مجلة الرسالة/العدد 151/بعد احتلال أديس أبابا
مجلة الرسالة/العدد 151/بعد احتلال أديس أبابا
فضيحة القرن العشرين!
(قطعة مهداة إلى جلالة الإمبراطور العظيم (نزيل فلسطين))
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . حق صريح يصان في عصور الظلام، وأمة آمنة تسلم في قرون الجهل، أفيعبث بهذا الحق في القرن العشرين، قرن العلم والنور. . . ويُعتدى فيه على هذه الأمة، فتسرق أرضها وحريتها وسعادتها؟
يا لفضيحة القرن العشرين!. . . يا لضيعة المبادئ الإنسانية! يا لخيبة العلماء والأدباء والأحرار!. . يا لإفلاس الحضارة الغربية. . يا للعار على الفكر البشري!
أتبنى المدارس، وتفتح المعاهد، وتشنأ المحاكم، لتبث مبادئ الحق والخير والفضيلة، وتعمل على ذلك دهوراً، فيأتي طاغية من طغاة الغرب فيهدمها كلها بطلقة واحدة من مدافعه، وترجع بالعالم إلى الوراء عشرين قرناً، ولا يجد من يأخذ على يده، وينصف الإنسانية منه؟
أيهزأ طاغية روما بكل المبادئ التي يقدسها البشر، ويدوسها بقدميه وأقدام جنوده، ويستعبد أمة بكاملها لم تستعبد منذ فجر التاريخ؛ ثم يمضي هؤلاء (الممثلون) في طريقهم إلى (مسرح جنيف) ليمثلوا عليه بقية المهزلة. . . هذه المهزلة الدامية التي كان أول ضحاياها عظمة الفكر البشري، وجمال الحضارة الحاضرة، ومبادئ جمعية الأمم؟
ارجعوا يا هؤلاء، ارجعوا إلى بلادكم، قد تمزق الستار وبدت من خلاله الوجوه المصطنعة واللحى المستعارة والسيوف الخشبية؛ ورأى الثقلان أن (جبار جنيف) لم يكن إلا صنماً من أعواد، أقامه الأقوياء ليخدعوا به عباد الأصنام من الأمم الضعيفة، عن حريتها وحقها ومالها
ارجعوا فأظهروا أنيابكم التي سترتموها، وأظافركم التي أخفيتموها. . . ما أنتم أيضاً إلا ذئاب
أما أنت أيها الإمبراطور الحبشي العظيم، أيها الجندي المجاهد الشريف، فتعزّ واصبر وارتقب، فليس مع خصمك إلا الحديد والنار، ولكن العالم كله معك، والقلوب كلها تخفق بحبك، وبغض عدوّك. إن الحب والبغض هما أقوى سلاح في الوجود، وأنهما إذا لم يقوما اليوم للمدفع والطيارة، فلن يقوم لهما غداً طيارة ولا مدفع، وأن خصمك يستطيع اليوم أن يخطب فيصيح ويفخر ويهدّد، ويستطيع أن يجرّد الجيوش، ويسير الأساطيل، ويطلق المدافع؛ ولكنه لا يستطيع أن يصنع المسمار الذي يسمر به الفلك، فيقفه عن الدوران، ولو جمع له كل حديد الأرض. إن الفلك يدور أبداً، فيقوى الضعيف، ويضعف القوي، ويشب الطفل، ويهرم الشاب، ويرتفع من كان في الحضيض، ويهبط من كان في الأوج؛ فاصبر وارتقب
إنك لم تجبن ولم تفرّ، وقد أعذرت إلى أمتك ونفسك وإلى التاريخ، فما ألوت في الجهاد جهداً، ولا ادخرت عنه أيداً، وكأني أنظر إليك الآن وقد في كنت دارة عرشك، وقرارة ملكك، وموطن شعبك؛ وكنت آمناً مطمئناً، تتعهد بلدك بالإصلاح، وأمتك بالتهذيب والتعليم، فما راعك إلا صوت الصريخ تدوي به أروقة القصر، فهببت مذعوراً - وما كنت بالذي يذعر أو يضطرب - واستخبرت الخبر، فعلمت أنه الموت قد حمله المتمدنون إلى بلادك ألواناً، فخففت إلى هؤلاء الممتدين تسألهم ماذا يريدون؟
- قالوا: نريد بلادك فاخرج منها، أو فابق فيها عبداً لنا وخادماً!
- قلت: وأي ثأر لكم عندي، وأي عداوة بيني وبينكم؟ أهي أن جاء قوم منكم منذ حين يريدون قتلنا، فرددناهم عنا؟ أليس لنا أن ندافع عن أنفسنا؟
- قالوا: صه! أنت متوحش. . . . أنت متأخر. . . . وقد جئنا لنعلمك ونعلم شعبك، ونحمل إليهم حضارتنا ومدنيتنا، فإذا أنت لم تسمع وتطع كلمناك بلسان البارود والغاز الخانق والنار والحديد. . . . .
