مجلة الرسالة/العدد 136/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 136/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 02 - 1936



مأساة من أسخيلوس

أجامْمنون

للأستاذ دريني خشبة

(ولد أسخيلوس سنة 525 ق. م وعاش سبعاً وستين سنة، وحارب في موقعة ماراثون، وكتب تسعين درامة لم يبق منها غير سبع. وكان يكتب درامات ثلاثية أي تتركب الواحدة منها من ثلاث درامات - أو قل فصول - تستقل كل منها بنفسها، وتكون مع الأخريين وحدة رائعة. وكانت مآسي أسخيلوس غرة في حين عصر بركلس، أزهى عصور الأدب في التاريخ القديم؛ ودرامة اليوم (أجاممنون) هي الحلقة الأولى - أو الفصل الأول - من إحدى ثلاثيات إسخيلوس (الأورستية) نسبة إلى جل المأساتين الأخريين (أورست) بن أجاممنون وضحية الأمومة الأثيمة، ويعدها نقاد الأدب الكلاسكي أروع طرف الأدب اليوناني.

(وإسخيلوس هو أول من سار بتقاليد المسرح القديمة، بل ربما كان واضع أول لبنة في المسرح القديم. وقد كانت الدرامة - أو المأساة - قبله غير معروفة، وكانت المقالة هي المتداولة، وكان القصاصون يقومون بتأدية الأدوار جميعاً. فلما كان أسخيلوس حتم أن يخصص لكل دور ممثل بعينه، والمنشدون أو (الخورس) لهم مكانة رفيعة في درامتي اسخيلوس وسوفوكليس، وأناشيدهم هي شرح الأحداث التي تمهد للدرامة أو تتصل بها.)

- 1 -

نحن في الـ (بلوبيديه)، ذلك القصر العتيق الشاهق، الذي تكتنفه الأسرار، وتهوم في أبهائه وردهاته الألغاز. . .

ومن الـ (بيلوبيديه) تصدر الأوامر، فتصدع بها مملكة آرجوس. . . وتُجيّش الجيوش، وتتحرك الأساطيل. . . وتسيل الدماء أنهاراً!

ومن هذا القصر، يحكم الملكان الشقيقان أجاممنون، ومنالايوس. . . أما أولهما فقد تزوج من الفتاة الكاسرة، ذات الصولة، كليتمنسترا، بطلة المأساة التي نحن بصددها الآن. . .

وأما ثانيهما، فقد تزوج من الفتاة اللينة الغضة؛ المترعة بالمفاتن، هيلين! التي فرت مع عشيقها المجرم باريس. . إلى. . طروادة؟. . والتي شبت بسببها تلك الحروب الطويلة المروعة فذهبت بالنخبة الناضرة من شباب هيلاس وإليوم. . .

والفتاتان شقيقتان، وقد تبناهما تنداريوس العظيم، وزوجهما من هذين الملكين الشقيين، ليزيدا في شقائهما، وليكونا حرباً عليهما وعلى شعبهما البائس لا تنتهي! وليكونا كذلك، ليلاً على هذا القصر العتيق الشاهق - الـ (بيلوربيديه) مظلماً. . . لا تنجاب غواشيه. . . ولا تنقشع دياجيره!!

- 2 -

وفرت هيلين الآبقة، مع باريس الآثم،. . . فهاجت هيلاس، وهبت ريح الحرب، وتدفقت الجيوش إلى أوليس حيث الأساطيلِ في انتظارها، لتمخر بها البحر اللجي إلى مدينة بريام. . .

وودع أجاممنون زوجته. . . وذرفا، وهما يتعانقان، دموعاً حارة سخينة! وأنطلق مع شقيقة الملك البائس المفضوح في عرضه، منالايوس، إلى أوليس. . . ليركبا مع بقية الجند. . . وليبحرا إلى إليوم. . .

بيد أن البحر المضطرب كان ينذر بتحطيم الأسطول إذا هم أن يقلع.

والعاصفة التي أطلق بوسيدون عنانها كانت تثير في اليم موجاً كالجبال. . . وكانت تراوح الشاطئ المرتجف وتغاديه، فتهيل التراب وتسفيه، وتحط صخره من علٍ وتغرق به ما تهاوى عليه من أسطول هيلاس. . .

وانتظروا طويلاً حتى تسكن العاصفة، ويهدأ البحر المصطخب. . . ولكن. . . بلا جدوى!

ثم قيل لهم إن الآلهة عطشى، وأرباب الأولمب ظماء، وإنها لا يرويها إلا دم عزيز غال يسفح، ومهجة شابة غيداء تطل، وإن الآلهة لا ترضى بإحدى أبنتي أجاممنون بديلا!!

لا ترضى الآلهة أن يسفك دم إلا دم إفجنيا العذراء، أو أختها الكاعب إفياناسا، فإذا لم ترو الآلهة فلن تهدأ العاصفة، ولن يسكن العباب، ولن يفتأ البحر يضطرب، ولن يقلع هذا الأسطول اللجب.

