مجلة الرسالة/العدد 173/النظرية العامة للالتزامات في الشريعة الإسلامية
مجلة الرسالة/العدد 173/النظرية العامة للالتزامات في الشريعة الإسلامية
للدكتور شفيق شحاته
- 2 -
2 - الطريقة التاريخية
أما عن منشأ التشريع الإسلامي، فإنا نرى الإعراض عن البحوث التي حاول بها العلماء تأييد رأي دون آخر. أما حججنا فسنتلمسها من دراستنا الموضوعية نفسها، ذلك أنه من العبث الاستناد إلى التشابه بين بعض الأفكار للقول باتحاد المصدر أو بالاستمداد. فإن أهمية هذا التشابه لا يصلح تقديرها إلا إذا وضعت الأفكار في الجسم الذي انتزعت منه.
لذلك لن يوجد أبداً دليل أقطع على التشابه أو عدمه من استعراض نظرية الالتزامات في التشريع الإسلامي بعد بناء هيكلها. فعندئذ فقط سيظهر لنا إن كانت ثمة استعارات ومن أين أتت، وما هي؛ وإن لم تكن، فكيف كان التشريع متماسك الأطراف ظاهر الإبداع.
ونلاحظ هنا فقط فشل المحاولات التي ظهرت قديماً وحديثاً لإثبات استمداد التشريع الإسلامي من القانون الروماني. أما محاولة (كاروزي) فقد هدمها المستشرق (ناللينو). وحديثاً ظهرت رمالة في الشفعة (طبعت في ميلانو سنة 1933) رمى بها مؤلفها إلى إثبات هذا الاستمداد. على أن استنتاجاته لم تقنع أحداً كما يظهر من تعليق الأستاذ (روسييه) على هذا الكتاب في (مجلة تاريخ القانون ص 323 لسنة 1934).
على أنه ليس بين أيدينا في الواقع من الآثار القانونية شيء يرجع إلى ما قبل العصر العباسي. أما عن الجاهلية فإن هناك بعض الإشارات البعيدة مبعثرة في آثار متأخرة عن هذا العهد؛ وكذلك يقال عن عصر الخلفاء الراشدين والخلفاء الأمويين، فإن جل ما نجد هو بعض الحلول لمسائل عرضت على بعض الحكام ولكن لا يظهر أنه في مدى هذه العصور الطوال قد كانت هناك مجموعة من القواعد أوحت بهذه الحلول الطفيفة.
ويبدو لنا أن التشريع في هذا العهد لم يكن شيئاً آخر سوى العادات المحلية السائدة سواء في جزيرة العرب أو في الأقطار المفتوحة، وإن ما ورد من الأحكام يعبر تماماً عن هذه العادات مع اتجاه خاص أملاه الدين الجديد.
ثم يضعنا العصر العباسي فجأة في أول عهده أمام مجموعة كاملة من الأحكام؛ ففي نظر التاريخ لا يظهر التشريع الإسلامي كتشريع بالمعنى الصحيح إلا مع (أبي حنيفة) الذي وردت آراؤه في جميع المسائل كما وردت آراء صاحبه (أبي يوسف) بمجموعات الكتب التي وضعها (محمد) صاحبه الآخر المتوفى سنة 189هـ.
فأول أثر من الآثار القانونية هو إذن اثر كامل الأجزاء. وإذا كانت هذه الكتب قد ذكرت في بعض الأحوال آراء لبعض الفقهاء ممن سبقوا (أبا حنيفة) فإن هذه الآراء لا تكون في مجموعها تشريعاً يعتد به.
فهذه الكتب تعطينا صورة كاملة للتشريع الإسلامي كما ارتأاها (أبو حنيفة)، وفي نفس هذا الكتب نلحظ اتجاها خاصاً يمثله (أبو يوسف) وهو اتجاه ظاهر الميل نحو الأخذ بقواعد العدل والإنصاف.
وقد انتقل هذا التشريع كما هو مع اتجاهاته المختلفة إلى الأجيال المتعاقبة من الفقهاء - بواسطة كتب (محمد) وإذا كان الفقهاء في زمن (السمرقندي) (حوالي سنة 573هـ) قد وضعوا حلولاً لبعض المسائل التي استجدت والتي أسموها (النوازل) فلم يكن عملهم هذا إلا بمثابة الملحق من الكتاب.
