مجلة الرسالة/العدد 177/شخصية ناقدة يهملها النقد العربي
مجلة الرسالة/العدد 177/شخصية ناقدة يهملها النقد العربي
نقد أبن أبي عتيق
للأستاذ خليل هنداوي
ما زدت خوضاً في آثار الأقدمين إلا زدت إعجاباً بها وبهذا الجد الذي ولدها؛ وإنك لتقلب في كتبهم فيبهرك هذا التلون في المادة وهذا التفنن، وهب أنك خرجت منزعجاً لاضطراب في الاتساق واختلاف في الاتفاق، فإن هذا لم يكن ليذهب ببعض عجبك من هذا الجد ومن هذا الدأب اللذين يدلانك على عقلية حاولت أن تتأمل وتعلل!
في كتب الأقدمين ذلك الاضطراب الذي كان لا يحسه أصحابه. لأنهم لم يعملوا أعمالهم على حساب الأجيال الآتية، ولو فعلوا لهوَّنوا على مؤرخينا كثيراً من عناء الافتراض وقياس ما لا يقاس، ولكن أصحابنا - عفا الله عنهم - لم يريدوا أن يعطونا الثمرة ناضجة بل أرادوا أن نعمل على إنضاجها وصونها. وفي كتبهم ثمرات كثيرة تنادي الأيدي وهي دانية القطوف؛ وأذكر أني ما جلست يوماً إلى كتاب من هذه الكتب إلا خرجت بحديث ممتع أو فائدة جميلة تدفعني نفسي إلى التقاطها وأنى لي أن أقسم أعضاء جسدي أقلاماً تسطر!
جلست في هذا الصيف إلى أغاني أبي الفرج التي كلما ضربها الأدباء تفجرت منها عيون جديدة. ووقفت على أسم (أبن أبي عتيق) الذي عاش في الحجاز في العصر الأموي ورافق تطور المدرسة الغزلية أتأمل تكرر أسمه في كثير من المواقف مع كثير من الشعراء، طوراً يبدو لي كناقد وطوراً كسامر، فحصرت مواقفه في هذه المواضع على التقريب، فإذا بي أراني أمام شخصية عنيدة في النقد هي - إذا صح ضني - أول شخصية في الأدب العربي (اليقيني) عالجت الأدب وعملت على نقده مستلهمة إلا ذوقها. . . ولكن أبا الفرج عفا الله عنه ترك هذه الشخصية مجهولة لأنها - في زعمه - لم تبتكر ولم تنتج شعراً ولا لحناً، ولكن هذه الشخصية تتردد كثيراً على الأفواه. وتغشى كثيراً مجامع اللهو والأدب، وتصبغ كثيراً هذه المجاميع بألوانها الخاصة. ومما يجعل هذه الشخصية بارزة ترددها الكثير إلى هذه المجامع المختلفة، وتردد أصحابها إليها معتبرين رأيها في النقد والأدب. ولا اعلم - بحسب روايات الأغاني - نقداً تحليلياً عميقاً كهذا النقد. ولقد أردت أن أوضح هذ الشخصية وأستوضح عنها في بطون الكتب والأخبار، وليس عندي ما يسعفني على ذلك؛ ولو كان ذلك سهلاً لما سهل على عقلي الذي لم أتعود إرغامه على الدخول في هذه المنعرجات الطويلة التي تحتاج إلى تأمل طويل وأناة في الإمعان. ولكن ذلك غير مانعي في من أن أغامر في رسم ناحية من نواحي شخصية هذا الرجل العجيب المنتج في النقد، وأظنها الناحية الأكثر بروزاً في الرجل.
والآن من هو ابن عتيق؟
يبدو لنا أن أبي عتيق رجلاً يخالط المغنين والشعراء ولا بد أنه كان يتذوقهم، وأنه كان صاحب ثقافة واسعة في الشعر والغناء تخول له الحكم فيهما، وإن كان بعد هذا كله صاحب ذوق خاص يفهم الشعر والغناء به. ومنذ كان كما يبدو يقصده الملحنون والشعراء أنفسهم يحتكمون إليه في لحن أو بيت أو ملحن أو شاعر فلا يتباطأ في حكمه، ولا يفل رأي في ذلك. حديد اللسان والجنان والبيان! ولولا هذه الثقافة وهذه الشهرة لما كان له مقام في ذلك. ولقد كان عمر بن أبي ربيعة أحسن المقربين إليه، وكان له معه عشرة حسنة ومجالس طيبة، وكان له مع شعراء الحب والغزل أمور كثيرة، ولا بد أن حادثة من حوادث غرامه جعلته يحدب على المحبين، ويمثل دور الرسول بينهم وبين أحبتهم.
