مجلة الرسالة/العدد 163/من مذكراته
مجلة الرسالة/العدد 163/من مذكراته
للأديب أحمد الطاهر
خفت إليّ مع الصباح، وحيتني بتحيته، وعليها من الثياب سواد، فرددت عليها التحية في تلطف ورعاية ورفق، وجلست صامتة واجمة خائرة النفس منهوكة القوى شاردة الفكر. ثم أخذت تجيل النظر في المكان الذي احتوانا، وأخذتُ أختلس النظر إليها فإذا هي تنظر إلى الأرض، ثم ترفع البصر إلى السماء ثم تتجه إلي بنظرة وادعة حزينة، وفي هذه النظرات الثلاث تعبير صادق عما يختلج في نفسها من المعاني: من تفكير عميق فيما نزل بها من بأساء، إلى توسل إلى الله بالصبر والرضا للقضاء، إلى رجاء فيمن تزور ليدفع عنها بعض هذا البلاء.
ثم قالت: (إني أعلم ما كان بينك وبين زوجي رحمه الله من صداقة ووفاء وإخلاص؛ ولقد ذكر لي فيما كان يذكر من شأنه أنك كنت مثابةً له في الرأي، وعوناً في التدبير، ونصيراً في الشدة، أليس كذلك؟).
قلت: (نعم كنا كذلك، وكنت أجد فيه ما تذكرين لي. رحمه الله، وطيب ثراه).
قالت: (ما أفزعني إليك اليوم وفي هذا الصباح الباكر إلا ما يحز في قلبي حزاً، ويعصر فؤادي عصراً، مما أجد من همي وهم الناس: فأما همي فهو الذي تعرفه والذي إن أخفاه لساني أعلنته ثيابي، وأما هم الناس وما أحمل منه، فذلك فيما أرى فيهم من قلة الوفاء، وخراب الذمم، وتحجر الأكباد، وضيعة الأخلاق: فلقد كنت أسمع من والدي ووالدتي - رحمهما الله - أن الناس في العهد الغابر كان الواحد منهم ينطق بالكلمة فإذا هي بينه وبين صاحبه عهد لا ينقض، وميثاق لا يحل، وإلُّ لا ينكث به؛ أما اليوم فما أرى الناس إلا عن ذلك صادفين: يقول الواحد منهم ما يقول، وبعد بما يعد: فلا يقام لقوله وزن، ولا يحسب لوعده حساب، ما لم يسجل قوله ووعده في كتاب، بل لقد ينكرون ما خطت أيديهم في الكتب، ولو شهد عليهم شهود، ولهم في ذلك طرائق وحيل. هذا زوجي - رحمه الله - قد أقرض فلاناً مائة جنيه، ولست أدري إن كان قد كتب بها صكاً أم استوثق زوجي من صدق وفائه بلسانه، وقد ألحت عليّ الحاجة والوفاء لهذه البنت اليتيمة فطالبت الذي عليه الحقُّ بالحقّ: فمطلني، ثم ألححت، فردني، ثم رجوته فصدف عني، ثم توسلت إليه فنهرني، و وجدت منه إلا إنكاراً وجحوداً، وجفاءً وصدوداً. ولما رجعت من عنده بخيبة الرجاء، واليأس من الوفاء، اندفعتُ أهدده وأتوعده برفع الأمر إلى القضاء. فأجابني بقوله: (وهل تحت يدك صك بهذا الدين؟). طار رأسي، وذهبت نفسي شعاعاً، وأحسست كأن الدنيا تضيق بي حتى لا تتسع إلا لعنقي تعصره عصراً، وما وجدت ما أدفع به قحته وإنكاره. لذلك جئت إليك بجملة من أوراق المرحوم لعلك واجد فيها صكاً أو سجلاً بهذا الدين أو ما يغني عن الصك والسجل. أرأيت خراب الذمم؟ أرأيت قلة الوفاء؟ أرأيت نكث العهود؟ أرأيت إلى الناس لا يستوثقون بالسان الحي الذي هو من صنع الله، ويستوثقون بالورقة الخرساء التي هي من صنع الإنسان؟ رحماك اللهم رحماك!!).
