مجلة الرسالة/العدد 151/من أدبنا المجهول - شاعر يرثي ولده بديوان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 151/من أدبنا المجهول - شاعر يرثي ولده بديوان

مجلة الرسالة - العدد 151
من أدبنا المجهول - شاعر يرثي ولده بديوان
ملاحظات: بتاريخ: 25 - 05 - 1936



اقتراح القريح واجتراح الجريح

لأبي الحسن علي الحصري

بقلم الأديب السيد أحمد صقر

(للأستاذ الزيات عزاء وسلوة)

من أغرب الظواهر في الأدب العربي - إن لم يكن في الغربي - أن يرثي شاعر ولده الصغير بديوان كبير، ثم يظل مجهولاً طيلة ثمانية قرون ونصف قرن، لم يحاول أحد خلالها نشره أو التعريف به

ومازالت خزائن الأدب العربي ملآى بالآثار الرائعة التي خلفها لنا الأجداد تجاذب الأحداث أسباب البقاء، حتى إذا ما صرعها الزمن وقفنا على أطلالها نندبها ونبكيها، ونقول كان لنا وكان. . .

من تلك النفائس المشرفة على الفناء ديوان فذ في بابه، غريب في اسمه وموضوعه، نظمه أبو الحسن الحصري صاحب القصيدة المشهورة: يا ليل الصب متى غده؟ سماه اقتراح القريح واجتراح الجريح وكل قصائده في رثاء ابنه الوحيد عبد الغني؛ رزقه وقد بلغ من الكبر عتياً، ورزئه وقد أتم التاسعة من عمره

وكان موته بالنزيف: فسالت حشاشة نفسه من أنفه، وفي ذلك قوله:

لست أنسى مقامه ومقامي ... وكلانا مثل القتيل خضيبا

أنفه ينثر العقيق وعيني ... تنثر الدمع بالعقيق مشوبا

ليس للحصري غير هذا الديوان على كثرة شعره، ووفرة أدبه، يدلنا على ذلك قوله في مقدمة الكتاب: (والقرآن شعاري، ولذلك لم أجمع أشعاري، سحرت بها العقول فحبذتها، ووراء ظهري نبذتها، تركتها لمن يعيها، فيسرقها أو يدعيها، يرثني بغير نسب، ويملكها بغير نشب، حاشا ما في كتابي هذا)

لم يطبع هذا الكتاب ولم يشتهر أمره بين الأدباء، ولم يجر ذكره على أسلات أقلام المؤرخين، ولعل ذلك راجع إلى ندرة وجوده، وقلة ذيوعه. . .

في دار الكتب المصرية نسخة فريدة من هذا الديوان النفيس مخطوطة بخط معتاد فرغ ناسخها من نسخها في سادس ربيع الأول سنة سبع وستمائة، عدد صفحاتها 262 من القطع الكبير. بها خروم وخروق، وآثار عرق لا تمكن القارئ من متابعة قراءته

قدم الناظم بين يدي ديوانه ثلاث خطب، أولاها مهملة الحروف، قد بدأها بقوله: (الحمد لله ملك الملك ولا أمد، وممسك السماء ولا عمد، سمكها فأطلع مهلها، وعلم آدم الأسماء كلها، ووعد لأعمال الطاعة، وواعد لأهوال الساعة، لا أمر إلا أحكمه، ولا مراد إلا حكمه، لا إله إلا هو إله واحد لا ولد له ولا والد، أحمده لآلاء أولاها، وأدعوه ملك الأملاك ومولاها) الخ وهي تملأ عشر صفحات، وقد عقبها بقوله: (نثرت فأبلغت، ونظمت فتفننت. وهذه الخطبة على بلاغتها، وإبداع صياغتها حليتها من بدر بحري ملقوط، وأخليتها من كل حرف منقوط، وأردت أن أشفعها بأخرى منقوطة الحروف، فوجدتني أخرج فيها عن الرسم المعروف، إذ استفتاح الخطب بحمد الله والثناء عليه، وذلك في المنقوطة لا سبيل إليه؛ غير أني اختصرت فأثبت منها ملحا في لمح، ورب دليل في قليل، ورب عثار في إكثار). ويلي هذا التعقيب الخطبة الثانية وأولها: بثثت بثي الخ وهي تقع في ثلاث صفحات. وبعدها الخطبة الثالثة وهي أهمها من الوجهة التاريخية والأدبية. وهي في 29 صفحة. وقد أحببت أن أنقل لك منها شذرات لتعرف قصة الرجل وعقله وتفكيره وأسلوبه في النثر

