مجلة الرسالة/العدد 163/للتاريخ السياسي
مجلة الرسالة/العدد 163/للتاريخ السياسي
المعنى السياسي لانتخابات مجلس النواب الفرنسي عام 1936
للدكتور يوسف هيكل
مجالس النواب في البلاد البرلمانية الديمقراطية هي التي ترسم سياسة البلاد، فإن أحسن المجلس العمل كافأه الشعب على ذلك بإعادة الأكثرية التي تسند الحكومة إلى المجلس الجديد؛ وإن أساءه انفضت الأمة من حوله وأرسلت إلى مجلس النواب، حين الانتخابات عناصر جديدة لاتباع سياسة جديدة. ويسهل على الشعب معاضدة الأكثرية الحاكمة، أو الحكم عليها، في البلاد ذات الحزبين أو الثلاثة، كما هي الحال في بريطانيا؛ ويصعب عليه إلقاء التبعة على حزب، في البلاد ذات الأحزاب العديدة والتي لا تستطيع تشكيل حكومة إلا بعد اتفاق عدد منها على الاشتراك في الحكم: كما هي الحال في فرنسا. وعلى كل فإن الشعب يستطيع التمييز بين الأحزاب، وإن كثر عددها، فيقوى أحدها ويضعف الآخر.
والانتخابات الفرنسية الأخيرة التي جرت في 26 أبريل و3 مايو من هذا العام، ترى كيف أن المنتَخِب الفرنسي غير فكرته السياسية، فقوى أحزاب اليسار: الشيوعي والاشتراكي وأضعف أحزاب الوسط، بما فيهم الحزب الراديكالي وأحزاب اليمين. ومما لا شك فيه أن لعلمه هذا معنىً سياسياً. فما هي الأسباب التي دعته إلى تغيير فكرته؟ هذا ما نحاول إبانته في هذا المقال. غير أنه يحسن بادئ الأمر أن نعرض بإيجاز موقف مجلس النواب السابق تجاه الحكومة، لنرى كيف كان ذلك عاملاً كبيراً في تغيير الناخب الفرنسي رأيه في الأحزاب. وأخيراً نتساءل فيما إذا كان في إمكان مسيو بلوم تأسيس وزارة قوية ثابتة، أم ستجابهه الصعوبات التي جابهت زميله مسيو هريو؟
- 1 -
جدير بالذكر أن الشعب الفرنسي لم يرسل إلى مجلس نوابه يوم 8 مارس سنة 1932 هيئة في إمكانها تأسيس حكومة ثابتة ومتجانسة. وكل ما هنالك أن حكمه كان سلبيا. لقد أقصى عن الحكم الأكثرية السابقة، غير أنه لم يستعض عنها بأكثرية متجانسة. لقد أظهر عدم رضاه عن سياسة (تارديه ولافال) غير أنه لم يمكن مسيو هريو من الحكم.
ليس بخاف أن الأحزاب في فرنسا عديدة، حتى أن عددها بلغ العشرين في مجلس النواب الأخير؛ غير أنه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع: فكان حوالي 180 نائباً من النوع المعتدل، و240 من النوع الراديكالي، و180 من النوع الاشتراكي. وبرغم أن الحزب الراديكالي كان متفقاً مع الحزب الاشتراكي حين الانتخابات وكونا (الجبهة الشعبية) ليفوزا على أحزاب اليمين، غير أنهما لم يكونا متفقين على إنشاء حكومة مشتركة بينهما، لأن مبادئهما الاقتصادية مختلفة. ولذا لم يكن في مجلس النواب الأخير أكثرية متجانسة تستطيع تأسيس حكومة قوية وثابتة.
وكان الحزب الراديكالي، وهو أكبر حزب في المجلس، (مفتاح الحكومة) فإن استطاع نيل تأييد الاشتراكيين له فيقال في اللغة البرلمانية، إن الحكومة (حكومة ائتلافية) وإن اشترك في الحكم مع المعتدلين، فيقال إن الحكومة (حكومة الاتحاد القومي).