ويمتاز نقده بأنه كان نقد روح ومعان لا نقد قشور ومبان؛ ويعود سر ذلك إلى أن اللغة العربية كانت لا تزال بعيدة عن الفساد، وأن لسان العرب كان لا يزال لساناً فصيحاً، وكان نقده أقرب إلى أحاديث النوادي، لأنه نقد بيت أو فكرة، ولأنه نقد يلم بجانب واحد من المعنى ويهمل بقية الجوانب. ونقده ليس فيه صرامة ولا خشونة ولا صلف، وإنما هو نقد تهيمن عليه رقة حجازية ومجون برئ يأبى إلا أن يظهر. ومن وراء ذلك تهكم بعيد ويصيب المفصل! ولهذا التهكم جعل الشعراء يتقدمون إليه ويطمعون في اكتساب مرضاته. وهو يذهب تارة في نقده يكشف عن المعنى غطاء ثقيلاً، وطوراً يستجلي المعنى البعيد في البيت ويكشف عن قصده، وتارة يفسد على الشاعر ما ذهب إليه ولم يفطن له! ومثل هذا النقد أقرب إلى الروح الأدبية في ذلك العصر وهو - بعد هذا - بعيد عن مثل ذلك الاختلاق الذي وضع على لسان الخنساء يوم نقدت حسان بن ثابت وأضعفت بنقدها اللغوي مواضع فخره! لأن الوثبات الأدبية الأولى في الأمم لا ترنو إلى مثل هذه الفروق اللغوية الدقيقة التي لا تنشأ إلا عند رجال انصرفوا إلى اللغة وتدقيقها والتفريق بين فروقها، ولو أن هذه الوثبات تلتفت إلى هذه الفروق لقتلت كثيراً من روح نشاطها وأخمدت كثيراً من نار إبداعها. ويمتاز أبن أبي عتيق بثقافته الغنائية، ومثل هذه ترقق الذهن وتلطف الحواس وتجعل للبيت المنظوم قدراً خاصاً. وقد كانت هذه الثقافة الغنائية عنده سليقة طبيعية. ولقد مر ذات يوم بمعبد وهو يغني - وكان طفلاً - فقال: (إن عاش معبد كان مغني بلاده) وعاش حتى رأى صدق نبوءته. ويمتاز بهذه الروح الخفيفة التي لا يستغني النقد ولا الناقد عنها. ويدل على ذلك مواقف كثيرة.
منها أن عمر بن أبي ربيعة شبب بزينب بنت موسى الجمحية بقصيدته:
يا خليلي من ملام دعاني ... وألما الغداة بالأظعان
وكان سبب ذكره لها إن أبن أبي عتيق ذكرها عنده ووصف من عقلها وأدبها وجمالها ما شغل قلب عمر. فبلغ ذلك أبن أبي عتيق فلامه فيها وقال له: أتنطق الشعر في ابنة عمي؟ فقال عمر
لا تلمني، عتيق! حسي الذي بي ... إن بي يا عتيق ما قد كفاني
لا تلمني، وأنت زينتها لي ... أنت مثل الشيطان للإنسان
قال أبو وداعة السلمي منكراً على عمر التشبب بها (لا أقر لأبن أبي ربيعة أن يذكر امرأة من بني هصيص في شعره) فأجاب أبن أبي عتيق (لا تلوموا أبا وداعة أن. . . من سمرقند على أهل عدن) ومن خفة روحه أن سمع عمر ينشد قصيدته.
ومن لسقيم يكتم الناس ما به ... لزينب نجوى صدره والوساوس
ولستُ بناسٍ ليلة الدار مجلساً ... لزينب حتى يعلو الرأس رامس
خلاء بدت قمراؤه وتكشفت ... دجنته، وغاب من هو حارس
وما نلتُ منها محرماً غير أَننا ... كلانا من الثوب المورد لابس
قال عتيق: أَمنا يسخر أبن أبي ربيعة، فأي محرم بقى؟ فاعتذر عمر، فقال له عتيق: يا عاهر! هذا البيت يحتاج إلى حاضنة. فأنظر ما كان أبعد هذه الروح في كشف المستور، وما أخف روحها في التعبير عنه.
ولقد يثبت في تهكمه من الأدب إلى السياسة ويضربهما ويصيبهما بحجر واحد ويكون تهكمه في هذا الموقف الدقيق بليغاً ما بعده أَبلغ! سمع عمر ينشده قوله
فأتتها طبة عالمة ... تخلط الجد مراراً باللعب
إن كفى لك رهن بالرضا ... فاقبلي يا هند! قالت: قد وجب
فقال له عتيق: إن الناس يطلبون خليفة مذ قتل عثمان في صفة قوادتك هذه يدير أمورهم فما يجدونه. فماذا يستطيع المحلل أن يزيد على هذا التهكم؟ ويسمع عمر ينشده قوله
حبذا أنت يا بغوم وأسما ... ء وعيص يكننا وخلاء
فقال له: ما أبقيت شيئاً يُتمنى يا أبا الخطاب إلا مِرجلاً يُسخن لكم فيه الماء للغسل. ولا أدري كيف يوفق بين محرم وطاعة إلا التهكم وحده؟
ويسمع عمر ينشده قوله:
ليت ذا الدهر كان حتماً علينا ... كل يومين حجة واعتماراً
فأجابه عتيق: الله أرحم بعباده أن يجعل عليهم ما سألته ليتم لك فسقك! وهكذا تجد أنه يتصدى لعمر لا لأنه يضمر لعمر مقتاً أو كرهاً، ولقد كان لعمر في نفسه منزلة لم ينزلها غيره من شعراء عصره وهو الذي تنبأ بنصف بيت كان في خاطر عمر.
قال عمر: لا تلمها وأنت زينتها لي
فأجاب عتيق: أنت مثل الشيطان للإنسان
فقال عمر: هو والله!
فقال عتيق: إن شيطانك ورب القبر ربما ألم بي فيجد عندي من عصيانه خلاف ما يجده عندك من طاعة، فيصيب مني وأصيب منه.
ولعمر كما ذكرت في نفسه منزلة خاصة إذ يرى فيه المثل الأعلى للشعر، إليه يسمو الشعراء، وبشعره يقتدي الشعر. ولقد كان يعرف شعراء عصره منزلة عمر عند أبن أبي عتيق. فكان يأتيه من يحاول مناقضته أو مجادلته فيه، وكان الشاعر يأتي بأبيات يتحدى شعر عمر، ولا أعلم شاعراً انثنى سالماً من نقد أبن أبي عتيق، ولا أعلم واحداً استطاع أن يجرح له حكماً أو نقداً.
(دير الزور)
البقية في العدد القادم خليل هنداوي