مجلة الرسالة/العدد 151/الحياة الأدبية في شرق الأردن
مجلة الرسالة/العدد 151/الحياة الأدبية في شرق الأردن
بقلم السيد جريس القسوس
ما كنت أرغب في التعرض لهذا الموضوع، لو لم تنشر (الرسالة) الغراء بحوثاً ممتعة لمختلف الكتاب عن الحياة الأدبية في بلدانهم. لهذا رأيت من واجبي، وأنا بعيد عن شرق الأردن، أن أقدم للقراء الكرام صورة صادقة بقدر الإمكان عن الحياة الأدبية في شرق الأردن. أقول هذا وأنا أشعر بحروجة الموقف ودقته، إذ لا يخلو مثل هذا البحث من بعض الخطأ مهما توخى الباحث العدل والصدق في بحثه
لم تكن بلاد ما وراء الأردن، منذ خمسة عشر عاما، إلا جزءاً من سورية لا ينفصل، فهي لذلك بلاد فتية في تكوينها السياسي وفي نهضتها الأدبية والاجتماعية. أما والمقصود من هذا المقال النهضة الأدبية، فلنقتصر على هذه، تاركين البحث في السياسة والاجتماع لعلمائهما
دبت في شرق الأردن حياة أدبية جديدة، لم يكن لنا عهد بها قبل بزوغ فجر الإمارة. فكان أول عمل قامت به الحكومة فتح المدارس الأميرية، من قروية وابتدائية وثانوية، وتحسين برامج التعليم، وتوحيدها إلى حد ما، في مختلف المدارس الطائفية وغير الطائفية، حتى أصبحت تنهج جميعاً نهجاً واحداً سوياً نحو إيقاظ الروح العربية الكامنة، والتوفيق بينها وبين التيارات الجارفة التي بدأت تطغي على هذه البلاد من الغرب. كانت شرق الأردن بحكم الوضع السياسي والجغرافي، قبل الحرب العظمى، بلداً مجهولاً، ولانزوائه وانقطاعه عن البلدان العربية المجاورة لم يتسن لأهله الاحتكاك بأهل الأقطار الأخرى كل الاحتكاك، فتمتزج بذلك الثقافات، ولو كانت شبه متجانسة، فتتفاعل ويتولد عن ذلك روح ويقظة جديدتان. كانت الحياة الأدبية قبل ذلك راكدة، والنفوس فاترة، والمواهب كامنة؛ فلم تنبعث إلا بتأليف حكومة سمو الأمير المعظم؛ عندئذ دخلت البلاد فئة راقية من أدباء الأقطار المجاورة، وخاصة سورية؛ فكان دخول هذه الفئة البلاد باعثاً كبيراً على إحياء الأدب العربي، وإحداث نهضة فكرية مباركة لا نكون مبالغين إذا سميناها بالرنسانس؛ فكان مثلاً لقصائد الشيخ فؤاد باشا الخطيب شاعر الثورة، والأستاذ محمد الشريقي وغيرهما من الأدباء الذين رافقوا الثورة العربية، وطوّحت بهم الأقدار إلى هذا القطر الجديد، أث يستهان به في إحياء الآمال في نفوس الأحداث، وقد كانت ميتة آنئذ، وفي إيقاظ الروح الأدبية الكامنة، وتوجيهها في السبل القويمة
لقد نشطت الحكومة، بعد استقرار الوضع السياسي في البلاد، إلى إرسال البعثات العلمية سنوياً إلى الجامعة الأمريكية في بيروت وغيرها من المعاهد الراقية في سورية وفلسطين، وتنبه الشعب الأردني إلى فضل العلم والأدب في نهضات الشعوب، فبادروا إلى إرسال أبنائهم على نفقتهم الخاصة إلى بيروت والجامعة السورية في دمشق، وإلى المدارس الثانوية في فلسطين، ولكثرة الطلاب كثر الإقبال على مطالعة الأدب، المصري منه والسوري؛ فكان أثره في إيقاظ الحركة الفكرية، وتجديد الحياة الأدبية غير يسير
كل ذلك كان يحدث، بينا الصحافة المصرية تغذي نفوس الأحداث بأدبها الراقي وعلمها الصحيح. ولا أبالغ إذا قلت إنه كان (للرسالة) أثر ملموس في إحياء النهضة الفكرية، وتشجيع الحياة الأدبية في البلاد. فقد كان إقبال الطلاب خاصة على مطالعتها شديداً. وأنني - أذكر على سبيل - أنه كان يباع منها في حين نحو ثمانين عدداً أو أكثر في بلد صغير كالسلط. (فالرسالة) وغيرها من المجلات والصحف العربية كانت ولا تزال، تسد عوز البلاد وافتقارها إلى صحافة حرة تعمل على تشجيع الإنتاج الأدبي، (وتحيي في النشء أساليب البلاغة العربية)