وتردد أجاممون! وأضطرم قلبه بحنان الأبوة! ولكن القادة تكبكبوا حوله يلحفون عليه أن يصغي إلى وحي السماء، ويستجيب لأمر الآلهة. . . فقبل. . . وبكى. . .

- 3 -

وجئ بالعذراء البريئة إفجنيا، ليحتفل بخِطبتها إلى أخيل فيما ادعى الوالد المحزون في رسالته إلى زوجه. . .

ولكن الزوجة تكتشف أن لا خطبة هناك. . . بل هناك قتلة شنيعة تنتظر ابنتها. . . لا لشيء. . . إلا أن تروى الآلهة. . . كما أرجف المرجفون!

وتصبح أضواء الحياة كلها ظلمات في عيني الأم. . . وتحاول إنقاذ الفتاة. . . ولكن. . . عبثاً!. . . لقد تقدمت إفجنيا إلى الكاهن الجلاد بقدم ثابتة، وجأش رابط، ونفس مطمئنة. . . وأعلنت أنها تهب نفسها للوطن. . .! ودمها للآلهة. . . وإنها تستودع الأولمب أباها. . . وأمها!. . .

وأهوى الجلاد. . . الكاهن. . . بسكينه. . . فهريق الدم العزيز الغالي!!

- 4 -

وعادت الأم المضعضعة إلى القصر الشاهق العتيق. . . إلى الـ (بيلوبيديه). . . تجتر هذه المصيبة الدامية، وتغص بتلك الداهية الحمراء!

وتحزن أياماً. . .

ويشمل السواد كل شيء. . . حتى أضواء الشمس، وأفواف الزهر، وآراد القمر!!

كل شيء أسود حالك. . . لا سيما. . . قلب الملكة. . .!

لقد انفردت في هذا القصر العتيق، فهي صاحبة الأمر والنهي فيه، وكل شيء يصدر عن إذنها ويقضى بأمرها. . . والمملكة بأسرها بيديها. . . ومع ذاك. . . ومع كل ذاك. . . فليس في الدنيا العريضة ما ينسيها افجنيا! أو يبعد عن عينيها ذلك المنظر الرائع الرهيب. . . منظر السكين اللامعة تهوى على عنق الفتاة. . .!

إنها أمامها أنى ذهبت وأيّان وجهت. . .

هاهي ذي تمرح في هذه الغيضة من حدائق القصر. . . وتلعب في تلك الردهة من الطابق العلوي. . . وتغرق في هذه اللجة من ديباج السرير. . . وتداعب الظباء في الحظيرة. . .

وتضفر أعواد الزنبق للتماثيل. . . وتنثر الورود والرياحين تحت أقدام الدُّمى. . . ثم. . . . . .

ثم هاهي مسجَّاة فوق المذبح يتفجر من غلاصمها الدم!!

- 5 -

وسكنت العاصفة، وهدأ البحر الجياش، وأقلع الأسطول بمن عليه. . . وحوصرت طروادة. . . وقتل الأبطال الصناديد من الفريقين. . .

وكرت أعوام عشرة. . .

- 6 -

(كيف يقتل ابنتي هذا الملك الذي قُد قلبه من صخر؟ كيف سوَّلت له نفسه أن يأذن لجلاديه بذبحها؟ أين حنان الوالد؟ قربان للسماء؟ أي سماء هذه التي تشره لدماء العذارى؟ لا ظفر أجاممنون بأعدائه! ولا حمله البحر إلى آرجوس كرةٌ أخرى! وروى ثرى طروادة من دمه، كما رويت آلهته من دم ابنتي!!).

ووقر في قلب كليتمنسترا أن تثأر لابنتها. . . ولكن. . . ممن؟ من أجاممنون. . . من أبيها أجاممنون. . .! إذن. . . فلتدبر غيلته في هذه السنين العشر، ولتحشد حولها أعداء هذا القصر العتيق الباذخ. . . ولْنُعَشَّش الأحقاد القديمة، والترات التي تتقلب في أحشاء الماضي. . . ولتجتمع عصابة الشرور فتدبر وتأتمر. . .

- 7 -

ترك أتربوس مُلْك أرجوليس العتيد لولديه، أجاممنون وأخيه، وترك لهما كذلك إرثاً عتيداً من الدم لم يسمع الناس بمثله. . . لن يسمعوا بمثله. . . لأنه دم أعز الأبناء. . . وشِواء لعين أيما شِواء. . .

ذلك أنه كان للملك أتريوس أخ يناوئه من أجل عرش أرجوليس ومايتاخمها من الاقطاعات. . . وكان هذا الأخ (ثيذتيس) يحاول أن يجعل الملك في أبنائه. . . من دون أبناء أخيه. . . ولكن أتريوس وقف على التدبير السيئ الذي يرسم خطط أخوه في الظلام؛ فما كان من أتريوس إلا أن دبر هو تدبيراً دموياً هائلاً. . . قضى به على أخيه وعلى أبناء أخيه. . .