ولقد رأى مجلس النواب الأخير هذين النوعين من الحكومات: فبعد أن فازت (الجبهة الشعبية) في الانتخابات شكلت (حكومة ائتلافية) كان فيها معظم الوزراء من الراديكاليين؛ لأن حزب مسيو بلوم لم يشترك في الحكم، ولكنه أيد الحكومة. وكان في يد الزعيم الاشتراكي مصير هذا النوع من الحكومة، فإن نزع ثقته منها سقطت فوراً. وقد استعمل مسيو بلوم هذه السلطة مراراً؛ فأدى ذلك إلى أزمات وزارية حادة تلا بعضها بعضاً بفترات قصيرة. وسقوط وزارات بونكور، دالاديه، وسارو السريع عام 1933 سبب (إفلاس) (الائتلاف).
وبعد (الفضيحة الستافسكية) وحوادث 6 فبراير، اضطر الحزب الراديكالي إلى ترك رئاسة الوزارة والاشتراك مع المعتدلين في الحكم. فتأسست وزارة مسيو دومرك، وتلتها وزارتا مسيو فلاندان ومسيو لافال. ودُعيت هذه الوزارات (وزارات الاتحاد القومي). على أن هذا الاتحاد لم يكن عاماً إذ لم يشترك فيه طرفا مجلس النواب أي الشيوعيين والاشتراكيين من جهة، والمحافظين من جهة ثانية. ولذا يمكن القول بأن هذه الوزارات ما هي إلا وزارات (ائتلاف أحزاب الوسط).
وفي المدة الأخيرة من حياة مجلس النواب الأخير، تخلى الحزب الراديكالي عن وزارة مسيو لافال، وعاد إلى نوع الحكم السابق أي إلى إقامة حكومة ائتلافية بالاتفاق مع الاشتراكيين؛ وعلى رأسها مسيو سارو.
وكل من الحكومات التي رآها المجلس الأخير لم تكن متجانسة، ولم تكن لها قوة حيوية كافية تستطيع بها مجابهة الصعوبات التي وقعت فيها فرنسا طيلة السنين الأربع الأخيرة. لأن الاشتراكيين لم يشتركوا عملياً في حكومات (الائتلاف)، ولم يأخذوا على عاتقهم أية مسؤولية؛ ولهذا كانت الحكومة (مشلولة) إذ وجب عليها مراضاة الحزب الاشتراكي كيما تحتفظ بثقته؛ وذلك لم يمكن الراديكاليين من تطبيق منهاجهم، والسير إلى الأمام غير ناظرين إلى مراضاة الخواطر. . . ولأنه لا يمكن لأي حكومة (اتحاد قومي) أن تضع منهاجاً فعالاً يرضى عنه جميع الأحزاب الذين يعاضدون الحكومة. فالسياسة الخارجية التي يريد تطبيقها أحزاب اليمين لا يرضى عنها الحزب الراديكالي، وسياسة الحزب الراديكالي لا يقبلها أحزاب اليمين. وفي الواقع فإن هذا النوع من الحكومة ما وجد إلا لظروف خاصة، ومتى ذهبت هذه الظروف تصدع الاتحاد، واتفق الراديكاليون مع الاشتراكيين، ودارت المعركة بين أحزاب اليسار وأحزاب اليمين. ولا غرابة في ذلك إذ الذي يبعد الراديكاليين عن الاشتراكيين هو اختلاف في السياسة الاقتصادية، أما الذي يبعدهم عن المعتدلين فهو الاختلاف على المبدأ إذ أن الراديكاليون يدينون بالنظام البرلماني، الذي دونه يصبحون لا شيء وهم متعلقون بجمعية الأمم التي هي تطبيق المبادئ الجمهورية في (الدائرة الدولية). وعلى عكس ذلك فإن كثيراً من المعتدلين يتساهلون في وجود الجمهورية دون أن يحبذوها ويدينوا بمبادئها، وهم يحكمون على مبادئ عصبة الأمم ويعتبرونها أكبر عامل على تعكير صفو السلام. . .
