مجلة الرسالة/العدد 155/ذات الثوب الأرجواني
مجلة الرسالة/العدد 155/ذات الثوب الأرجواني
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
- 2 -
(ملاحظة - الكلام ليس شخصياً وكل ما فيه متخيل ولا حقيقة لذات الثوب الأرجواني)
لم يكن العزم أن أكتب هذا الفصل ولكن (الرسالة) - جزاها الله خيراً - أبت إلا أن تستزيدني فوضعت الرقم (1) تحت عنوان الفصل السابق، فصار لابد أن أكتب الثاني - أو اللاحق - وإلا عدني القراء مقصراً أو مغالطاً أو فاتراً، وأنا أقصر في الأغلب عن غاية أو دونها؛ وقد تغريني طبيعة الحياة أو مطالب الدنيا بالمغالطة، ولكنى والله لست بفاتر - والعياذ بالله! - وأنى لحريص في العادة على هدوء المظهر واتزان الأعصاب، ولكن في جوفي ناراً (أحر نار الجحيم أبردها) كما يقول المتنبي رحمه الله - وكان في عوننا - فقد كان يجيد المبالغة. وما أظن بذات الثوب الأرجواني إلا أنها تحس ناري هذه وتجد لفحها وإن كان بيني وبينها بعدان: بعد طريق وبعد منال. وإذا لم يكن هذا هكذا فسلها بالله لماذا تلبسه لي!. . . أليست تلبسه لأنها تعلم أنه حبيب إلي!. . . ومن أدرها وأنا لم أقله بلساني ولم أفض إلى أحد بسر قلبي؟. . . وما أحسب أحداً سيزعم أنها رأت في مشابه من ثيران أسبانيا فهي تخايلني لتهيجني بهذا اللون؟. . . ومما يدل على العمد في لبس هذا الثوب أنها تبدو ضاحكة مشرقة المحيا في كل ما تكتسي خلافه، فإذا ارتدت الأرجواني قطبت وزوت ما بين عينيها وتكلفت التجهم الشديد. وليس في الثوب أو لونه أو تفصيله أو حسن انسجامه على بدنها الرخص ما يدعو إلى الانقباض. وإن في كثرة لبسها له لدليلاً على الرضى عنه، ولو كانت تشعر بشيء من الضيق للبسه لما أكثرت من ارتدائه، ولكنها على عادة جنسها تفعل الشيء تبغي به رضى رجل معين ثم تذهب تغالط وتدعي غير ذلك، ومن هنا هذا العبوس التي لا تحسنه. وإني لأعرف أنها قرأت بعض كتبي فقد رأيت معها (خيوط العنكبوت) - عرفته من غلافه وما عليه من الرسم، ولكنى أظنها لم تقرأ ديواني لأنه قديم جداً ولأنه نفد من زمن طويل، ولو قرأته لو وجدت فيه هذا البيت:
لا يحسن التعبيس أبلجُ واضح ... ضحك الجمال بوجهه وأضاءا
ولكانت خليقة أن تكف بعد ذلك عن عبوس لا تتقنه؛ ولشد ما أتمنى أن أعود إلى النظم ولكن هيهات، فما تحركني الحياة كما كانت تفعل، ولو كان شئ يردني إلى الشعر لردني هذا الثوب. . أأقول الثوب؟. يا للمغالطة. أتراني لو رأيت الثوب منشوراً في الشرفة ولم تكن هي فيه أكنت أحفله أو أباليه؟. كلام فارغ!. ويحسن بي أن أدع الثوب وأن أكف عن ذكره فما أعرف له - بمجرده - قيمة. وإنها لجميلة في الأبيض والأخضر والأزرق والبنفسجي والوردي، وفي الطويل والقصير، وفي الخفيف والكثيف، وفي المباذل والهلاهل. ولكنى أحب أن أجرب سلطاني عليها فأزعم أن الأرجواني هو الثوب الأثير عندي. ثم إن صورة المرأة في اللحظة التي تقع فيها من قلب الرجل هي التي تعلق بذهنه وتظل حاضرة ماثلة لا تبرحه ولا تني تجور على غيرها من الصور ولو كانت أبرع وأفتن. وهذا فيما أعتقد - تعليل ما أراده من استبداد هذا الثوب الأرجواني بنفسي وخواطري، فلتلبس ما شاءت غيره ولتطمئن على حسنها فلن تكون إلا جميلة ساحرة
