مجلة الرسالة/العدد 179/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 179/الكتب
نفح الطيب في طبعته الجديدة
بقلم محمد فهمي عبد اللطيف
همة مشكورة تلك التي يبذلها الدكتور أحمد فريد رفاعي في الحرص على تراثنا الأدبي الحافل، بإحياء عناصره، ونشر مصادره. وإذا كنا قد عرفنا هذه الهمة في نفس الأستاذ من قبل - رغبة وأملا - فأننا الآن نلمسها منه عملاً جليلاً وجهداً كبيراً يؤديه في نشر كتابي، معجم الأدباء، ونفح الطيب، في طبع متقن، وضبط كامل، وتقسيم واضح، وتصحيح دقيق، تقوم وزارة المعارف بمراجعة أصوله النهائية مبالغة في إجادته وحرصاً على إتقانه.
ولقد وقع لي (القسم) الأول من نفح الطيب، فرأيته كالعروس المجلوة تخطر في الثوب القشيب، فهو يغري بالقراءة إغراء، ويستحث على المضي في استجلائه وتأمله، فعاودت الكتاب بالنظر والتصفح، إذ كنت قد قرأته من قبل في طبعته الأولى، فقدرت عمل الدكتور النافع، وتملكني الإعجاب بذلك المجهود الذي بذله في إخراج هذا الكتاب الجليل، ولكن نشوة الإعجاب بالدكتور لا تمنعي من أن أنبه على بعض هنوات ما تحسبها إلا قد ندت عن الخاطر اليقظ، وخرجت عن الدقة البالغة.
فمن ذلك أنه وضع اسم الكتاب على الغلاف ناقصاً، فسماه نفح الطيب فحسب، والمؤلف قد سماه (نفح الطيب، من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب) وهذا الاسم هو الذي وضع على الطبعات السابقة، فكان على الأستاذ أن يثبته كاملاً للمحافظة على وضع المؤلف، ولأن ذكر لسان الدين هو الفكرة الداعية لتأليف الكتاب كما أوضح ذلك المقري في مقدمته.
ثم إن الأستاذ رأى أن يخرج الكتاب أقساماً تبلغ العشرين وأسمى القسم الأول منها بالجزء الأول، ومن المعلوم أن المؤلف قسم كتابه عند التأليف إلى أربعة أجزأء، ومسألة التقسيم مسألة اعتبارية، والدقة تقضي بالمحافظة على اعتبار المؤلف الذي أخرج الكتاب عليه؛ فكان الأنسب أن يقسم الناشر كل جزء إلى أقسام، فيقول مثلاً: القسم الأول من الجزء الأول، والقسم الثاني من الجزء الأول. . . وهكذا حتى ينتهي الجزء الأول، فيبتدئ تقسيماً جديداً للجزء الثاني.
ونتجاوز هذا إلى صميم الكتاب، فنقف مع الأستاذ في تلك المقدمة التي دبجها في التعريف بمؤلف الكتاب، فنجده قد جاء بأشياء ذكرها المقري نفسه في المقدمة التي كتبها عن سفراته ورحلاته، والباعث له على تأليف الكتاب. ومن العجيب أن يقول الأستاذ وهو يسرد مؤلفات المقري: ومن مؤلفاته الشائقة عرف الطيب في أخبار ابن الخطيب، ثم يقول في الهامش: ذكر في كشف الظنون أنه سماه بعد ذلك نفح الطيب، وهذا لف لا حاجة إليه، فإن المؤلف قد شرح مسألة التسمية في المقدمة فقال: (وقد كنت أولاً سميته بعرف الطيب في التعريف بالوزير ابن الخطيب، ثم وسمته حين ألحقت به أخبار الأندلس بنفح الطيب. . .) فكان سبيل الكلام أن يقول الأستاذ: ومن مؤلفاته نفح الطيب. . . ولا يثبت اسماً قد ألغاه صاحبه، ولا ينتدب كشف الظنون لمهمة قد أداها المؤلف عن نفسه؛ على أنه بعد ذلك قد ذكر الاسم الأول محرفاً كما يتبين ذلك من مقابلته بعبارة المؤلف.