- 2 -
فالأزمات الوزارية الحادة التي حدثت خلال السنين الأربع الأخيرة، والأزمة الاقتصادية العظيمة التي جابهتها فرنسا ابتداء من عام 1932، والتضارب في السياسة الخارجية التي تولدت بين سياسة الحكومات الائتلافية وحكومات الاتحاد القومي. . . أدى إلى عدم رضى الشعب الفرنسي عن مجلس النواب السابق فأرسل في 26 أبريل و3 مارس أكثرية جديدة.
ولنلق بادئ الأمر نظرة عامة على انتخابات الدورة الأولى فنرى أن الذين فازوا فوزاً باهراً فيها هما طرفا مجلس النواب أي الشيوعيين والاتحاد الاشتراكي من جهة، والاتحاد الجمهوري الديمقراطي (حزب اليمين) من جهة ثانية.
والعاملان الإيجابيان اللذان أديا إلى هذه النتيجة هما؛ المعاهدة الروسية الفرنسية، وحزب الصليب الناري
غيرت حكومات الاتحاد القومي الثلاث الأخيرة مجرى السياسة الخارجية الفرنسية. فبعد أن كانت فرنسا تعتمد في المحافظة على سلامتها على عصبة الأمم ومبدأ (السلام المشترك): أخذ (المعتدلون) يبنون سلامة بلادهم على التحالف؛ أي سياسة ما قبل الحرب. فتقربوا من إيطاليا وعقدوا معها اتفاق روما عام 1934، وأخذوا يتفاهمون مع الروسيا فوصلوا إلى المعاهدة الروسية الفرنسية عام 1935. فهذه المعاهدات أظهرت للرأي العام الفرنسي أن فرنسا في حاجة إلى الروسيا لتدفع عنها الخطر النازي. . . ثم إن الروسيا، في السنين الأخيرة، غيرت مجرى سياستها الخارجية. فبعد أن كانت ثورية هدامة، أصبحت محافظة!. وذلك لأنها شعرت بحاجتها إلى مساعدة الدول الديمقراطية لترد عنها خطر الحكومة الألمانية التي تضمر لها شراً كبيراً وخطر اليابان. . . فوقفت في جنيف موقف المدافع عن السلام والذائد عن مبدأ (السلام المشترك)؛ وكان ممثلها في جنيف وفي لندن السياسي الوحيد الذي هاجم ألمانيا مهاجمة شديدة وتكلم عن خطر سياستها الخارجية بصراحة. ثم أن الشيوعيين الفرنسيين خففوا من حدة ثورتهم فأخذوا يتكلمون عن القومية ووجوب الدفاع عن الوطن. . . كل هذا أبان للرأي العام الفرنسي أن لا خطر من الشيوعية وأن كل ما قيل عنها مبالغ فيه. . . فكان فوز الشيوعيين فوزاً باهراً لم يتوقعه أحد.
وفي أواخر الثلث الأول من حياة المجلس التشريعي السابق قامت في فرنسا حركة (فاشستية) على رأسها الكولونيل (دي لاروك). فأسس هذا حزباً دعاه (الصليب الناري)، وحركته تماثل حركة (الفاشست) في إيطاليا (والنازي) في ألمانيا. . . وفي الأيام الأخيرة تقوى هذا الحزب، ويدعي الآن أن عدد أعضائه من القادرين على حمل السلاح بلغ ثمانمائة ألف. غير أن هذا الحزب الجديد لم يرشح أعضاء إلى مجلس النواب، بل إنه سند أحد أحزاب اليمين أثناء الانتخابات، فكان فوز (الاتحاد الجمهوري الديمقراطي).
(يتبع)
يوسف هيكل