مجلة الرسالة/العدد 164/خضع يخضع. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 164/خَضَع يَخْضع. . .

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 08 - 1936


للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وقال صاحب سر (م) باشا فيما حدثني به: جاء ذات يوم قنصل (الدولة الفلانية) من هذه الدول الصغيرة التي لو علم الذباب في بلادها أن في مصر امتيازات أجنبية لطمعت كل ذبابة أن يكون لها في بلادنا اسم الطيارة الحربية. . . ورأيته قد دخل عليّ شامخاً باذخاً متجبراً كأنه قبل أن يجيء إلى هذا الديوان لمقابلة الحاكم المصري - قد تكلم في (التلفون) مع إسرافيل يأمره أن يكون مستعداً للنفخ في الصور. . .

جنى صعلوك من رعايا دولته على مصري فأُخذ كما يؤخذ أمثاله وقضى ساعة أو ساعتين بين أيدي المحققين يسألونه الأسئلة الهينة اللينة التي تحيط بتعريفه من ظاهره ولا يشبهها في سخافة المعنى إلا أن يسألوه عن ثيابه من أي مصنع هي في أوربا. . . فزعم القنصل أنه كان يجب أن يكون حاضراً يشهد التحقيق لأن جناية أجنبي على مصري تقع أجنبية. . . فلها شأن ورعاية وامتياز؛ وادعى أن المحققين ضايقوا المجرم وعاسروه وتجهموه بالكلام؛ ولهذا جاء يحتج.

ورأيته جلس متوقراً كأنما يشعر في نفسه أنه أثقل من مدفع ضخم لأن في نفسه وهم القوة، وخيل إلي أنه يرى موضعه بين السقف والأرض إذ يحمل في رأسه فكرة أنه الأعلى، وكانت له هيئة صريحة في أن الأجنبي المقيم هنا ليس هو كل الأجنبي، بل لا تزال منه بقية تتممها دولته؛ وفي الجملة كان الرجل كلمة واضحة مفسرة تنطق بأن للقانون المصري قانوناً يحكمه في بلاده.

وأنا قد درست القانون الدولي وعرفت ما هي الامتيازات وما أصلها، وهي لا تعدو كرم الأرنب التي زعموا أنها كانت تملك حماراً تركبه وترتفق به فسألتها أرنب أخرى أن تردفها خلفها، فلما اندفع بهما الحمار استوطأته فقالت لصاحبته: يا أختي ما أفره حمارك! ثم سكتت مدة وأعجبها الحمار فقالت يا أختي ما أفره حمارنا. . .

وكنا نحن الشرقيين من الضعف والغفلة بحيث لم نبلغ مبلغ الأرنب في حكمتها وتدبيرها فإنها أسرعت ودفعت صاحبتها وقالت لها: انزلي ويلك قبل أن تقولي: ما أفره حماري.

قال: غير أني في تلك الساعة نسيت القانون الدولي وكنت في إلهام مصريتي وحدها، فظهر لي ظهوراً بيناً أن لا شيء اسمه القانون الحق في هذه الدنيا؛ ولكن هناك اتفاقاً بين كل خضوع وكل تسلط هو قانون هاتين الحالتين بخصوصهما.

وأسرعت إلى الباشا فأنبأته، وأسرع الباشا فغير وجهه وتبسط وتهلل وتهيأ بهذا لاستقبال القادم العزيز كأنه أخص محبيه يتطلع إلى مؤانسته وقد جاء يزوره في داره. ثم دخل القنصل ولم أسمع مما دار بينهما إلا الكلمة الأولى وهي قول الباشا: لنبدأ يا سيدي من الآخر. . .

وكانت في الباشا موهبة عجيبة في اختلاب الأجانب خاصة، يديرهم بلباقة كالخاتم في إصبعه حتى قال لي أحدهم: إن لهذا الباشا حاسة زائدة لو سميت حاسة الإرضاء لكان هذا اسمها الطبيعي، وإنه يعمل بها كما يعمل المفكر بتفكيره. فهو يبتكر الأساليب الغريبة التي يصعد ويهبط بها ميزان الحرارة النفسية، وأن جليسه يكاد يشعر من مهارته في التمثيل أن في جو المكان ستاراً يرفع وستاراً يسدل بين الفصول.

فما لبث القنصل أن خرج بغير الوجه الذي دخل به، ولكنه عبس في وجهي أنا وتكرَّه لي كأنه أصغر شأني فازدرتني عينه فوثبت إلى رأسه فكرة الامتيازات. وهذه القوة الظالمة لو أنها كانت قوة قاهرة نافذة وأعين بها طفيلي ليقتحم دور الناس آمنا مطمئناً - لاستحى هذا الطفيلي أن يأكل بها إذ تجمع عليه التطفل والمقت معاً؛ ولو قيل لحسام بتار: إن لك امتيازاً على بعض السيوف ألا تقارعك، وإنك محمي أن تنالك سطوتها إذا قارعتها - لأنف أن يسمى سيفاً بهذا أو بمثل هذا فإن القوة الظالمة التي يعيرونه إياها ليست إلا مهانة لشرف القوة العادلة التي هي فيه.