قال بعد كلام طويل لا وحدة تجمعه، ولا سبب يربطه: (ولما أنقض ظهري، ما وزرت في سري وجهري، وهدم الموت في ابني، ما كنت من الأمل أبني، سألت الله له الانتجاب، فقال لا بد أن تجاب، وأنجبه طفلاً، وأتاني به كفلاً، فنمى مهذباً في مهده، ومازال ينمى بعهده، حتى أكمل تسعة، ورامت سعيه الكبار فلم تسعه. كان يروق هلالاً، ويشوق زلالاً، فقالوا يافعك نافعك، وقال الله بل هو شافعك. أعطانيه بفضله، وأخذه بعدله، فجرحتني أنياب النوائب، وقرحتني أوصاب المصائب، نثرت شاكياً ما اجترحت إلى فاطري، ونظمت باكياً ما اقترحت على خاطري، وقلت عسى الله أن يرحم الناظم الناثر، فيسلي المحزون ويقيل العاثر، وسميت هذا الكتاب: اقتراح القريح، واجتراح الجريح. وضمنته قصائد على حروف المعجم، وإن كانت من الأحزان كالملجم، ومقطعات تقفو كل قصيدة في قافيتها، على أنها مثيرة الأحزان غير شافيتها، ونظمت من فصول المنثور، مقطعات في الزهد المأثور. على أن خطبي جليل، وخطابي كليل. فتنزهت في حديقتين زهراوين أنيقتين، وبحت بما كان مكتتماً، ونحت مفتتحاً ومختتما، وأنا أستغفر الله من تشحطي في تسخطي، ومن عاري الأشعار الكاسدة الأسعار وصفت فيها المقبوحين بالجمال والمنقوصين بالكمال. . . . وكنت نظمت كل هذه الأشعار إذ قلبي مشتعل، ثم أخرتها خمس سنين إذ لبي مشتغل، وفكرت في صرعة الموت، وفي سرعة الفوت، فبادرت الآن إملاء هذا الكتاب إذ رغبت إلى فيه بعض الكتاب، رجوت به الترحم علي من كل من يقرؤه؛ وعسى الله أن استحققت العذاب يعفو عني ويدرؤه). . . . . . .

(ابني متى أبني مجداً هدمه الدهر يوم مصابك؟ ومتى أخصب في ربع أمحله الدمع غب غيابك؟ تركتني في الإظلام نهاراً، وأجريت دمعي أنهاراً، فأي مرثية فيك أسلو بها، وإن أعجب الناس بأسلوبها، وأي عيشة بعدك ألهو بها، وحسرتك لا يطفأ حر ألهوبها؟ أستغفر الله قد سلوت بعض السلو، بأم العلو، أتتني بعدك على الكبر، فحمدت الله وعددتها من الحسنات الكبر ثم قلت بديهاً:

يهب الله لمن شا ... ء إناثاً وذكورا

فإذا أعطاك بنتاً ... فكن الراضي الشكورا

واسأل الله - لك الخي ... ر رواحاً - وبكورا

وأقم في العسر واليس ... ر وذر عنساً وكورا

فعلى الأفراخ حباً ... تألف الطير الوكورا

وما أتت إلا ورزقها معها، ما أقنط نفس المرء وأطعمها، ساعة أفرح بها فأسلو، وساعة بالحزن فيك وفيها أخلو، وطورا أمر أخلاقاً وطوراً أحلو، إذا ذكرت الموت اشتغل بال أمها بل بالي، وإن نظرت محاسنك فيها اهتاج بلبالي، فترحتي أكثر من فرحتي، وسبيل الدنيا هذي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل

حببت ابنتي وابني فقد عاشت ابنتي ... لهمي ومات ابني ولم يمت الحب

وما ذكر يشفي كأنثى تهمني ... ولكنني راض بما صنع الرب

وبهذا البيت تنتهي الخطبة الثالثة. ويليها شعر الديوان مرتباً على حروف المعجم في 182 صفحة، ويليه مندمجاً فيه مجموعة صغيرة من الشعر في نفس الموضوع التزم فيها لزوم ما لا يلزم، مرتبة على حروف المعجم كل حرف فيه 15 بيتاً. وتقع في 38 صفحة وبانتهائها ينتهي الديوان

الآن وقد قصصت عليك بإيجاز قصة اقتراح القريح المجهولة، أرى لزاماً علي أن أقص عليك قصة ناظمه الحصري المجهول. وموعدنا العدد القادم إن شاء الله.

السيد أحمد صقر