بيد أنه، وإن لم يقم في شرق الأردن إلى الآن مؤلف بالمعنى الصحيح، أو أديب منتج يستمد مادته وموضوعه من الحياة، إلا أننا نرى طلائع نتائج هذه العوامل المختلفة في تكوين النهضة الأدبية الحديثة في قيام فئة قليلة من حملة الأقلام النثرية كأديب عباسي، والدكتور محمد أبو غنيمة، وبشير الشريقي، وعبد الحليم عباس، والبدوي الملثم وغيرهم؛ والشعرية أمثال مصطفى وهبي التل شاعر النوَر، وصاحب ديوان (عشيات وادي اليابس)، وحسني فريز، والشيخ رشيد زيد، وحنا الشوارب وغيرهم من الأدباء الأحداث
لكن شرق الأردن تمتاز عن الأقطار العربية الأخرى، وخاصة الساحلية، بنوع خاص من الأدب، أعني به الشعر البدوي. وهو، وإن قل، من حيث الكمية والنوع عما قبل، فأنه لا يخلو من عناصر حية تميزه عن غيره من الشعر الراقي المعروف في شرق الأردن وفي كثير من البلدان العربية. والشاعر البدوي شاعران: شاعر رواية، يحفظ، على أميّته كمية وافرة من القصائد المختلفة، قديمة كانت أم حديثة، ويلقيها في شتى المناسبات كمجالس الشيوخ والأفراح المختلفة من مولد وختان وعرس! وشاعر منشئ مبتكر، وعدد الفئة الأخيرة يسير جداً إذا قيس بالفئة الأولى. وأكثر ما يكون الشعراء المنشئون في مضارب البدو على سيف الصحراء. أما أشهر أبواب الشعر البدوي في المدح والحماسة والغزل والعتاب والرثاء. ويطول بنا المقام إذا أردنا أن نتبسط في وصف هذا الشعر، وفي معالجة شتى أبوابه بإسهاب؛ لكننا نقتصر على ذكر فريق من الشعراء البدو المخضرمي - أي الذين نشأوا في أواخر القرن التاسع عشر ولحقوا العشرين - ونخص منهم بالذكر نمر العدوان؛ وقصيدته في رثاء زوجه فصحاء مشهورة، تتناقلها الألسنة في كل مكان. وهو يستهلها بمخاطبة ابنه عقاب قائلاً: -
البارحة يا عقابْ يومَ القمرْ غاب ... بليلة العيد السعيد الجديد
إلى أن يقول، واصفاً نفسه بعد ما ألم بها من حزن لفقد زوجه:
كل ما غشيت أمراحْ أو جئتْ مرقابْ ... لَجوح جوحَ الذيب وعضّ بيدّي
أنهفْ ونوح وَأقطر الدمعْ سكّابْ ... على صويحبيِ اللي راح ما هو من إيدّي
يا قلبي تقولْ سفوتّ حديد شبّاب ... يا مهجتيِ لو أنّه حجرْ كِن صار شيد
من لامني يا عقابْ يبلى بأرقط ثاب ... من جنّة الوهاب ما يستفيد
ومعنى هذه الأبيات (أنني كلما مررت بربع، أو صعدت جبلاً، عويت كالذئب، وقضمت كفي حزناً، ونحت وسكبت الدمع مدراراً على صاحبي المفقود؛ وإن بقلبي ناراً تضطرم اضطراماً يكاد منها ذلك القلب لو كان حجراً، أن يصير كلسا. ألا فليبتل يا عقاب من لامني في ذلك بحية تميته ميتة لا يدخل بعدها الجنة)
ومن هؤلاء الشعراء أيضاً أبو الكباير من قبيلة الشرارات، وهو مشهور بالشعر الحماسي، ووصف الغزوات والمعارك. وقصيدته في مدح عودة أبي تايه وقد تحاربت قبيلته مع أهل الكرك. وفي هذه القصيدة يقول، بعد أن يستهلها بذكر الله وطلب عفوه وغفرانه، شأن غيره من شعراء البدو:
قُمْ يا علي نُشْرفْ على كلّ طايلْ ... شدّيتْ عوصا تقطعْ الدوّ حايلْ
أي انهض يا علي (وهو بطل الطليعة) وأعدّ فرسك، لنقطع الفلاة، ونشرف على مواقع الأعداء.