وأحسب أن اتزاني المألوف قد خدعها أول الأمر، وأن ابتسامتي التي أرسمها على وجهي - بالألوان - هي التي حيرتها فما هكذا يكون المحب الولهان والعاشق المدنف فيما تصف الكتب والروايات التي لاشك أنها قرأتها، وأين مظاهر الصبابة وآيات الوجد ودلائل الخبل الذي يورثه الحب؟ أين الدموع الغزار التي لا تفتأ تفيض بها الجفون القريحة حتى يصبح المرء في بركة من العبرات؟؟ أين السهد الطويل الذي يترك الوجه مصفراً والجسم مطحوناً مهدوداً؟؟ وأين الزفرات الحرى والشهقات العميقة التي تخرج من أخمص القدم؟. . لا يا ستي. . لست من هذا الطراز وما أراك إلا مثلي تحسنين أن تضبطي عواطفك كما يضبط المهندسون فيضان هذا النيل العظيم بالسدود والخزانات الضخمة؛ ثم إن الحب جميل لا شئ فيه يوجب الحزن والكآبة، وهو يملأ النفس حياة لا موتاً، وينضر الروح ولا يذبلها، وهو سبب عمران هذا الكون فكيف تخرب من جرائه نفس إنسان؟ وهو مبعث الوحي ومصدر الإلهام وسبب الإنتاج على العموم، فكيف يجئ بالانقباض والعقم؟. . لا يا ستي. . أقول لك مرة أخرى اضحكي. . اضحكي واتركي هذا القطوب الذي لا يوائم الجمال والصحة
ولم أر قط كمشيتها في المشي. . . فيها دبة القوي الشاعر بقوته أو المعتز بها؛ وقد تبد لي أحياناً كأنها تدب كما يدب الصبي حين يذهب عنك مغيظاً محنقاً. . ولا داعي لغضبها أو حنقها. . . وأين هذا الداعي وهي واقفة وحدها في الشرفة تطل منها على الطريق؟ لا بد أن يكون الداعي شيئاً في رأسها أو في نفسها هو الذي يحملها على هذه اللفتة السريعة العنيفة التي لا مسوغ لها مما حولها، إذ كان لا شئ حولها إلا الهواء وإلا هالة هذا الحسن. . . وليتني أستطيع أن أنفذ إلى موضع التفكير أو الإحساس فأطلع على هذا الباعث الخفي! فليس أفتن ولا أسحر من حركات النفس فيما وراء الوعي. وأكبر الظن أنها هي لا تعرف ماذا يلفتها أحياناً على هذا النحو العنيف وإن كانت تحسب نفسها عارفة مدركة. ولو أنك قلت لها إن لفتتها هذه فيها عنف وسألتها عن علته لأنكرت ولكان الأرجح أن يسوءها منك ذلك
على أنى لا أحب أن يتوهم القارئ أن مشيتها عنيفة أو أن فيها ما يعاب - حاشا لله - وإن لها لخ طرة تجعل أهون حركة لها رقصاً. ومن النساء من تمشى بثدييها كأنما تدفعهما أمامها. ومنهن التي تتخلع وتتعوج وتتقصع - تكلفاً أو طباعاً - كأنما لا يمسكها شئ، أو التي تطول وتقصر في مشيتها والتي، تلوح بذراعيها فتزيدهما طولاً - إلى آخر ذلك إن كان له آخر - ولكن ذات الثوب الأرجواني حين تبرز لي في الشرفة صباحاً - على سبيل التحية - وهى لا تزال في منامتها، تنساب كالماء الرقراق، فليس خطوها خطواً وإنما هو تموج. وإني لأراها ماشية من هذا البعد فأذكر بيتاً لابن الرومي هو قوله في وصف صانع الرقاق:
ما بين رؤبتها في كفه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في لجة الماء يلقى فيه بالحجر
ولا رقاق هناك ولا حجر ولا ماء تنداح فيه الدوائر، ولست أذكر البيت لأن هذا وقت الصباح أي وقت الشعور بالجوع، وإنما أذكره لأني أحس - بعيني وبقلبي معاً - أن حركة المشي تبعث في جسمها اللين اضطراباً خفيفاً كاضطراب الماء حين يصافحه النسيم الوانى؛ ويخيل إلى أن جسمها كله - حين تخطو - تتعاقب على بشرته الرقيقة موجات في إثر موجات تطير العقل وتزدهف اللب. ولا أدري أهذا خيال أم هو الحقيقة، ولكن الذي أدريه أنه بعض ما للمرأة من سحر. فقد ترى رجلا قده أعدل من قد المرأة ولكن مشيته لا يكون فيها هذا التموج، ولا يمكن أن تحدث الحركة في جسمه - أو جلده - مثل هذا الاختلاج الخفيف الذي هو بعض سحر المرأة. واللين من خصائص الأنوثة - والنعومة والرقة والطراوة أيضاً - وليس أقبح ولا أبعث على النفور من المرأة المسترجلة كما ليس أقبح ولا أدعى إلى الزراية من رجل تغلب عليه صفات الأنوثة، وتخطئ فيه مظاهر الرجولة ومعانيها