قلت: (خلي عنك يا أختاه. فلمثل هذا نزلت حدود الله. أما سمعت قوله تعالى (يأيها الذين آمنوا إذا تَدَايَنْتمْ بدين إلى أجَلٍ مُسَمّى فاكْتُبُوهُ، وليَكْتُبْ بينَكُمْ كاتِبٌ بالعَدْلِ، ولا يَأْبَ كاتِبٌ أَن يَكتُبَ كما عَلَّمهُ الله، فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِل الّذي عليه الحقّ وليَتَّق الله رَبَّه ولا يَبْخَس منه شيئاً.).
قالت: (سبحان الله العظيم! هذا كلام أزلي قديم وكأنما نزل لأهل هذا العهد الحديث، بل لكأنما نزلت هذه الآية لتكون فيصلاً بيني وبين هذا المدين.).
قلت: (وفي هذا وفي مثل هذا تجدين إعجاز القرآن الحكيم).
ودفعت إلي بالأوراق فنشرتها ونظرت فيها ورقة ورقة وهي مطرقة مغرقة في التفكير. وما انتهيت منها إلى ورقة أطلت فيها النظر حتى رفعت رأسها عن يدها ونظرت إلي متلهفة وقالت: (أوجدت الصك؟).
قلت: (لا. ولكني وجدت ورقة لعلها من مذكرات زوجك رحمه الله - وبودي أن أقرأها لك فستجدين في سماعها عزاء وروحاً. وستجدين زوجك فيها يتحدث إلى نفسه بخواطره ولكنه يسوق إليك وإلى ابنتك الحديث).
قالت: (اقرأ). . . . فقرأت:
(ما أسعد الإنسان المطمئن! وما أحلى الطمأنينة في كل شيء، هذه هي السعادة حقاً، وما أشقى الإنسان الحائر المضطرب! وما أمر الحيرة والاضطراب في أي شأن من شؤون الحياة! هذا هو الشقاء بعينه، ولست أدري لم حار الفلاسفة والمفكرون في تعريف السعادة واختلفوا، وما لهم لا يقولون إن السعادة هي الطمأنينة، وما لهم لا يستقرون إلى أن الطمأنينة والسعادة مترادفان بفهم من أحدهما ما يفهم من الآخر؟. أغلب ظني أن الفلاسفة والمفكرين يتسامون في التفكير ويحلقون في أجواء البحث فتدق عن أبصارهم هذه الحقائق البسيطة. السعادة هي الطمأنينة والشقاء هو الفزع.
هاأنذا أخرج من بيتي صباحاً أعدو إلى عملي ثم أروح وقد أديت العمل على خير ما يؤدى الواجب ويحمد لي الناس أداءه ويرضى ضميري عن أدائه. فأطمئن ولا يفزعني عن هذه الطمأنينة شيء من الأشياء فلم لا أكون سعيداً؟ ألقى الناس: منهم الصديق ومنهم العدو، ومنهم من لا تربطني به صلة وثيقة، ومنهم الكبير ومنهم الصغير، فيلقاني كل واحد من أولئك باسماً مصافحاً لا يسألني عن شأني ولا أسأله عن شأنه إلا بمقدار ما تدعو إليه العلاقة التي بيننا فلا يكون سؤالي وسؤاله إلا في رفق ولين ورغبة في العون إن كان بي أو به حاجة إلى العون. وإن لا نتساءل عن شيء فما يكون بيني وبينه إلا التحية وردها. فأنا بين هؤلاء وهؤلاء مطمئن وادع لا يفزعني عن طمأنينتي شيء من الأشياء. فلم لا أكون سعيداً؟
وتمضي الأيام والأسابيع والأشهر وما شاء الله من أقسام الزمن وأنا أغدو وأروح بين الناس وأختلف إلى ما يختلفون إليه من شؤون الحياة وأنا واجد في جسمي هذا النشاط وهذه القوة، لا يعوقني في سبيلي مرض ولا تقعدني علة، فأنا مطمئن إلى صحتي ما دمت صحيحاً، ولا يفزعني عن هذه الطمأنينة شيء من الأشياء، فلم لا أكون سعيداً؟
وأخْلاف الرزق في الحياة تصل إلى من طريقي كدي وجهدي وما ترك الوالدون من موارد الرزق للأبناء تصل إليهم في سعة أو في ضيق وأنا بذلك راض وإلى ذلك مطمئن: لا يفزعني عن طمأنينتي شيء من الأشياء. فلم لا أكون سعيداً؟
وأنا في كل يوم من أيام حياتي أؤدي إلى الله وإلى الناس ما يجب علي من الشكر والبر بقدر ما أستطيع وكيفما يجب: لا يصدني عن ذلك صاد ولا يصدف بي عنه صادف، فأنا مطمئن إلى علاقتي بالله وبالناس لا يفزعني عن الطمأنينة مفزع. فلم لا أكون سعيداً؟
أما إذا لقيت في عملي نصباً وعناء، أو أحسست من نفسي بنفسي عجزاً عن أدائه، أو قصوراً عن وفائه، فهنا يكون الفزع وهنا الخروج عن الطمأنينة، وهنا الشقاء.
