وترجع أخلاق النفس وصفاتها جميعا إلى أصلين، أحدهما الطيش والآخر الشره. وقد نشأ طيش النفس من جهلها ونشأ شرهها من حرصها. ومثل النفس في طيشها كمثل كرة مستديرة على مكان أملس لا تكاد تستقر أو تثبت ولكنها على العكس دائمة الاضطراب والحركة. ومثلها في شرهها كمثل الفراش الذي يساور المصباح فلا يقنع منه بالضوء اليسير ولكنه يلقي بنفسه عليه ليغمره ضوء هذا المصباح حيث يلقي حتفه. ومن الطيش نشأت العجلة وقلة الصبر. ومن الشره نشأ الحرص والطمع وهما هذان الخلقان اللذان ظهرا في آدم حين طمع في الخلود فحرص على أكل الشجرة. وأنت إذا أنعمت النظر فيما يذكر مؤلف عوارف المعارف عن الشره واتخاذه أصلا من الأصلين اللذين تصدر عنهما أخلاق النفس رأيت أن في كلامه تناقضا. وبعبارة أخرى دورا كما يقول المناطقة. فهو يقول أن شره النفس ناشئ من حرصها ثم يعود بعد هذا فيقول أن الحرص والطمع خلقانينشآن عن الشره. وإذن فالشره في بادئ الأمر نتيجة للحرص، ثم هو في آخره مبدأ له. وعلى هذا يكون الدور ظاهر. ومهما يكن من شئ فان النفس على كل حال مصدر للأخلاق المذمومة. فمن عرف أصولها وطبيعتها، وتبين أخلاقها وجبلتها، عرف أن لا قدرة له على كبح جماحها ومغالبة أهوائها وشهواتها إلا بالاستعانة في ذلك كله بباريها وفاطرها.

ولا يتحقق العبد بالإنسانية، إلا إذا دبر في نفسه دواعي الحيوانية وذلك بالعلم والعدل وبمراعاة طرفي الإفراط والتفريط، فبهذا تقوى إنسانيته وتنقى نفسيته ويدرك من نفسه صفات الأخلاق المذمومة بحيث ينتهي إلى كمال إنسانيته.

تعال ولنمض الآن إلى أوصاف النفس. فقد ذكر مؤلفنا أن الله وصف النفس في كتابه العزيز بأوصاف ثلاث: فوصفها بأنها مطمئنة فقال: (يا أيها النفس المطمئنة) وبأنها لوامة فقال: (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة). وأخيرا بأنها أمارة بالسوء فقال: (إن النفس لأمارة بالسوء) وهذه النفس التي وصفت بأوصاف متباينة واحدة. فإذا امتلأ القلب سكينة ألبس النفس ثوب الطمأنينة لأن السكينة تزيد في الأيمان. وفي هذه الطمأنينة يرقى القلب إلى محل الروح لما منح من حظ اليقين. وحين يتجه القلب إلى محل الروح تتجه النفس إلى محل القلب. وهي في هذا تصيب من الطمأنينة حظا. وإذن فأنت ترى أن النفس والروح يتطاردان بحيث يملك القلب دواعي النفس تارة، ودواعي الروح تارة أخرى، كما ترى أيضا أن الملكات الباطنية عند الصوفية هي الروح والقلب والنفس. وانهم ليضيفون إليها ملكة رابعة اختلفوا في شأنها كما اختلفوا في غيرها. هذه الملكة هي (السر) ويذكر مؤلف عوارف المعارف شيئا عن هذا الاختلاف في أمر السر فيقول إن من الصوفية من جعله بعد القلب وقبل الروح. ومنهم من جعله بعد الروح وأعلى منها وألطف. ولقد

قالوا إن السر محل المشاهدة، والروح محل المحبة، والقلب محل المعرفة. ولابد من أن نلاحظ أن السر لم يرد ذكره في القرآن وإنما ورد ذكر الروح والنفس والقلب والفؤاد والعقل. ويرى مؤلف عوارف المعارف انه لما لم يذكر هذا السر في القرآن، ولما أختلف الصوفية فيه هذا الاختلاف فهو لاوجود له وجودا مستقلا في ذاته بحيث يكون ملكة خاصة كالروح أو النفس. وإنما هو وصف زائد تكتسبه الروح حينا، والقلب حينا آخر عندما يتطلع كل منهما إلى مواطن القرب. إذن فليس السر شيئا آخر غير الروح، مكتسبة وصفا زائدا على أوصافها، أو غير قلب مكتسب وصفا زائدا على أوصافه. ولابد من أن نذكر شيئا عن العقل. فهو كما يقول مؤلفنا - لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان. ولقد شرف الله العقل في حديث قدسي خاطبه فيه بقوله: (. . وعزتي وجلالي، وعظمتي وكبريائي، وسلطاني وجبروتي. ما خلقت خلقا أحب إلى منك ولا أكرم علي منك. بك اعرف وبك احمد وبك أطاع وبك أغنى وبك آخذ وإياك أعاتب ولك الثواب وعليك العقاب. وما أكرمتك بشيء أفضل من الصبر.) واختلف الناس في ماهية العقل. ففريق يرى انه من العلوم. فمن خلا من جميع العلوم لا يوصف بالعقل. وليس العقل كل العلوم إذ أن الخالي من أغلبها متصف بالعقل. وليس العقل من العلوم النظرية.

فمن شرط ابتداء النظر تقدم كمال العقل. وإذن فهو من العلوم الضرورية وليس جميعها. فصاحب الحواس المختلطة عاقل على الرغم من أنه فقد بعض مدارك العلوم الضرورية. وفريق آخر يذهب إلى أن العقل صفة يتهيأ بها درك العلوم كما قال المحاسبي انه غريزة يتهيأ بها درك هذه العلوم. ويقول بعضهم أن العقل عقلان: عقل للهداية مسكنه القلب وهو للمؤمنين الموقنين. وعقل مركزه الدماغ: يدير الأول أمر الآخرة ويدير الثاني أمر الدنيا. ولكنه على كل حال عقل واحد. تلك خلاصة هذا الباب الخصب من كتاب عوارف المعارف ولست أشك في أنك توافقني على ما امتاز به من البحث الدقيق والفكر العميق والجمع بين التصوف وما وراء الطبيعة وعلم النفس جمعا يظهرك على ما بين هذه العلوم من صلة وثيقة تكفي لأن تبين لك ما للتصوف من مكانة فلسفية وقيمة نفسية بين العلوم التي أنتجها الفكر الإسلامي.

محمد مصطفى حلمي. ماجستير في الآداب