ولم يكن للفقهاء حتى في عصور الاجتهاد سوى تطبيق الأحكام الموضوعة على مسائل يقيسونها قياساً على ما سبقها، أو الترجيح بين حلين قام بشأنهما الجدل؛ ويلاحظ أن الفقهاء لم يترددوا في الواقع عن القياس والترجيح حتى في العصور التي تلت ما أسموه (إقفال باب الاجتهاد).
ولذلك نلاحظ أن القرون التي مرت على هذه الكتب لم تضف إليها الشيء الكثير. وما قد جاء من الحلول عن طريق الإجماع أو العادة موجود في الغالب بتلك الكتب. ومع ذلك فمما لا شك فيه أن (العرف والعادات) قد ساعدت على جعل بعض القواعد أكثر مرونة أو على تحديد مدى تطبيقها، إلا أن الأسس بقية ثابتة كما كانت من (المبسوط) إلى (رد المحتار) (2521هـ).
ويلاحظ أخيراً أن بعض المسائل أتتنا لا عن طريق كتب (محمد) الستة، بل عن طريق كتب أخرى له أو لغيره، وهي معتبرة أضعف سنداً من الكتب الستة؛ ولذلك عبر عنها (بغير ظاهر الرواية) على أن المفهوم أن هذه المسائل كذلك قد عرضت (لأبي حنيفة) أو لأصحابه.
أما مؤلفات (ابن سماعة) و (ابن رستم) التي وردت بها هذه الرواية فلم تصلنا، وعلى ذلك تكون ثقتنا بصحة هذه الرواية بقدر ثقتنا فيمن رواها من المؤلفين وهم يوردون هذه الرواية كغيرها أثناء عرضهم للموضوع.
وفي بحثنا هذا قد رجعنا أولاً وبادئ ذي بدء إلى كتب (محمد) وبذلك انتهجنا نهجاً كان الباحثون بعيدين عنه، فهم في الغالب يرجعون إلى أحد الكتب المتداولة للمتأخرين.
ولما كان (مبسوط) (محمد) هو (الأصل) كما يسمونه كان من المتعين الرجوع إليه أولاً. والواقع أن الرجوع إليه ليس من الميسور فهو لم يطبع بعد، والمخطوطات الموجودة منه بمصر أكثرها ناقص، على أنا قد وفقنا إلى العثور على نسخة وردت حديثاً على دار الكتب وهي من محتويات مكتبة المغفور له (محمد على الكبير).
أما ثاني الكتب الستة وهو (الجامع الصغير) فهو مطبوع، على أنه لا يروي غلة لاختصاره.
و (الجامع الكبير) هو ثالثها وقد عثرنا على جزء صغير منه بدار الكتب وتمكنا من تتبع بقية النصوص خلال ما ورد عليه من الشروح الكثيرة، وهو يختلف كثيراً في أسلوبه عن (المبسوط)، ذلك أن المسائل ترد به موجهة، بينما (المبسوط) خلو تماماً من التفسير والتوجيه.
أما رابع الكتب الستة وهو (الزيادات) فقد تقصينا نصوصه من خلال شروح (العتابي) و (قاضي خان).
والخامس والسادس من الكتل الستة موضوعان في السير، أي في قوانين الحرب فلم يدخلا في نطاق بحثنا.
وبعد أن تمكنا من هذا الأساس، سرنا في بحثنا متتبعين المؤلفين، على حسب الترتيب الزمني، ابتداء من (الخصاف) (261هـ)، لغاية (السندي) (1257هـ).
ولم نتراجع أمام المخطوطات القديمة فتيسر لنا بذلك الانتفاع ببعض المؤلفات العظيمة التي لم تتداولها الأيدي بعد. ومن ذلك (مختصر) (الطحاوي) (المتوفى سنة 321هـ). و (محيط) (رضي الدين السرخسي) المتوفى سنة (544هـ)، وقد ذكر هذا المؤلف الأخير، المسائل مرتبة، وهو يورد دائماً مسائل غير ظاهر الرواية ومسائل النوازل في فصول مستقلة. ونذكر من ذلك أيضاً (الذخيرة البرهانية)، و (خلاصة) (افتخار الدين).
