مجلة الرسالة/العدد 155/تراثنا العربي القديم ما يجب لتنظيم إحيائه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 155/تراثنا العربي القديم ما يجب لتنظيم إحيائه

مجلة الرسالة - العدد 155
تراثنا العربي القديم ما يجب لتنظيم إحيائه
ملاحظات: بتاريخ: 22 - 06 - 1936



للأستاذ محمد عبد الله عنان

كان تراث العربية حتى أوائل القرن الماضي لا يزال مغموراً محجوباً في ظلمات المكتبات والمجموعات الخاصة؛ وكانت المطابع قد ظهرت في أوربا منذ أواخر القرن الخامس عشر، وطبعت في رومه بعد ذلك بنحو قرن بعض الكتب والوثائق العربية، منها: مختصر كتاب (نزهة المشتاق) للشريف الإدريسي (سنة 1598)؛ وفي القرن السابع عشر طبعت في مدينة لندن التي ما زالت منذ أربعة قرون مركزاً هاماً لنشر الآثار العربية، عدة مراجع عربية تاريخية، منها: (تاريخ المسلمين) لابن العميد (المكين) (1625)، وكتاب (عجائب المقدور في أخبار تيمور)، لابن عربشاه (سنة 1636)، وكتاب مختصر تاريخ الدول لابن العبري (1663)، وظهرت هذه الكتب بالعربية لأول مرة مقرونة بتراجم لاتينية كانت منذ ظهورها مستقى خصباً لمؤرخي الغرب

ولم يظهر في أوربا حتى أوائل القرن التاسع عشر من الكتب العربية سوى طائفة قليلة من الكتب قد لا تعدو عشرات؛ وإلى أواخر القرن الثامن عشر لم تكن مصر قد عرفت المطبعة العربية؛ وقد عرفتها لأول مرة في سنة 1798، حينما وفد نابليون على رأس حملته الفرنسية، وحمل معه مطبعة عربية كاملة استعلمت بالقاهرة لطبع البيانات والأوامر التي كانت تصدرها القيادة العليا ويصدرها الديوان الفرنسي لأهل مصر؛ وكان في مقدمة الكتب التي أصدرتها هذه المطبعة كتاب عن محاكمة سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر يضم خلاصة التحقيقات والإجراءات بالعربية والتركية والفرنسية، وذلك سنة 1800

ولما بدأ محمد علي في تنفيذ برنامجه الإصلاحي لم تفته هذه الناحية الهامة من تعضيد الحركة الفكرية والثقافية، فأنشأ في سنة 1821 مطبعة بولاق الأميرية، وعني بإعدادها وتجهيزها عناية عظيمة، فكانت أول وأعظم صرح للطباعة العربية في الشرق؛ ولم تقتصر مطبعة بولاق على إخراج الجريدة الرسمية (الوقائع) التي أنشئت بعد ذلك ببضعة أعوام، وإخراج الوثائق والمنشورات الرسمية، بل أعدت منذ إنشائها لإخراج الكتب العربية، فطبعت فيها لأول عهدها عدة من الكتب التي ترجمها بعض أعضاء البعثات العلمية في مختلف العلوم والفنون التي درسوها، فكانت باكورة أعالها في نشر الك العربية

على أن مطبعة بولاق لم تقف عند هذا الحد المتواضع في إخراج الكتب العربية؛ وكانت المطابع العربية الأوربية، ولا سيما في ليدن وباريس، قد نشطت منذ أوائل القرن التاسع عشر لإخراج طائفة كبيرة من الآثار العربية النفيسة على يد جماعة من أعلام المستشرقين، فاتجهت الأنظار في مصر إلى العناية بهذه المهمة؛ ونشطت مطبعة بولاق إلى إحياء التراث الإسلامي بهمة فائقة؛ وعكفت طوال القرن التاسع عشر على نشر الموسوعات والآثار العربية الجليلة، وأسدت في ذلك أعظم الخدمات للآداب العربية والثقافة الإسلامية؛ ونظرة واحدة إلى ثبت الآثار الحافلة التي أصدرتها مطبعة بولاق تدل على فداحة المهمة التي اضطلعت بها، وإلى مدى التوفيق الباهر الذي حققته في إنجازها

وإلى جانب مطبعة بولاق، قامت مطابع أهلية كثيرة، ونشطت أيضاً إلى إخراج الكتب العربية؛ وقد كان ميداناً جديداً يغرى بالكسب، فأقبل الكثيرون على استثماره؛ وأخرجت هذه المطابع الأهلية، إلى جانب بولاق، مئات من الكتب والآثار العربية الضخمة في كل أنواع العلوم والفنون، وأعادت طبع كثير مما نشرته بولاق في طبعات رخيصة يسهل اقتناؤها، وساهمت بذلك مساهمة قيمة في إحياء الآداب العربية ونشرها

