مجلة الرسالة/العدد 136/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 136/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة - العدد 136
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 02 - 1936


29 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

الناحية الإيجابية من مذهب نيتشه

السوبرمان أو الإنسان الأعلى

للأستاذ خليل هنداوي

لا ينبغي للعاقل أن يكون قاسياً على نفسه فحسب، ليكن قاسياً على الآخرين أيضاً لا يحفل بهدوء ولا بسلام؛ هو يدرك أن الإنسانية لا تنشط نحو غاية معينة معلومة؛ ولكنه يرى كل شيء في استحالة وتطور؛ يرى من واجب الحياة نفسها أن تعمل على أن تفوق نفسها، ويدرك أن الإنسان ليس من حقه أن يعلل نفسه بأنه بلغ المرفأ سالماً. ليكن كل سلام عنده ذريعة لحرب جديدة، ولتكن حياته طافحة بالحوادث العظام؛ هو لا يتحرى عن السعادة ولا يجهل أن الفرح والحزن هما توأمان متقارنان. وفي استطاعة الإنسان أن يجوز الحياة بدون فرح كبير يعروه، أو شقاء كبير يغزوه، على أن ينقص من قوة حيويته. أما الذي يريد أن يتذوق الأفراح الكبيرة فمن واجبه أن يعرف الأحزان الكبيرة، إذ كل ارتجاج في ناحية يقابله ارتجاج في ناحية أخرى. (أما خالق القيم المؤمن بالحياة، من يريد الحياة عنيفة قوية ما شاءت القوة، فهو يريد أن تكون الارتجاجات واسعة حول نقطة الموازنة؛ يريد أن يعرف القمم العالية للسعادة والشقاء. يريد أن يعرف الانتصارات المسكرة والهزائم الشنيعة. يجب عليه أن يمشي في وقت واحد إلى النصر والى الاندثار. وزرادشت نفسه قد هلك حين بلغ (قمة) وجوده. والسوبرمان هو - في وقت واحد - الظفر اللامع والاندثار القوي للإنسان.

وبينما ينبغي للعاقل أن يكون قاسياً على نفسه، لا يلتوي إزاء الألم، ينبغي له كذلك أن يكون قاسياً على الآخرين؛ هنالك مصائب وآلام يُعد مخففها فاقداً للإنسانية، وهنالك منحطون ناقصون، جاءوا الحياة اختلاساً، فلا يجوز تأخير فنائهم!.

يقول زرادشت: (في كل مكان ترن أصوات الذين يعظون بالموت، والأرض مفعمة بالذين يجب أن يوعظوا بالموت، أو (بالحياة الأبدية) حتى يقلعوا عن الحياة سراعاً. وللمتشائ والشكوكيين والمنحطين الذين يئنون ويقولون (ما الحياة إلا شقاء)، لهؤلاء يجب أن يقول العاقل (إذن! ضعوا لحيتكم وآلامكم حداً تنتهي تنتهي عنده وآلامكم، ولتكن شريعتكم مبنية على هذه الكلمة (الانتحار واجب، والانهزام من الحياة واجب)، إذ لا ينبغي للأرض أن تغدو داراً آهلة بالمرضى والبائسين، حيث يفني الإنسان الخالص الجوهر سأماً وشفقة. إذا أردنا أن نستنقذ السلالات الآتية من مشاهد الفاقة والشناعة فلنترك الموت ينزل بمن هو ناضج للموت. ولتكن فينا جرأة على ألا نصرف الساقطين عن السقوط؛ لندفعهم ولنقذف بهم قذفاً حتى يهووا سريعاً. ينبغي للعاقل أن يعرف كيف يتحمل مشهد الألم عند الآخرين، وأن يعرف كيف (يؤلم) ويبث الألم دون أن تجد الشفقة إلى قلبه سبيلا.

هذا هو ما تطلبه النفس العظيمة. يقول زرادشت: (أبالغ أنت شيئاً عظيماً إذا لم تشعر بقوتك وإرادتك التي تعاقب بآلام كبيرة. عرفانك أن تتألم، هذا شيء حقير؛ فالنساء الضعيفات والعبيد يصبحون أسياداً في فن الألم. ولكن ثبات جأشك وعدم انحنائك أمام المصائب المؤلمة والصيحات المؤلمة، هذان هما مظهر العظمة وسرها الصريح).