وفي (ص52) قال المقري من قصيدة طويلة:
أين الذي الهرمان من ... بنيانه الحاكي اعتزامه
فعلق عليه الشارح بقوله: كشف من الأهرام حتى الآن أربعة!! إلا أن شعراء الماضي يذكرون الهرمين: هرم خوفو وهرم خفرع، ثم استشهد لذلك بقول أبي الطيب:
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع!
نقول: وشعراء الماضي يذكرون الأهرام بلفظ الجمع وهو كثير في أشعارهم، ومن ذلك قول ابن جبارة:
لله أي غريبة وعجيبة ... في صنعة الأهرام للألباب
أخفت عن الأسماع قصة أهلها ... ونضت عن الإبداع كل نقاب
وفي (ص 61) قال المقري: (وقد زمت للرحيل القلص الرواسم) فقال الشارح: الرواسم هي الإبل السائر رسيما قال الشاعر:
متى تقول القلص الرواسما ... يدنين أم قاسم وقاسما
وهذا تفسير ناقص فكان عليه أن يبين مرتبة هذا الرسيم من السير، أهو إلى السرعة أم إلى الريث، وإنما نبهنا على هذه لأن أمثالها في الكتاب كثير. ألا تراه يعلق على كلمة - نيسان - بالشرح فيقول. هو شهر رومي؟ وفي (ص 79) قرأت قول القائل:
رحلنا فشرقنا وراحوا فغربوا ... ففاضت لروعات الفراق عيون
وقد رأيت كلمة فشرفنا بالفاء، ولعل من الواضح أنها بالقاف لتكون في مقابلة (فغربوا) وأحسب هذا الخطأ من تحريف الطابع.
وفي (ص 98) قال المقري: (فكم جبنا من مهامه فيحا، ومسحنا بالخطأ منها أثيراً وصفيحاً. . .) فقال الأستاذ الشارح: الأثير عند الأقدمين الفلك التاسع، فهو على تشبيه المهامه بالفلك في اتساعه، أو الأثير من أثر السيف وهو فرنده ورونقه وديباجته ولعل هذا أنسب. نقول: أما المعنى على التفسير الأول فخطأ لا يصح، وأما التفسير الثاني ففيه نظر؛ تقول اللغة: أثر السيف بوزن الأمر فرنده؛ وتقول اللغة أيضاً: الصفيح العريض من كل شيء، فالمقري يريد أن يقول: إننا جبنا هذه المهامه وسرنا بالعريض منها والدقيق. ومن هنا ترى أن صحة العبارة (ومسحنا بالخطأ منها أثراً وصفيحاً. . .)
وفي (ص 139) قال المقري وهو يتكلم عن دمشق: (وهي المدينة المعمورة البقاع، بالفضل والرباع) فلم يطمئن الشارح لكلمة الرباع بالباء الموحدة، وقال: لعلها الرياع بالياء المثناة أي الريع والنماء والزيادة. نقول. واللغة لا تقول الرياع وإنما تقول الريع، ثم لاشك أنها الرباع بالباء الموحدة جمع ربع بمعنى القوم كما هو إطلاقهم على الحجاز، فكأن المقري يريد أن يقول: إنها عامرة بالفضل وبالأقوام، وهو كما يقولون في التعبير الحديث (آهلة بالسكان).
وفي (ص 152) قول القائل في وصف دمشق أيضاً:
إن تكن الجنة الخلود بأرض ... فدمشق لا يكون سواها (؟)
أو تكن في السماء فهي عليها ... قد (أمدت) هواءها وهواها
فقال الشارح: لعلها أمرت!! نقول ومعنى أمرت أذهبت ولا يصح المعنى على هذا الحدس، فهي أمدت كما في الأصل لأن الشاعر يريد أن يقول: إن تكن الجنة بالأرض فهي دمشق، وإن كانت بالسماء فموضعها فوق دمشق وإنها أمدتها بهوائها وهواها. . .