وإن رأيتُ الناس يمدون إليّ يد السوء، أو لسان السوء، أو عين السوء، فما أشد ما ألقى من الفزع والجزع، وهنا الشقاء.
وإن رأيت معاول المرض تعمل في جسمي، وتهد من قواي، وتبعث في هذا الجسم رسالات من الألم شديدة أو غير شديدة، فهنا الفزع وهنا الشقاء.
وإن رأيت. . . وإن رأيت. . . مما يحول بيني وبين السكينة ويوقعني في الفزع والاضطراب، فهنا وهناك الشقاء.
والسعادة والطمأنينة غاية ليس وراءها من شيء، ولا يجد السعيد المطمئن في مهاد السعادة ما يبعثه على التفكير في أسبابها، ومن أين أتت إليه، وأي السبل اتخذت إليه، لأنها اطمئنان واستقرار ورضا، وسبيل لا عوج فيه ولا التواء.
أما الشقاء - أعاذنا الله منه - فلا يكاد ينزل بالمرء حتى يفسد عليه نفسه، ويلقي بالحيرة في ضميره، فلا تهدأ النفس عن الاضطراب بين علله وسبل الخروج من مضائقه. ولا يهدأ العقل عن التفكير في هذه العلل وهذه السبل، ولا يهدأ الضمير عن أن يتخذ لنفسه أشكالاً وأوضاعاً يسميها الناس وخزاً وتأنيباً وندماً وقلقاً وتبرماً وحسرة؛ وما إلى ذلك من الأسماء تختلف باختلاف أنواع الفزع وأسباب الشقاء. وهنا يكون الشقي بين شقي الرحى: شقائه الذي نزل به واضطراب نفسه وعقله وضميره في مبعث الشقاء وسبل الخروج منه. وكثير من الناس يزيد في شقاء نفسه بنفسه حين يخطئ السبيل التي تؤدي إلى الخلاص من الشقاء، أو حين يضل عن هذا الثقب الصغير الذي نفذ إليه منه البلاء، أو حين يلتمس الراحة من العناء فيما لا يزكو بالعاقل التماس الراحة فيه.
وما من سبيل لأن تعدد للناس حصراً أسباب الشقاء. ولا سبل الخلاص من الشقاء، ولكنني وجدت سبلاً ثلاثاً، كلما أفزعت عن طمأنينة السعادة إلى مضطرب الشقاء لجأت إليها فوجدت فيها عزاء وشفاء وهناء.
أخلو إلى نفسي فأصل بينها وبين الله بالتفكير في خلقها، وفي الحدود التي وضعها الله بين العبد وربه، وبين العبد والعبد. وفي تحديد حياتها بأجل تنتهي عنده، وأقيس ضعفها بقوة خالقها، وحقَّها في الحياة بحق من أوجدها في الحياة، وأتبين ما رسم الله لعباده من مناهج وطرائق تؤدي إلى السعادة العاجلة في الدنيا، أو الآجلة في الأخرى، وما فرض على العبد أن يأخذ به نفسه إذا اشتد به الضيق، أو سد في وجهه الطريق، ثم أرجع إلى كتاب الله أقرأ فيه وأتبصر في معانيه، فأجد فيه للنفس شفاءها، وللروح غذاءها، وأجد قوة على احتمال الشقاء، وسبلاً للخلاص من البلاء، ويهون في نفسي كل ما هالها، ويصغر في عيني كل ما تعاظمهما، فما ألبث حتى تستشعر نفسي شيئاً من الصبر والرضا، ويشع في أعطافها وحواشيها نور من الأمل والرجاء، ثم تطمئن إلى ما تجد، ثم تخلو من الهم، وإذا أنا هادئ وسعيد.
