مجلة الرسالة/العدد 164/هيكل عظمي!. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 164/هيكل عظمي!. . .

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 08 - 1936



للأستاذ علي الطنطاوي

(كنت أمس عند قريب لي يمارس صناعة الطب؛ فخرج لبعض حاجته، حتى أطال الغياب، وتسرب إلي الملل، فقمت إلى خزانة كانت حيالي، فقلت: لعل فيها كتاباً أقرأه فما راعني حين فتحتها إلا هيكل عظمي معلق بسقف الخزانة. . . وإلى جانبه هيكل ثان. . .)

. . . من أنت أيها الإنسان الذي انتهى به الأمر إلى أن يحبس في خزانة، ويلبث الدهر معلقاً بسلكة، ويعد متاعاً من المتاع؟ أأنت رجل أم امرأة؟ أغنيّ أم فقير؟ أملك أنت أم صعلوك؟. . . . .

هل كان في هاتين الحفرتين البشعتين عيون ساحرات الطرف، يفتن ذا اللب حتى لا حراك به، ويفعلن بالألباب ما تفعل الخمر؟ وهل كان على هذا الثغر المخيف شفاه لعس، تأخذ دنيا البخيل بضمة على شفتيه، ويبذل حياته الجبان في قبلة منها؟ وهل كان على هذا القفص العظمي صدر بلوري، يضيع بين ثدييه عقل العالم، ويذهب فيه لبّ الحليم، وينسى امرؤ أسند إليه رأسه الدنيا. وما فيها؟ هل كانت هذه العظام المستطيلة المرعبة سواعد بضة، وأفخاذا رجراجة طالما أثارت من هوى وأذكت من خيال وطالما أنطقت بالشعر الشعراء؟ أكنت أيها الإنسان امرأة فاتنة جميلة؟

وهذا الإنسان الآخر؟ هل كان عشيقك أيتها الفتاة؟ اعترفي فلا بأس عليك اليوم؟ هل كان يهيم بك حبا، ويحيا الليالي يحوم حول منزلك، أو يرقب شرفتك فإذا رأى شارة منك أو أبصر على الشرفة ظلك أو لمح طرف ثوبك الأبيض أو الأصفر أو. . . أو (الأرجواني) انصرف وهو أسعد الناس حالاً، وراح يحبر فيك (المقالات)، وطفق يرى صورتك التي نسجها من خيوط حبه، لا صورتك التي هي لك: طفق يراها في السماء التي يرنو إليها ويعد نجومها. وفي صفحة الكتاب الذي يفتحه وينظر فيه، وبين أغصان الأشجار التي تمتد إلى شرفته. وحيثما تلفت أو نظر (تلوح له ليلى بكل سبيل)؟

أم كان هذا الإنسان شاباً غضّ الشباب طري العود، ينظر بعيون الغيد، ويتثنى كأنه قضيب بان، ويتكلم بصوت ليّن المكاسر، كأن ألفظه ورناته غادة أخرى تميل وتتدلل، ولم يكن يحبك أو يفكر فيك، أو يفتش هو الآخر على من يحبه ويفكر ف أم كنت أيها لإنسان ملكاً يضيء على مفرقه التاج المحلى بالدر، ويلمع تحته السرير المصنوع من الذهب، إذا أمر تقاتلوا على السبق إلى طاعته، وإذ اشتهى شيئاً أسرعوا إلى تحقيق شهوته، وإذا مرض لم يكن للناس حديث إلا حديث مرضه، وإذا أبلّ لم يكن سرور إلا ببشري إبلاله، وإذا قام أو قعد أو قدم أو ذهب لهجت الألسن بقيامه وقعوده، واشتغلت الصحف بذهابه وقدومه، وإذا مشى في الطريق لم يمش على رجليه كما كان يمشي أبونا آدم عليه السلام، وكما تمشي ذريته، ولكنه يمشي على رءوس الناس الذين يحسون لفرط الإجلال أو لفرط السخط بأنه يمشي على رءوسهم جميعاً؟

أم كنت أيها الإنسان صعلوكاً حقيراً عاش على هامش الحياة، ودفن في حاشية المقبرة، فلم يحس أحد بحياته، ولم يدر أحد بمماته، ولعل حياته أشرف حياة لأنها حافلة بالفضائل، مترعة بالشرف، فكان يكدح طول نهاره. ليحصل خبزه وخبز عياله، فيأكله مأدوماً بعرق جبينه، لا يؤذي أحداً، ولا يسرق مال الدولة، ولا يتخذ وظيفته جسراً إلى تحقيق شهواته، وتحصيل لذاته، ولعل موته أشرف موت، لأنه مات مجاهداً وسط المعمل، وسقط وفي عينيه المعول.