أما مؤلفات (العصر الذهبي) للفقه الإسلامي، وهو الذي يمتد من مجموعات (محمد) لغاية (قاضي خان)، فنذكر منها (مبسوط) (السرخسي)، وهو شرح لما اختصره (الحاكم الشهيد) من الكتب الستة. و (جامع الفقه) (للعتابي) وهو مجموعة مسائل، تمتاز بشيء من الطرافة وبدائع (الكاساني) وهي بلا ريب أروع ما ألف في الفقه الإسلامي، وهي تمتاز بحسن ترتيبها، ووضوح أسلوبها. وهذا المؤلف هو في الواقع فريد في تقسيماته، وطريقة عرضه للمسائل. وقدجعلناه عمدتنا في جميع بحوثنا.
أما في العصر الذي يلي العصر الذهبي، وقد سميناه (عصر الشرح والتحشية)، فأول ما يقابلنا من المؤلفات العظيمة، (الهداية) وقد كتب في شرحها ما تقوم به مكتبة واسعة الأرجاء. ونذكر أيضاً مجموعة الشروح التي وردت على (الكنز)، وكذلك مجموعة الشروح التي وردت على (الدر المختار).
وعند الحلقة الأخيرة نجد (رد المحتار) (لابن عابدين) وهو عبارة عن دائرة معارف فقهية، على أنها تفتقر إلى التنسيق، وقد تبعه (السندي) (7521هـ) في شرح (الدر المختار)، ومؤلفه يقع في ستة عشر مجلداً ولا يزال مخطوطاً، وهو من محفوظات مكتبة الأزهر.
وهناك بعض المؤلفات اكتفى أصحابها بسرد المسائل، دون إيراد وجوهها، وقد سميت (بالفتاوى). وليس معنى ذلك أنها، في الواقع، أجوبة عن أسئلة عرضت، ونذكر منها (الظهيرية) و (التتارخانية) و (الهندية).
ومما يستحق التنويه، تلك المؤلفات، التي حاول مؤلفوها الارتقاء بها عن مجرد الحلول والعلل المباشرة، متقصين أسباب الفروق والنظائر؛ ونذكر منها (فروق) (الكرابيسي) ولا يزال مخطوطا، وأشباه (ابن نجيم) وشهرتها تغني عن وصفها، وشرح (التاجي) عن هذه (الأشباه) ولا يزال مخطوطا.
وأخيراً، نجد فريقا من المؤلفين، قد وجه عنايته إلى الناحية القضائية للمسائل. وأهم ما وضع في ذلك (جامع الفصولين) (لابن قاضى سماوه) وتنقيحه (نور العين).
ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى ما كابدناه من الصعاب عند البحث في هذه المؤلفات، وقد اقتضى ذلك منا مجهودا مضاعفاً يعرفه فقط من عالج هذه البحوث. فمن ذلك أنه لا يكفي الباحث التطلع إلى العنوان ليتعرف ما سيتناوله الباب من الموضوعات. فالمسائل في الواقع مبعثرة في مختلف الأبواب لغير ما سبب ظاهر.
ولا يستطيع الباحث الجزم بأن مسألة بعينها ليست موجودة في كتاب معين إلا إذا طالع جميع صفحات هذا الكتاب بإمعان تام. ولذلك نجد المؤلفين في إشاراتهم إلى المراجع ينقل بعضهم عن بعض. فإذا ذكر أحدهم عن مسألة أنها وردت (بالمبسوط) فلا يفيد ذلك أنه تحقق بنفسه من صحة ورودها.
لهذه الأسباب اضطررنا إلى دراسة بعض الكتب من الغلاف إلى الغلاف، وراجعنا جميع أبوابها باباً باباً لتقصي ما يهم موضوعنا من المسائل.
ويلاحظ أيضاً أن هذه المؤلفات لا تتبع ترتيباً واحداً في تسلسل الأبواب، ولو أن هذه الأبواب أو الكتب واحدة لم تتغير في الغالب منذ وضع (المبسوط).
على أن (المبسوط) جاء خليطاً من الأبواب ولا يراعي ترتيباً ما. أما الترتيب الذي نجد عليه (الجامع الصغير) فهو ليس (لمحمد) وقد اتبع هذا الترتيب غالب المؤلفين.
ومهما يكن الأمر فلا أهمية في الواقع لهذا الترتيب، فهو لم تقض به أسباب مقبولة، أما ما يذكره أحياناً المؤلفون من الأسباب فهو مجرد أسباب لفظية أو شكلية لا قيمة لها. وأنا نجد مثلاً أن كتاب الإجارة جاء في (بدائع الصنائع) قبل كتاب البيع، مع أن (الكاساني) نفسه قد أحال في كتاب الإجارة على كتاب البيع في كثير من المسائل.
(يتبع)
شفيق شحاته