وهذا ما نريد أن نعرض إليه في هذا المقال؛ فقد انقطعت مطبعة بولاق منذ أوائل هذا القرن عن نشر الآثار العربية القديمة، وحلت محلها في ذلك دار الكتب المصرية؛ ولكن دار الكتب تقوم في هذا السبيل بمجهود بطئ جداً، أما المطابع ودور النشر الأهلية فما زالت على نشاطها القديم في إخراج الموسوعات والآثار العربية، ومنها كثير لم ينشر من قبل؛ ومن المحقق أنها ما زالت تؤدى بذلك خدمات قيمة لإحياء الآداب العربية

ولكن هذا النشاط إذا لم كان يحمد من بعض الوجوه، فانه يثير اليوم كثيراً من وجوه الاعتراض والمؤاخذة، وإذا كان قد ترك في الماضي حراً طليقاً من كل قيد؛ فإن الظروف تقضى اليوم بضبطه وتنظيمه وتوجيهه بطريقة تحقق الغاية منه

بدأ هذا النشاط في أواخر القرن الماضي، والحركة الأدبية والثقافية في مستهل نهضتها، فكان هذا النشاط في بعث الكتب العربية وإحيائها بالنشر والتداول من عوامل تعضيدها وتغذيتها، ولم يكن من المستحسن يومئذ أن يعرض هذا النشاط لشيء من القيود التي يمكن أن تؤثر في سيره ونمائه، وذلك رغم ما كان يعتوره من اوجه النقص سواء في اختيار الكتب التي يراد نشرها، أو في الصور المزرية التي كانت تنشر بها؛ ورق اصفر رديء، وطباعة حقيرة، وأخطاء علمية ومطبعية لا حصر لها

أما ألان فقد تغيرت الظروف تغيراً واضحاً، وازدهرت الحركة الفكرية ازدهاراً عظيماً، وظفرت بمصر بطائفة كبيرة من المعاهد والمنشآت العلمية الراقية، وغصت بالشباب المتعلم، وأضحى مما لا يلائم ذوق العصر وأحواله، بل مما يضر بسير الحركة الفكرية ذاتها، أن يترك أمر نشر تراثنا العربي القديم فوضى دون ضابط ودون إشراف

فهناك موسوعات وآثار قيمة سبق نشرها في طبعات جيدة وأضحت نادرة لقدم عهدها، وهناك بدار الكتب المصرية مئات الآثار المخطوطة التي لم تنشر من قبل؛ وهذه جميعاً يقوم على نسخها ونشرها جماعة من الناشرين المحترفين العاطلين من كل مؤهلات علمية أو أدبية، والذين لا هم لهم سوى الكسب الوفير، فيخرجونها في نفس الأثواب والصور المزرية التي ألفناها منذ القرن الماضي، ويتقاضون فيها أثماناً فاحشة لا مبرر لها، منتهزين فرصة ندرتها إن كانت مما نشر، أو ظهورها لأول مرة إن كانت مما لم ينشر من قبل

وقد اتسع نطاق هذه الحركة في العهد الأخير اتساعا واضحاً؛ وألفى الناشرون المحترفون فبها سوقاً رابحة؛ فكثر تهجمهم على الآثار النفيسة مخطوطة وغير مخطوطة؛ وأخذوا ينشرونها في استهتار وجرأة، ممسوخة مشوهة، مشحونة بالأخطاء الشائنة لا يتكلفون في إخراجها سوى الطباعة الرديئة؛ ثم يبيعونها بأثمان فاحشة، كأنهم هم الذين ألفوها وأجهدوا أنفسهم في وضعها وكتابتها

ولا يخفي ما لهذا النشر المشوه لآثارنا القديمة من نتائج سيئة، فهو يخلو من كل ضمانة أو غاية علمية أو أدبية، ولا تحدوه سوى روح الكسب المجرد؛ ومن ثم كانت الصور المثيرة المزرية التي تصدر بها أجل آثارنا الأدبية، والتي كثيراً ما تصد الشباب المتعلم عن تناولها؛ وهو من جهة أخرى عامل كبير في إحجام علمائنا وأدبائنا عن المساهمة في هذا المجهود مع رغبة الكثيرين منهم في القيام على نشر بعض الآثار القديمة التي توفروا على دراستها وتحقيقها؛ ذلك لأن جهودهم العلمية الغالية، وحرصهم على نشر هذه الآثار في أثواب مقبولة لائقة، وما ينفقونه في هذا السبيل من الجهد والمال؛ كل ذلك يقعد بهم عن مجاراة هذا النشاط التجاري المحض، العاري عن كل درس وتحقيق