انظر يا صديقي! التفت إلى يمينك. إن الملك لذي طالما خفته وأكبرته وأعظمت زينته وبزته وشارته وحليته، فملت عن طريقه ولم تجرؤ أن يرفع نظرك إلى طلعته الكريمة. . إنه معك في هذه الخزانة قد نزع عنه ثوب الملك والبهاء. وعاد مثلك: لا الملك دام له ولا دام الغنى!

هل كنت أيها الإنسان رجلاً عفيفاً مستقيماً، أم كنت لصاً خبيثاً؟ اعترف: إنه لن يضرك اليوم اعتراف، هل كنت لص أعراض تلبس ثوب التاجر، أو ترتدي حلة الموظف أو تتيه بردة الغنى. كم من الأعراض سطوت عليه باسم الوظيفة أو بصلة الصداقة، أو ولجت إليه من باب (السفور المتهتك)؟

أم كنت لصاً رسمياً لا سبيل للقانون عليه، لأنه يسرق من الناس ويسكتون. لأنهم يريدون أن تمشي أعمالهم. ويسرق من الحزينة بأسناد مصدقة!

أم كنت لص أدب، تسرق فكرة الفيلسوف وصورة الشاعر وموضوع الكاتب، فتلبسها ثوباً من أثوابك الخسيسة الممزقة، ثم تخرج بها على الناس على أنها بنت خيالك ووليدة عقلك! أم كنت مظلوماً ولم تكن لصاً ولم تحترف السرقة، ولكن رأيت صبية مشرفين على الموت من الجوع، وأسرة كادت تودى من أجل رغيف، ورأيت حقك في بيت مال الأمة، قد سرقه السادة الأكابر فغطيت وجهك حياء، وأخذت رغيفاً ليس لك، فثار بك المجتمع وقامت عليك الصحف، وتعلق بك القانون حتى استاقك إلى السجن، فمت فيه مفجوعاً بشرفك وأولادك!

اقترب أيها المجرم. أدن أيها الشهيد، تعال انتقم، هذا هو القاضي الذي حكم عليك، لأنك سرقت رغيفاً تعيش به أسرة، ثم خرج يخترق الصفوف، صفوف الشعب الذي اجتمع ليشهد انتصار الحق وظفر العدالة، فلما رآه حياه وهتف له حتى بح صوته، وصفق حتى احمرت كفاه، فلما ابتعدوا لم يعد يراه أحد مد يده التي حمل بها (مطرقة العدل) فأخذ ثمن وجدانه الذي باعه، أخذ الرشوة. . . تعال انتقم. إن القاضي والمجرم قد التقيا وزالت من بينهما الفروق!

أم أنت أيها الإنسان جندي صاحوا به: الوطن في خطر! الحضارة مهددة بالزوال! لقد أوشك أن يموت الحق وتذهب الفضيلة! فاشتعلت الحمية في رأسك، والتهب الدم في عروقك، وقدحت عيناك بالشرر، فتركت أمك المسكينة ليس لها بعدك إلا الله، وأسلمتها إلى الحزن الطويل، والثكل القاتل، وأولادك الذين تعلقوا بك يصيحون: بابا. . بابا. . أسلمتهم إلى اليتم والفقر والبؤس، وذهبت تلبي نداء الحق والفضيلة، وتخلص الحضارة، وتنقذ الوطن. . . فنمت على الجثث، وتجلببت باللهب، وتوسدت القنابل، حتى إذا أدركك أجلك سقطت صريعاً، وأقبل رفاقك يدوسون على جثتك، لا يجدون وقتاً لإزاحتها ودفنها، لأنهم يخافون إذا أبطئوا ألا يدركهم الموت في سبيل الإنسانية. . . فلما ماتوا جميعاً ربحت الإنسانية وساماً زين صدر القائد، وصفحة في تاريخ العدوان، وثبت كرسي طاغية من الطغاة. أو استقرت مكانة حزب من الأحزاب، أما الأطفال الأيتام والعجائز الثاكلات، فحسبهم عوضاً من آبائهم، وحسبهن بدلاً من أبنائهن التمتع برؤية موكب القائد الظافر.