أرجع إلى بيتي فتلقاني ابنتي الصغيرة متهللة مستبشرة، فأحملها بين يديّ وأقبلها وتمضي تحدثني بما أفهم ولا أفهم من لغوها، ثم تسعى بيني وبين أمها، ويطول لغوها وسعيها، ثم تنظر إلى كل منا وعلى وجهها الصغير آيات البشر بادية، وتحاول أن تشركنا في هذا المرح الذي تشعر به، وتود لو تفيض علينا منه. فيعز علي أن أعذب هذه الطفلة البريئة بعبوسي، ويكبر عليّ أن أكدر صفوها بوجومي، وأن أحمل إليها وإلى أمها همَّاً لا قبل لهما به ولا يد لهما فيه، ولا حيلة لهما في صرفه عني. فأتناسى ذلك الهم الذي كان مبعث شقائي ثم أنساه، وأمزق عن وجهي غشاوة العبوس التي كانت تغشاه، ثم أمحوها محواً، وإذا علي الوجه ابتسامة تكون قلقة حائرة أولاً، ثم تتصل بالنفس فتستقر وتصدر عن إحساس أخيراً، حتى إذا انصرف عن النفس بعض همها الذي ملكها خلت إليّ هذه النفس تحدثني ببعض ما يجب على الرجل نحو أبنائه وأهله. وتبسط لي كيف يجزى الطفل على بنوته وطهارته وضعف حيلته، وكيف تجزى الزوجة على أنوثتها الضعيفة. وأمومتها السامية الشريفة، ورعايتها لزوجها ووفائها له. فأذكر إذ ذاك العطف والحنان، والرعاية، والوفاء، وعرفان الجميل، وحسن التقدير، ويذهب هذا كله بما بقي في نفسي من همّ. وإذا أنا بعد هذا وبهذا مطمئن وسعيد.
وثالث هذه السبل هو هذا القلم الذي أكتب به: أصل بينه وبين نفسي فإذا ما فيها من الهم والأسى ينساب إلى قناته في سهولة ورفق واطراد، وإذا هو ينثر ما في النفس على الورق ألفاظاً وأسطراً وصحائف. وما أزال أكتب حتى يقف القلم، فأنظر إلى نفسي فإذا القلم قد استنزف كل ما فيها من الهم لم يترك بقية ولا ذُمَامَة. فأقرأ ما كتبت وأقيسه بما كان في نفسي، فإذا هو هو لا يزيد عنه بمقدار ولا ينقص عنه بمقدار. وإذن لقد أفرغت نفسي من الهم واطمأننت وإنني لسعيد.
ولعمري إن هذه السبل الثلاث لهي خير ما اهتديت إليه من سبل التخفيف من همي. وأنا فيما يحزبني من الأمر أتخذ سمتي إليها مجتمعة أو متفرقة، فأجد فيها راحة وشفاء واطمئناناً وسعادة. ولقد اتخذت سمتي الليلة إلى هذه السبيل الأخيرة (سبيل القلم) فكتبت ما كتبت وأحس أن ليس في نفسي أكثر مما كتبت.
وإذن لقد فرغت نفسي من همها واطمأنت وإنني لسعيد أهـ).
وما انتهيت من القراءة حتى نَظَرَت إليّ باسمة راضية، وتبددت عن وجهها سحابة الحزن والأسى وقالت: (أي والله، لهذا خير عندي من الصك ألف مرة. أكان رحمه الله يجد العزاء في كتاب الله، وفينا، وفي قلمه؟ قل لي بربك بِمَ أجزيه عن فضله وبره؟ وماذا أفعل بهذه الورقة وهي فيما أرى سجل حياته وعهده الكريم بين الله وأهله ونفسه.
قلت: (أكرميها).
قالت: (وكيف؟).
قلت: (تحفظينها عندك ذخرا، وأنشرها لك في (الرسالة) ذكرى).
اليوزباشي أحمد الطاهر