إلى أن يقول واصفاً مرابع عودة أبي تايه:
تلقى بيوتاً بنوابي نزيله ... تلفى حميل دللاهم عن نفيله
ألبن بالهيوان تسمع صهيله ... عزام لوجوه الماسيير زافات
تلقي شايباً عندهم مستعدِّ ... الحرّ إليّ بالملازم يسدّ
عنه بحوض الخيل يوماً يهد ... عن حرب أبو تايه إليّ لَه الفعل عاداتِ
(أي تلقى منازلهم مضروبة في أعلى الروابي دلالة على شجاعتهم، وعدم خشيتهم العدو؛ وفي مطارح النار تلقى حثالة البن دلالة الجود. وفي تلك الخيم تسمع صوت الهاون؛ إذ يدق فيه البن، فيكون بصوته ذاك داعياً للخير والضيافة؛ تجد شيخاً حراً مضيافاً، وفارساً مغواراً تتجنب الفوارس بطشه، وترتعد له الفرائص عند الحرب، هو عودة أبو تايه)
ومن الشعراء المداحين سالم المرعي وعلي القزيعي وغيرهم، وأنا أعرف من الشعراء الأحياء الذين يجيدون قرض الشعر البدوي في شتى الأحوال ومختلف الظروف: محمد بن هلال، وسعود المجالي في الكرك. وقد يكون غير هؤلاء في مضارب البدو في الشمال وفي الداخل، لكن دراسة هذا النوع من الشعر دراسة عميقة، وتدوين هذه الأشعار قبل أن تعبث بها أيدي البلى يحتاج إلى مشقة كبيرة من تنقل بين مضاربهم وتعرف إلى أماكنهم وأحوالهم، وطرق عيشهم
ولقد فاتني أن أذكر أن الشيخ رشيد زيد الذي مرّ ذكره مع طبقة الشعراء المجيدين في الفصحى، ليحسن نظم الشعر البدوي. وقد أتيح لي أن أسمع له قصائد رائعة، وعالية النفَس في هذا النوع من الشعر، يعارض في بعضها قصائد مشهورة كاليتيمة وغيرها
والخلاصة أن الحياة الأدبية في شرق الأردن ضئيلة ضعيفة إذا ما قورنت بغيرها من الأقطار العربية، على أن سريها في مضامير النشوء والتطور على هذا الشكل المدهش ليدعو إلى التفاؤل الشديد. وأنا لا أشك في أنه سيأتي يوم تصبح فيه شرق الأردن بفضل هذه العوامل المختلفة التي بسطناها، وبفضل غيرها، حية بأدبها، وغنية بأدبائها. ولا بد قبل الختام من الاعتراف بما لقصر رغدان من فضل كبير في تنشيط هذه الحياة الأدبية؛ فقد كان ولا يزال يحدب على الأدب، ويؤازر الأدباء، ويشرق على نفوس الشباب بالنور والحياة
(بيروت - الجامعة الأمريكية)
جريس القسوس