وفتاتي تنهض مثلي في البكرة المطلولة - أو أنا هكذا أتخيلها - خفيفة غير متثاقلة - فأنها شئ صغير دقيق يخيل إلي أن في وسعي أن أطويها وآكلها بعظامها - وتدفع باب الشرفة فأنتبه على الصوت - وتقف حاسرة الرأس متهدلة الشعر - وهل يغطى مثل هذا الشعر الذهبي؟ - عارية الذراعين، ثم تتهادى إلى الحافة وتطوي ذراعيها عليها وتدير عينها في مجالي الحياة التي طلع عليها يوم جديد. فتبارك الله خالق هذا الوجه الصابح ومرقرق كل هذه الغضارة والنضارة فيه!. وما أكثر ما وقعت على عيني عينها وأنا أحدق فيها من حيث أحسبها لا تراني! ولشد ما أشعر، حين يحدث ذلك، بفتنة هذا اللحظ، وما أصبحت على وجهها مرة إلا أحسست أن من حقي أن أستقبل يومي بصدر منشرح وقلب مستبشر مطمئن، وما رأيتها إلا كان ظهورها إيذاناً لي بالاضطرام والفورة، فيكون حسبي بعد ذلك أن أعالج نفسي حتى أردها إلى السكون وأفئ بها إلى الهدوء؛ وليس هيناً أن ترغم اليد المرتعشة على الثبات، والأعصابَ المضطربةَ على الاتزان، والعين المحملقة الزائغة على الفتور المألوف، والقلب الذي يعلو ويهبط كأنه لعبة (اليويو) على العود إلى انتظام الدق واعتدال الخفق؛ والساقين المتخاذلتين على الصلابة والتماسك، والنار التي تندلع في الأحشاء على الخمود. . . كلا ليس هذا بالهين. . ولكني رضت نفسي على القدرة عليه، فلإرادتي الحكم لا لشعوري وعواطفي؛ وعسير جداً أن يبدو على وجهي شئ مما يضطرب به جناني ويجيش به صدري؛ وإن جوفي ليكون كالبركان الفائر أو البحر الهائج، وتنظر إلى وجهي وتسمع كلامي وتتأمل حركاتي وإشاراتي فلا يخالجك شك في أني أفرغ الناس قلباً وأخلاهم بالاً، ولم لا؟. . . إن ما يدور في نفسي شئ يعنيني وحدي وليس من حق غيري أن يحيط به ويطلع عليه فانه سري؛ ولا من الرجولة أن أعرضه على الناس كأني ألتمس العون أو العطف منهم. وماذا يبقى لي مما يسعني أن أقول إنه (لي وحدي) إذا كنت أبيح الناس ما في صدري وأشركهم في أمري؟. . ولست أستثقل أو أستسخف شيئاً كقول الشاعر - وأظنه أبا فراس -
فيا حسرتا! من لي بخل موافق ... أقول بشجوي مرة ويقول
فان هذا ضعف وحماقة. والقول بالشجو يفضح ولا يجدي؛ وإذا كان في البث ترفيه، فان الانتصار على النفس أجل وأكرم وأكبر متعة أيضاً؛ والبث ثرثرة تليق بالمرأة ولا تليق بالرجل. وماذا ينفعك أن يعرف صاحبك أنك تحب أو تكره، أو أنك غاضب ساخط أو راض مغتبط؟. . . ماذا يستطيع أن يصنع لك؟. لا شئ!. وأجدى من ذلك عليك أن تعالج أنت نفسك وأن تردها على مكروهها - إذا احتاج الأمر - وأن تحتفظ باعتدال المزاج وهدوء التفكير واستقامة النظر ودقة الوزن وحسن التقدير. ومن كان لا يملك نفسه فأحر به ألا يملك غيره. والحب حرب بينك وبين المرأة، فاحرص على أن يبقى زمامك في يدك وإلا ركبت منك جواداً مسرجاً ملجماً تركضه حيث تشاء هي وحدها. وليس أطغى من المرأة إذا صار في يدها زمام الرجل.
إبراهيم عبد القادر المازني