أم أنت أيها الإنسان القائد نفسه، قد جرّد صدره من الأوسمة والشارات، وجسمه من الحلة المزدانة بالقصب، ووجهه من الأنف والعينين، وعاد قفصاً من العظام، لا يمتاز من أصغر جندي وأحقر صعلوك، فلم يعد لك تانك العينان اللتان تبرقان، فترتجف لبريقهما أقسى القلوب، وذانك الشاربان القائمان كساريتي مركب، وذلك الصوت القوي، الذي كان يصيح بالجنود: إلى الأمام! أي إلى الموت. . . إلى الثكل. . . إلى اليتم. . . إلى الحرب. (جحيم الحياة الدنيا)!

وأنت أيها الآخر. أأنت ذلك الجندي، مالك تقف جامداً؟ هذا قائدك، ألا تضم شفتيك، وتثبت بصرك، وتزوي ما بين عينيك، وتأخذ هيئة الجد لتؤدي التحية العسكرية، ويحك! أما أنت جندي؟ امرأة أنت، أأنت عشيقة القائد العظيم، رآك منصرفة من المعركة التي طوّح فيها بالمئات من شباب أمته في سبيل العدوان على بقعة ليست له أو إعطائها إلى غير أصحابها، ومنحها للبعض الطارئين من الشعوب الذليلة المسكينة، فماتوا كلهم ولم يقدروا على شيء، لأن للحق قوة كقوة النار والحديد، أأنت التي اخترقت سهام لحظها هذا القلب الذي طالما هزئ بالقنابل والمدمرات، فجاء يصب جبروته على قدميك، وأصبح هذا الذي يصرف عشرات الألوف من الكماة المستلئمين تصرفينه أنت وتجرينه من زمامه، حتى صار يفكر فيك وهو في ساحة الحرب، يزلزل الأرض تحت أقدام أهلها، ويتأمل صورتك والعدو على أبواب معسكره لا يخاف عليه أن تحيله الأعداء، ما يخاف عليك أن تمص لماك غير شفتيه، أو يضم جسمك غير ذراعيه. . .

اقترب يا سعادة القائد، اقترب منها، فضمها واشرب لماها. إنها هي التي تحب!

أم أنتما رجلان؟ أعدوان أنتما أم صديقان؟ أكان بينكما مسافة على الأرض ومسافة في الزمان، أم أنتما رفيقان متلازمان؟ هل التقيتما في معمل، أو عملتما في منجم، أو اشتغلتما في ديوان، أو اصطحبتما إلى الحرب، أو تجاورتما في السوق؟

أم كنتما مضطجعين في قصريكما المتقابلين، قد مللتما من التسلية، وشبعتما من الحب، فأنتما تدفعان العمر دفعاً، لا تتنازلان أن تنظرا من النافذة إلى هؤلاء البؤساء الذين يشتغلون دائماً وأبداً، كأنهم آلات تدور، تحت الشمس في الصيف، وتحت المطر في الشتاء، وفي الحر وفي الزمهرير، وفي الصحة وفي المرض، ليأخذوا بعد ذلك الواحد وتأخذوا أنتم التسعة والتسعين، مكافأة لكم على غصبكم حريتهم وعسفكم إياهم، وزرايتك عليهم، فتنفقوها على الموائد الخضر، وفي كؤوس الخمر، وعلى الشقر والسمر. . . ثم إذا خرجتم تمسحوا بأذيالكم، وقبلوا السياط التي تلهبون ظهورهم!

من أنتما أيها الإنسانان! وما شأنكما؟ أأنتما هنا لتقولا: إن الملك والغنى، والمجد والجاه، والفتنة والجمال، كل أولئك أثواب تلبس وتخلع؟

فأي معنى - إذن - لقصائد ساداتنا الشعراء العاطفين؟

(دمشق)

علي الطنطاوي