ونحن نعرف ما يتكبده العلماء المستشرقون من الجهود الفادحة في إخراج آثارنا القديمة، والتوفر على دراستها وتحقيقها والتعليق عليها بدقة تثير الإعجاب، وإخراجها دائما في أثواب أنيقة محترمة

ولهذا كله نرى أن الوقت قد حان لتعنى السلطات المختصة بالعمل على مراقبة حركة إحياء الآثار العربية القديمة، وتوجيهها وتنظيمها تنظيما يتفق مع ما لتراثنا القديم من كرامة علمية، ويلائم في نفس الوقت حاجات العصر وذوقه وروحه. ويلوح لنا أن دار الكتب المصرية، وهى وريثة بولاق في الاضطلاع بإحياء الآداب العربية، هي أول سلطة أدبية يمكن أن تضطلع بمثل هذا الإشراف العلمي. ذلك أنها هي مستودع تلك الآثار الجليلة المخطوطة التي ترنو إليها أنظار الناشرين المحترفين من كل صوب، فيقبلون عليها بالنسخ المحرف، والنشر المشوه، لا يتكلفون في ذلك شيئا، ولا يصدهم قيد أو إشراف؛ وقد تكون هذه الآثار مما حصلت دار الكتب من الخارج بالتصوير، وأنفقت في سبيله كثيرا من الجهد والمال

ونحن لا نطلب أن تقوم دار الكتب بمنع النسخ والنشر؛ ولكننا نطلب إليها فقط أن تقوم بالإشراف عليها أشرافا فعلياً، وأن تضع لذلك نظاماً يكفل تحققها من وجود بعض الضمانات العلمية والمالية في الناشرين أنفسهم، فإذا لم تتوفر الضمانات العلمية - وهى غالباً غير متوفرة - اشترط أن يقوم بالإشراف على النشر شخص تتوفر فيه مثل هذه الضمانات. ويجب أن تمتد هذه الرقابة حتى صدور الكتاب، وأن يراعى صدوره في ثوب لائق، وأن يحدد ثمنه بعد صدوره بنسبة معقولة من تكاليفه؛ ويصح أن تتولى دار الكتب الإشراف العلي على الكتاب ذاته لقاء أجر معين، ويصح لها أن ترفض التصريح بالنسخ والنشر إذا لم تتوفر مثل هذه الضمانات؛ ويجب على أي حال أن يشمل هذا الإشراف كل أثر مخطوط ينشر في مصر، سواء استنسخ من دار الكتب ذاتها، أو من أي مكتبة أخرى عامة أو خاصة، في الداخل أو الخارج، لأن الغرض هو الإشراف العلمي على حركة إحياء الآداب العربية في مصر، ويجب أن يكون هذا الإشراف كاملاً شاملاً

ويمكن من جهة أخرى أن تتعاون المعاهد العلمية مع دار الكتب في هذه المهمة، فتشترك الجامعة المصرية والأزهر في تنظيم هذا الإشراف

هذا ولا بأس أن تفرض الحكومة ضريبة معينة على نسخ الكتب المخطوطة التي لم تنشر من قبل، وعلى نشرها إذا كان النشر لغاية تجارية؛ وتقدر هذه الضريبة بحسب حجم الكتاب أو أهميته؛ ويعفى العلماء من أدائها في جميع الأحوال؛ ويرصد دخلها لتوسيع حركة إحياء الآداب العربية التي تقوم بها دار الكتب

إن الحق في نشر آثارنا القديمة ملك للدولة، وهي الأمينة عليها؛ وإذا كان مما يرغب فيه دائما أن يشجع الإقدام على نشر هذه الآثار، فان مما يرغب فيه أيضاً ألا يكون هذا النشر بضاعة مبتذلة يستثمرها الجهلاء لغايات تجارة محضة، وألا يحاط بكل الضمانات المعقولة التي تكفل تحقيقه على الوجه اللائق المرضى

هذه ملاحظات واعتبارات حان الوقت لبحثها، وقد أصبح من واجب السلطات المختصة أن تنشط لحماية تراثنا الأدبي من تلك الفوضى المثيرة، وأن تعمل لصونه من ذلك الابتذال الشائن، وأن تقوم أخيراً على تنظيم نشره، وتوجيهه بطرق موقرة مستنيرة

محمد عبد الله عنان