فثار في عروقك الدم العزيز الذي لم يذلّ منذ ألفي سنة، فأهبت بجمعية الأمم، وناديت حماة السلام. فلما لم تجد منهم مجيباً، صرخت في شعبك أن خذوا السلاح وتأهبوا للموت، فإن في الديار لصوصاً متمدنين، من أحفاد كافور وغاريبالدي ودانتي ورفائيل. . . يريدون أن يسرقوا حياتكم وحريتكم وبلادكم!
فهبوا للنضال. . . ولكنهم سقطوا شهداء، أمام وحشية المدنية، وجهالة العلم، وذئبية الإنسان!
لا! إنك لم تنهزم ولم تغلب، ولكن غلبت المبادئ يا أيها الإمبراطور العظيم، وانهزمت الفضيلة، وديس الحق، وأفلست مدنية القرن العشرين!
إنك لم تنهزم، وإن الطليان لم يمتلكوا أرض الحبشة، لأن العصر عصر الأمم لا عصر الملوك، وقد استسلمت أنت مرغماً للقضاء، ولكن استسلامك للقضاء، وتركك أرضك للأعداء، لا يسلم أمتك إلى الفناء. إن هذا الشعب الذي عاش حراً عشرين قرناً، لا يستسيغ الاستعباد في عشرين شهراً، ولا في عشرين سنة، وإنه سيجاهد ويناضل ويقاوم ويقاتل، ما بقي فيه شخص واحد يمشي على أرض الحبشة. ويسمع صراخ الأجداد من أعماق الثرى. . . وأعالي السماء. . . تدعوه إلى إنقاذ رفاتهم من نعل الأجنبي الغاصب أن يطأها ويعبث بها؛ وأن الغالبين قد يملكون اليوم الدساكر والقرى، وينشئون القلاع والحصون، ولكنهم لن يمتلكوا القلوب، ولن ينشئوا فيها الحب، وهاهي ذي طرابلس، بل هذه هي الأندلس:
ألم تسمع أيها الإمبراطور باسم الملك الطريد أبي عبد الله الصغير، ذلك الذي كان ملك الأندلس، وسيد غرناطة، وصاحب الحمراء، سليل الملوك الذين جعلوا الأندلس جنة الدنيا، ومدرسة العالم، ومشرق أنوار الحضارة؟ لقد خدعوه كما خدعوك، فأعطوه العهود والمواثيق، وأقسم عليها ملوكهم وسادتهم، وشهد بها أعاظمهم وأشرافهم، وصدق عليها البابا أمين دينهم وسيدهم على أن يدعوا له قصوره ودوره وأمواله وجواهره، وحكمه وسيادته، وعلى أن يتركوا قومه أحراراً في عبادتهم وبيوتهم ومعاملاتهم وتجارتهم، وأن يكفلوا لهم راحتهم وهناءتهم وأموالهم وأمتعتهم؛ فلما ملكوا أخرجوا الملك من أرضه وبلاده، فرأى لآخر مرة شرف الحمراء، وجنان العريف، وجبل شلير، ثم مضى تتغلغل به السفينة في أمواج البحر، وصورة الأندلس تنأى وتبتعد، حتى توارت وراء الأفق، فخرجت من حيز الواقع لتدخل في حيز الذكرى، ولتكون أمنية في نفس كل مسلم، يوصي بها السلف الخلف، ويأخذ منه العهد على استرجاع (الفردوس الإسلامي المفقود)، وعمدوا إلى مسلمي الأندلس، فأخذوا مساجدهم، وأحرقوا مكاتبهم، وفيها ثمرة العقول البشرية منذ مطلع التاريخ إلى ذلك العهد، ليتلهوا بلهيبها في ليالي انتصارهم، وأنشئوا لهم محاكم التفتيش لتدخلهم في النصرانية قسراً، وتحرقهم أحياء، وتعذبهم عذاباً لا يتخيله إنسان. . .
وهاهم أولاء الأندلسيون بعد أربعمائة وخمسين سنة، وبعد احتمال أهوال لا يحتملها بشر، وبعد أن تنصروا جميعاً، لا يزالون ذاكرين عربيتهم معتزين بها، ولا يزالون يحاولون الرجوع إلى الأم العربية الكبرى؟
أفتلين الحبشة التي لم تزل عزيزة، وتندمج في الطليان في أيام معدودات؟
أجل أيها الإمبراطور! إن الحبشة لم تنهزم، ولكن انهزمت جمعية الأمم، وذبحت مبادئها في الحبشة، كما انهزمت الحضارة ومحيت أعلامها في الأندلس!
إن جمعية الأمم لم تكن أوثق عهداً من البابا، وإن موسوليني لم يكن أرقى من فرديناند، وأن الطليان ليسوا خيراً من الأسبان، وأن القرن الخامس عشر ليس شراً من القرن العشرين. . .
أما أنتم يا كتاب التاريخ فسجلوا:
(لقد كانت حادثة الحبشة فضيحة القرن العشرين!)
(دمشق)
علي الطنطاوي