وفي (ص 162) قال الشاعر:
رونق كالحباب يعلو على الما ... ء ولكن تحت الحباب الحباب والشارح قد قيد الحباب جميعها في البيت بالضم، وإنما هي في الأولى والثانية بالفتح بمعنى الفقاعات التي تعلو سطح الماء، وقد فطن إلى هذا الخطأ فقيد الكلمة مصححة بالفتح فيما بعد.
وفي (ص 164) قال المقري: (ولو كان بين الصفا والحجون) وقد رأيت الصفا مضبوطة بكسر الصاد، وإنما هي بالفتح كما جاءت في القرآن الكريم.
وفي (ص 181) البيتان:
تمتع بالرقاد على (شِمال) ... فسوف يطول نومك باليمين
ومتع من يحبك باجتماع ... فأنت من الفراق على يقين
فقال الشارح: يجوز أن تكون (شمال) جمع شملة وهي كساء يشتمل به. . . وفي حديث على (!؟) قال للأشعث بن قيس: إن أبا هذا كان ينسج الشمال بيمينه؛ وهي من أحسن الألفاظ وألطفها بلاغة!! وهذا كله شرح فاسد، فأن المراد بالشمال مقابل اليمين، إذ المعنى: تمتع بالنوم على جنبك الشمال في الحياة قبل أن يستمر نومك باليمين في الموت. ولعل من المعروف أن الأفضل في دفن الميت أن يوضع على جنبه الأيمن:
وفي (ص 201) قال الشاعر:
أين أيامنا اللواتي تقضت ... إذ زجرنا للوصل أيمن طير
فقال الأستاذ في الشرح: زجر الطير من العيافة ثم قال: والعيافة باطلة، واحتج لذلك بقول الشاعر:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصا ... ولا (زجرت) الطير ما الله صانع
وهذا فضول في الشرح ومثله في الكتاب كثير، ثم في كلمة زجرات تحريف وإنما هي زاجرات.
وفي (ص 203) قرأت قول ابن الخياط:
فلم أر الطرة حتى جرت ... دموع عيني (بالمربزيب)
وأنا أحفظها كالمربزيب وهي أصح وأبين. . .
وفي (ص 220) أثبت المقري قصيدة للمولي الشاهيني جاء فيها:
وهاكها سيارة أعتقت ... على جواد كان للبحتري ورثته منه ولكنما ... من شاعر وافى إلى أشعر
ما للفتى الطائي شواط امرئ ... يصطاد نسر الجو بالمنسر
وقد علق الأستاذ على البيت الأخير فقال: أظنه يريد بالفتى الطائي أبا تمام وبامرئ امرأ القيس فانظر - وقد نظرنا فرأينا أنه يعني بالفتى الطائي البحتري الذي ذكره في البيت الأول، وأنه يريد بامرئ: نفسه على جهة التشبيه بامرئ القيس وهذا هو الذي يقتضيه السياق، ويتطلبه المعنى.
وفي ص (257) قال المقري في تحديد الأندلس: (وهذه المدينة - يعني مدينة أربونة - تقابلها مدينة برديل. . .) فقال الأستاذ: لم نعثر في المعاجم على اسم هذه المدينة، وقد تكون محرفة عن (برديش) وهي من مدن قرمونية بالأندلس. وليس ثمة تحريف، فأن برديل هي بردو الآن، وتقع حيث يقترب البحر المحيط من البحر الشامي، وهي في مقابل أربونة؛ وقد كان القدماء يقسمون الأندلس إلى ثلاثة أركان، ويقولون إن ركنها الثاني يقع بالشرق بين أربونة وبرديل.
وفي (279) قال وهو يتكلم عن المعادن والأفاويه بالأندلس: (وقد سبق منه - أي العود الهندي - إلى خيران الصقلي صاحب المرية) والمقري قد نقل العبارة بنصها عن الإحاطة للسان الدين، وقد جاء في الإحاطة اسم صاحب المرية (حيزوان)
ذلك ما أحصيناه في هذا القسم من الكتاب في نظرة عجلى، وربما لو عدنا إليه بالنظرة الفاحصة لعثرنا على ما هو أهم وأجل، ولعل الله ييسر لنا النظر في جميع أقسام الكتاب.
محمد فهمي عبد اللطيف