قال صاحب السر: ووصفت للباشا هيئة القنصل التي انصرف بها وتقطيبه في وجهي وقلت له: إن الذبابة وقعت في صَحْفتي أنا من هذه الوليمة. . . فضحك بملء فيه ثم قال:

ستبطل هذه الامتيازات وليس بيننا وبين نهايتها إلا أن ينتهي الشعب إلى حقيقته القومية، فما تركها في مكانتها إلا نزول الشعب عن مكانته. وتالله لكأن هؤلاء الأجانب يسألوننا بهذه الامتيازات: أين مكانكم في بلادكم. . .؟

أتدري ما قاله هذا القنصل حين تجاذبنا الحديث فيها بعد أن وضعت نفسي منه في موضع المحامي الذي يخذله الدليل فيحاول أن يستنزل كرم القضاة بعرض بؤس المتهم على شفقتهم ليخفف القانون الذي في أيديهم بالقانون الذي في أنفسهم؟

[إنه قال: لا يلومن الشرقيون إلا أنفسهم، فهم علموا الأجانب أن نتف ريش الطير أول أكله. وهذه الامتيازات إن هي إلا معاملة بيننا وبين طبيعة الخضوع في الشعب. نعم إنها مضرة ومعرة، وظلم وقسوة، ولكنها على ذلك طبيعة في الطبيعة؛ فما دام هذا الشعب لين المأخذ فإن هذا يوجد له من يأخذه، وما دامت الكلمة الأولى في معجم لغته السياسية هي مادة (خضع يخضع)، فهذه الكلمة تحمل في معناها الواحد ألف معنى، منها: ظلم يظلم، وركب يركب، وملك يملك، واستبد يستبد، ودجل يدجل، وخدع يخدع؛ فهل يكثر أن يكون منها للأجانب امتاز يمتاز؟

قال صاحب السر: ثم زم الباشا فمه وسكت، ففهمت الكلمات التي انطبق فمه عليها وإن لم يتكلم بها، ثم غلبه الضحك فقال: والله يا بني لو أن برغوثاً طمر من ثوب صعلوك أجنبي فوقع في ثوب صعلوك وطني فتقاتلا فقبض عليهما فأُخذا لما رضي برغوث الأجنبي أن يحاكم إلا في المحاكم المختلطة. . .

ثم سكت الباشا مرة أخرى كأنه يقول كلاماً آخر لا يجوز نشره ثم قال: يا بني إن الأجانب لا يضعون الحمل إلا على من يحمل؛ فإذا نحن توخينا مرادهم أرادوا لأنفسهم لا لنا؛ وإذا وافقنا لهم غرضاً جعلوه كالدينار فيه مائة قرش وأبوا إلا أن نصارفهم عليه بمائة. هم ويحك يمتازون في معاملتنا لا في سطور القوانين والمعاهدات فلنبطل هذه العاملة يبطل هذا الامتياز.

إن الحق يا بني استحقاق لا دعوى؛ وهذا التنازع على الحياة يجعل وسائله الطبيعية الانتزاع والمطالبة والتجرد له والدأب فيه والإصرار عليه. وكل الأقوياء يعلمون أن موضع الاعتدال بين غصب الحق وبين استرداده موضع لا مكان له في الطبيعة؛ والأجنبي يعتمد علينا نحن في جعله أكبر منا وأوفر حرمة. فإذا ألغى الشعب هذه الامتيازات من فكره وروحه وأعصابه وثارت فيه كبرياء الوطنية فاستنكف من الاستخذاء ونفر من الإختضاع وأبى إلا أن يعلن كرامته، وصرف اهتمامه إلى حقوق هذه الكرامة، وأصر ألا يعامل أجنبياً يرى لنفسه امتيازاً على وطني، وقرر ذلك في نفسه ومكنه في روعه وأجمع عليه إجماعه على الدين، إذا جاءت (إذا) هذه بشرطها من الشعب، جاء جواب الشرط من الأجانب بنزولهم عن الامتيازات وانحلت المشكلة. إننا يا بني لا نملك ضغط السياسة ولكنا نملك ما هو أقوى؛ نملك ضغط الحياة.

لهم الامتياز بأنهم أجانب عنا، فليكن لنا الامتياز الآخر بأننا أجانب عنهم في المعاملة، مثلاً يمثل، وما يفل الحديد إلا الحديد.

يقولون النظام الاقتصادي والمال الأجنبي. ولكن أرأيت المال في يد الأجنبي إلا مالاً وتدبيراً وسلطة وسيادة، من أنه في يد الوطني دَينٌ وإسراف ورق وذل؟

لم يظهر لي إلا الساعة أن من حكمة تحريم الربا في شريعتنا الإسلامية وقاية الأمة كلها في ثروتها وضياعها ومستغلاتها، وحماية الشعب وملوكه من الإسراف والتخرق والكرم الكاذب ورد الاستعمار الاقتصادي وشل النفوذ الأجنبي.

أما لو أننا كتبنا من الأول على أبواب (البنك العقاري) وأبواب ذريته: (يمحق الله الرِّبا) فهل كانت تقرأ هذه الكلمات الثلاث على أبواب تلك البنوك الأجنبية إلا هكذا: (محال خالية للإيجار). . . . .؟

(سيدي بشر. إسكندرية)

مصطفى صادق الرافعي