مجلة الرسالة/العدد 177/نظرية النبوة عند الفارابي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 177/نظرية النبوة عند الفارابي

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 11 - 1936



للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

- 5 -

اعتنق الفارابي، بعد الكندي، نظرية أرسطو في الأحلام وقال معه إنها أثر من آثار المخيلة ونتيجة من نتائجها. ولا بد أن يكون القارئ قد لاحظ في التفاصيل والجزئيات تشابهاً واتصالاً أكثر من هذا بين رأي الفيلسوف العربي والفيلسوف اليوناني؛ فإن الفارابي يعتد بالميول والعواطف ويثبت مالها من أثر في تكوين الأحلام وتشكيلها. ويرى كذلك أن للطبائع والأمزجة دخلاً كبيراً فيها. وكل تلك أفكار رددها أرسطو من قبل.

بيد أن مؤسس الليسيه يجهد نفسه دائماً في أن يبعد عن مذهبه التفسيرات الدينية والتعليلات القائمة على قوى خفية وأسرار غامضة. ونزعته الواقعية تغلب عليه في دراساته النفسية كما استولت عليه في أبحاثه الطبيعية والأخلاقية. لهذا نراه يرفض أن تكون الرؤى وحياً من عند الله، ولا يقبل مطلقاً التنبؤ بواسطة النوم. لأن الأحلام ليست مقصورة على طائفة دون أخرى، وفي مقدور العامة والدهماء أن يدعوا التنبؤ بالغيب عن هذا الطريق، وهذا ما لا يسلم به أحد. وهنا يفارق الفارابي أستاذه ويقرر أن الإنسان يستطيع بواسطة مخيلته الاتصال بالعالم العلوي واختراق حجب الغيب والوقوف على المكنون والخفي. ولكن يجدر بنا أن نعقب على هذا مسرعين بأن الفارابي وإن خالف أرسطو فأنه يخالفه في نقطة محدودة؛ ذلك لأن الاتصال بالعقل الفعال عن طريق المخيلة لا يتم في رأيه إلا لطائفة ممتازة وجمع مختار، وإذا كان الفارابي وفق لحل موضوع المقامات والرؤى فلم يبقى أمامه إلا خطوة واحدة لحل مشكلة النبوة. فإن المخيلة متىتحررت من أعمال اليقظة المختلفة استطاعت أثناء النوم أن تصعد إلى سماء النور والمعرفة. وإذن متى توفر لدى شخص مخيلة ممتازة تمت له نبوءات في النهار مثل نبوءات الليل، وأمكنه في حال اليقظة أن يتصل بالعقل الفعال مثل اتصاله به أثناء النوم، بل ربما كان ذلك على شكل أوضح وصورة أكمل. فالنبي في رأي الفارابي بشر منح مخيلة عظيمة تمكنه من الوقوف على الإلهامات السماوية في مختلف الظروف والأوقات.

هذه هي نظرية النبوة في حقيقتها العلمية والفلسفية، وظروفها وأسبابها الاجتماعية، ومصادرها وأصولها التاريخية، ونعتقد أن الجزء الطريف والمبتكر في فلسفة الفارابي. حقاً إنها تعتمد على أساس من علم النفس الأرسطي، إلا أنها في مظهرها الكامل أثر من آثار تصوف الفارابي ومعتقداته الدينية. فأن الاتصال بالعقل الفعال سواء أكان بواسطة لتأمل والنظر أم بواسطة التمثيل هو قمة الصوفية الفارابية. ومن جهة أخرى يجب أن نلاحظ أن الفارابي متمش هنا مع مبدئه في التوفيق بين الفلسفة والدين ومتأثر بتعاليم الإسلام تأثره بأفكار أرسطو. فأن العقل الفعال الذي هو مصدر الشرائع والإلهامات السماوية في رأيه أشبه ما يكون بالملك الموكل بالوحي الذي جاءت به نظرية الإسلام: كل منهما واسطة بين العبد وربه وصلة بين الله ونبيه. والمشرع الأول والملهم والموحي الحقيقي هو الله وحده. وبهذا استطاع الفارابي أن يمنح الوحي والإلهام دعامة فلسفية، ويثبت لمنكريهما أنهما يتفقان مع مبادئ العقل ويكونان شعبة من شعب علم النفس.