ينبغي للعاقل أن يتصف - في كل فصول حياته - بطهارة الطفل اللاعب، وصفاء الراقص الباسم، وهناء اللاعب المجدود، وفي مثل (الاستحالات الثلاثة للروح) ينبئ زرادشت بأن النفس الإنسانية يجب أن تكون في استحالتها الأولى (بعيراً) يحتمل بصبر أثقل الأعباء على ظهره، حتى يستطيع أن يجمع الشيء الكثير من التجارب، ثم يستحيل (البعير أسداً) يجأر قائلا: (أنا أريد!) ويتوعد بمخالبه الحادة كل من يحاول العبث بحريته. يجب عليه أن ينتصر على تنين الشريعة المكتوب على كل جزء من جسده بأحرف ملتهبة (يجب عليك!) ثم يسرع في نزع أثقالالمثل الأعلى والحقيقة والخير عن ظهره مما كان يظن حمله خيراً له، وأخيراً، لكي يستطيع أن يدخل في دور (الإنتاج والإبداع للقيم الجديدة) بعد تهديم القيم القديمة، يجب عليه أن يستحيل طفلا يلهو ويلعب؛ (إن الطفل هو صفاء ونسيان، هوأبتداء، هو لعبة، هو دولاب يدور بنفسه حول نفسه). وهكذا يجب على النفس التي تتوق إلى الصعود فوق قمم الحكمة أن تتعلم أن تلعب، وأن تفرح وتمرح طاهرة صافية، يجب أن تكون خفيفة غير واعية تنعتق من التشاؤم والكآبة، ومن كل ما يجعل حياتها سحابة دكناء.

تقول الشريعة القديمة: (ويل لمن يضحك)! وهذا القول عند زرادشت منكر قبيح. أما العاقل فيجب عليه أن يضحك الضحكة الإلهية؛ يجب أن يدنو من محجته وغايته بخطوات خفيفة راقصة طائرة، لا بليدة نادمة؛ إنه يتعزى بالضحك عن نقصه؛ إنه بالرقص والطيران يجوز مستنقعات الكآبة كالرياح العاصفة. يجب على الإنسان أن يتعلم الرقص بنفسه والضحك بنفسه وأن يرتفع وأن يسمو فوق نفسه، وأن تفوق نفسُه نفسَه على أجنحة الضحك والرقص.

يقول زرادشت: (إن إكليل الضحك، هذا الإكليل من الورد، ضفرته أنا على رأسي، وأنا قدست ضحكتي المرحة. إن إكليل الضحك، هذا الإكليل من الورد، أُلقى به إليكم يا رفاقي! أنا أقدس الضحك أيها الرجال السامون، فتعلموا أن تضحكوا).

- 3 -

(إن من كان مثلي مدفوعاً بشوق غريب للتأمل في مذهب التشاؤم إلى أقصى حد، قد يكون - من حيث لا يريد بذاته - فاتحاً عينه على المثل الأعلى للرجل الحي الطروب المبتهج بالحياة الذي لم يتعلم أن يتحمل الماضي والحاضر فحسب، بل يعمل على إحيائهما معاً، مهما كان الماضي ومهما ذهب المستقبل.) ولعل هذا التشاؤم المبطن عمقه بالتفاؤل هو الذي حدا بنيتشه إلى أن يطلب الحياة لنفسه، ولهذه الرواية الإنسانية الشاملة الكاملة، وللوجود الذي يقوم بتمثيل هذه الرواية.

في شهر أغسطس من عام 1881 هبت في رأس نيتشه فكرة القول بالرجعة الخالدة التي أصبحت أساس فلسفة السوبرمان، وما لبثت هذه الفكرة أن ملكت عليه مشاعره كلها. وقد تتلخص هذه الفكرة في هذه الكلمة: إن شحنة القوى التي تهيمن على العالم تتراءى لنا ثابتة سرمدية؛ لا نقدر على أن نفترض لها نقصاً لأنها لو كانت كذلك لوجب زوالها في هذا الدهر الطويل، ولا نقدر على أن نفترض لها نمواً - كالنمو العضوي الذي نعرفه - إذ لو كانت كذلك لافتقر نموها إلى غذاء؛ وما هو هذا الغذاء أو هذا الوقود؟ وعلى هذا لم يبق لدينا إلا الاعتقاد برسوخ هذه القوى وثباتها.

(يتبع) خليل هنداوي