غير أنه قد يعترض عليه بأنه يضع النبي في منزلة دون منزلة الفيلسوف. فأن وصول الأول عن طريق المخيلة في حين أن الثاني يدرك الحقائق الثابتة بواسطة العقل والتأمل، وليس هناك شك في أن المعلومات العقلية أفضل وأسمى من المعلومات المتخيلة؛ ولكن الفارابي فيما يظهر لا يأبه بهذه التفرقة ولا يعيرها أية أهمية؛ وسواء لديه أن تكون المعلومات مكتسبة بواسطة الفكر أم بواسطة الخيالة، ما دام العقل الفعال مصدرها جميعاً، فقيمة الحقيقة لا ترتبط بالطريق الذي وصلت إلينا منه، بل بالأصل الذي أخذت عنه؛ والنبي والفيلسوف يرتشفان من معين واحد ويستمدان علمهما من مصدر رفيع؛ والحقيقة النبوية والحقيقة الفلسفية هما على السواء نتيجة من نتائج الوحي وأثر من آثار الفيض الإلهي على الإنسان عن طريق التمثيل أو التأمل.

على أن الفارابي بعد أن فرق في كتابه: آراء أهل المدينة الفاضلة بين النبي والفيلسوف من ناحية الوسائل التي يصلان بها إلى المعرفة عاد فقرر في مكان آخر أن الأول، مثل الثاني، يمكنه أن يعرج إلى مستوى الكائنات العلوية بواسطة العقل. فأن فيه قوة فكرية مقدسة تمكِّنه من الصعود إلى عالم النور حيث يتقبل الأوامر الإلهية فلا يصل النبي إلى الوحي عن طريق المخيلة فحسب، بل فيه من قوى عقلية عظيمة. يقول الفارابي: (النبوة مختصة في روحها بقوة قدسية تذعن لها غريزة عالم الخلق الأكبر كما تذعن لروحك غريزة عالم الخلق الأصغر فتأتي بمعجزات خارجة عن الجبلة والعادات؛ ولا تصدأ مرآتها ولا يمنعها شئ عن انتقاش ما في اللوح المحفوظ من الكتاب الذي لا يبطل، وذوات الملائكة التي هي الرسل، فستبلغ مما عند الله إلى عامة الخلق).

وإذا كان في مقدور النبي أن يتصل بالعقل الفعال بواسطة النظر والتأمل فأن النبوة تصبح ضرباً من المعرفة يستطيع الناس على السواء الوصول إليه. فبتأثير العقل الفعال نبحث ونفكر وندرك الحقائق العامة، وبتفاوت أثره فينا تختلف درجاتنا ويفضل بعضنا بعضاً، وإذا ما عظم إشراقه على واحد منا سما بنا إلى مرتبة الإلهام والنبوة. وعلى هذا هو الذي دفع علماء الكلام إلى أن يأخذوا على الفارابي ومن جاء بعده من فلاسفة الإسلام ميلهم إلى عد النبوة أمراً مكتسباً. مع أن أهل الحق، فيما يصرح الشهرستاني، يقولون (إن النبوة ليست صفة راجعة إلى النبي، ولا درجة يبلغ إليها أحد بعلمه وكسبه، ولا استعداد نفسه، يستحق به اتصالاً بالروحانيات، بل رحمة يمن الله بها على من يشاء من عباده). ونحن لا ننكر أن موازنة الفارابي بين النبي والفيلسوف تدع باب النبوة مفتوحاً للجميع، كما أن الفلسفة ليست مقصورة على طائفة دون أخرى. إلا أنه يخيل إلينا أن الفلسفة في رأي الفارابي ليست سهلة المنال بالدرجة التي تبدو لأول وهلة، فلكل أن يتفلسف، ولن يحظى بالفلسفة الحق إلا أفراد قليلون؛ وفوق هذا فالفارابي يقرر أن النبي ينعم بمخيلة ممتازة أو قوى قدسية خاصة، ويغلب على ضننا أن هذه القوة القدسية وتلك المخيلة فطريتان في رأيه لا مكتسبتان وإن كان هو نفسه لم يصرح بذلك. ونحن نسلم جميعاً بأن في نفس النبي ومزاجه كمالاً فطرياً استحق به النبوة، وسما بسببه إلى الاتصال بالملائكة وقبول الوحي. والأنبياء هم صفوة الناس وخيرة الله في خلقه: (الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس) يقول الشهرستاني: (فكما يصطفيهم من الخلق قولاً بالرسالة والنبوة يصطفيهم من الخلق فعلاً بكمال الفطرة ونقاء الجوهر، وصفاء العنصر، وطيب الأخلاق وكرم الأعراق. فيرفعهم مرتبة مرتبة، حتى إذا بلغ أشده، وبلغ أربعين سنة وكملت قوته النفسانية وتهيأت لقبول الأسرار الإلهية بعث إليهم ملكاً وأنزل عليهم كتاباً).

وأخيراً إذا كان الفارابي قد استطاع التخلص من الاعتراضين السابقين فهناك اعتراض ثالث تعز الإجابة عليه، وهو أن تفسير الوحي والإلهام على النحو السيكلوجي السابق يتعارض مع كثير من النصوص الثابتة. فقد ورد أن جبريل عليه السلام كان ينزل على النبي في صورة بعض الأعراب أو أنه كانت تسمع له صلصة كصلصلة الجرس، إلى غير ذلك من آثار متصلة بالوحي وطرائفه. ولا نظن أن هذه الآثار غابت عن الفارابي، إلا أنه، فيما نعتقد، شغل بمسألة أخرى، وعني بأن يثبت أولاً وبالذات أن الوحي أمر ممكن ولا يخرج على المبادئ العلمية المقررة، وبذا أصبح اتصال الروحاني بالجسماني الذي كان يستبعده الصابئة وغيرهم مقبولاً، وينبغي أن نلاحظ أن جُلّ جهد الفارابي في نظرية النبوة لم يكن موجهاً نحو أهل السنة الذين يؤمنون بكل ما جاء في القرآن والحديث متصلاً بالوحي وكيفياته، وإنما كان مصوباً إلى تلك الطائفة التي أنكرت النبوة من أساسها، وهذه الطائفة لم تحارب الإسلام فحسب، بل حاربت الأديان على اختلافها. فلم ير الفارابي بداً من أن ينتصر لمبدأ النبوة من حيث هو وان يوضحه بمعزل عن أية بينة أو وسط خاص، وليس بعزيز عليه بعد هذا أن يتأول ما ورد من نصوص دينية تخالف آراءه أو تبعد عنها، وقد سلك سبيل التأويل غير مرة، فسلم بوجود اللوح والقلم مثلاً، ولكنه فسرهما تفسيراً يتفق مع نظرياته الفلكية والميتافيزيقية، ونحن لا ننكر أن الاسترسال في التأويل قد يغير كثيراً من معالم الدين، إلا أنه وسيلة لازمة لمن يحاولون التوفيق بين العقل والنقل. والحقيقة أن الفارابي وقف هنا، شأنه في نظرياته الأخرى، موقفاً وسطاً، فأثبت النبوة إثباتاً عقلياً علمياً غاضاً الطرف عن بعض النصوص والآثار المتصلة بها. وكأنه في الوقت الذي منحها فيه أسلحة جديدة جردها من بعض ما كانت تعتمد عليه من أحاديث وأسانيد. والموفق مضطر دائماً لأن يستخلص من الرأيين المتقابلين مذهباً جديداً يمت إلى كل واحد منهما بصلة.

ومهما يكن من شئ فلو لم يصنع الفارابي إلا أنه أظهر في جلاء منزلة النبي السياسية والاجتماعية لكُفي. وقد استطاع بهذا أن يرد على أباطيل أبن الراوندي واعتراضات الرازي. وعلى ضوئه سار فلاسفة الإسلام الآخرون وفسروا كثيراً من التعاليم الدينية بهذه الروح وتلك النزعة. وبوضع النبوة هذا الموضع الإنساني الاجتماعي يمكن أن تحل مشكلة الرياسة الدينية والسياسية التي شغلت المسلمين منذ القرن الأول للهجرة. وفي رأي الفارابي أن النبي والإمام والملك والحاكم والفيلسوف الذي نادى به أفلاطون لجمهوريته يجب أن يقوموا بمهمة سياسية واحدة. فهم واضعو النواميس والمشرفون على النظم الاجتماعية مسترشدين في كل هذا بالأوامر الإلهية. وميزتهم المشتركة أنهم يستطيعون الاتصال بالعالم الروحاني في حال اليقظة وأثناء النوم بواسطة المخيلة أو الفكرة. وفي هذا التفسير ما فيه من انتصار للإسماعيلية والشيعة بوجه عام سنرى أثره فيما بعد.

(يتبع)

إبراهيم مدكور