إلا واحداً! تودد إلى أخيه أياماً، وعاتبه في هذه الجفوة التي لا يكون مثلها بين أخوين، فأعتبه. . . ثم دعاه إلى وليمة فاخرة يقيمها له في الـ (بيلوبيديه). . . فقبل ثيذتيس!

وفي اليوم المحدد. . . وبعد تدبير أحكمت حلقاته. . . أقبل ثيذتيس ليؤا كل أخاه، وليتصافح القلبان اللذان ينطوي كل منهما لصاحبه على الحب. . . واصرم الغل والحقد. . .

وحان موعد الغداء. . .

فنهضا إلى خوان عامر مجلل بما لذ وطاب من لحم يملأ قتاره الخياشيم الجائعة، ويسيل لعاب الأفواه المتلمظة. . .

وجلس ثيذتيس المنهوم فأكل حتى امتلأ. . . وما كاد ينتهي حتى كشف له الغطاء عن تلك الغيلة القاسية، التي يتنزه عنها أضرى الوحوش!!

لقد أكل ثيذتيس حتى امتلأ من الشواء الفاخر الذي أعد له من لحم أبنائه. . . وأكبادهم وقلوبهم. . . وهاهي الأصابع والأيدي والرؤوس والأقدام في سفط كبير على مقربة من الوالد البائس. . . شهيد على ذلك!!

وجن جنون الأب المسكين!

ولكنه عوجل هو الآخر بقاصمة الظهر. . . فذهبت روحه تتردى في ظلمات هيدز!

فيا للوحشية. . . وويل للمتوحشين!!!

- 8 -

وكان إبجستوس يتقلب على وجهه في البلاد.

فلما علم بالمأساة التي ذهبت بأخوته، وبأبيه. . . شرد في الأدغال، ونفر في التيه الذي لا أول له ولا آخر من غاب هيلاس وأنس إلى الوحشية، وسمر إلى الذئاب، وصحب اللصوص وقطاع الطرق. . . وتلبَّث حتى اسند ساعده، واشتد عوده. . . وعاد مستخفياً يدبر أمر هذا الثأر الثقيل، ويرسم الخطط لهذا الدم المطول. . .

ولكن. . . لقد مات أتريوس. . . وحكم من بعده ابناه أجاممنون ومنالايوس. . . وهما اليوم تحت أسوار طروادة يصطرعان مع الطرواديين.

فهل تزر وازرة وزر أخرى؟ أجل!! (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خانوا عليهم. . . فليتقوا الله!!).

إبجستوس!! هذه فرصتك فلا تُفلتها!!

- 9 -

وأتصل إبجستوس بالقصر، وتأكدت بينه وبين كليتمنسترا أواصر الود أولا؛ ثم انقلب الود واتحاد المقصد وبغض أجاممنون وأسرة الـ (أترديه) فصارت غراماً أثيماً وعشقاً فاسقاً ولذاذةً مجرمة.

وعمى قلب الأم. . . وحجبت الغواية بصيرتها؛ فنفت ولديها: أورست الغلام الحَدَث، وإفياناسَّا الفتاة الناعسة بعيداً عنها، لتزداد إغراقا في اللذة، ولينام ضميرها الميت فلا يوقظه هذا النسل البريء من صلب أجاممنون!!.

- 10 -

العاصفة تهب بشدة، والحارس المتعب يلفحه البرد القارس فوق سطح القصر الملكي العتيق، الـ (بيلوبيديه)، والليل الرهيب ينظر إلى القصر الفائض بالأسرار بعين قلقة من تلك النجوم المحملقة؛ وسنوات عشر قد تصرمت، وهذا الحارس المسكين في مكانه من هذا الميدان المعلق بين الأرض والسماء. . . أجل عشر سنين طوال كأنها عشر أحقاب كاملة، وهو يروح ويجئ كأنه آلة الزمن، أو قوس من دائرة الفلك. . وهو يشكو، ويحاول أن، يتسلى بأغنية أو صفير، ولكن الأسرار الهائلة التي يعج بها القصر من تحته تفزعه، فيعزف عن الغناء وعن الصفير. . . ويصل شكواه، ويرسل بثه.

وهن هناك فوق سطح القصر الملكي منذ قيام تلك الحملة المشئومة إلى طروادة. . . وهو إلى هذه الليلة يرقب النيران التي إذا تأججت في رؤوس الجبال كانت بشرى سقوط طروادة!.

وأومض البرق في الظلماء فجأة!. . . واندلعت النيران المنشودة! واستطير الحارس من الفرح؛ وفرك عينيه ليستيقن أنه ليس في حلم. . . ولكن النار تندلع وتندلع. . . إذن انتصرت جيوش هيلاس. . . وسقطت مدينة بريام!.

وأي بأس في أن ينطلق هذا الحارس المسكين فيزف البشرى إلى الملكة. . . لا بأس! ولكنه ما يكاد يخطو خطوة واحدة، مفتراً في ظلمات الليل البهيم عن ابتسامة الجذل، حتى يذكر الأسرار الهائلة التي نسجتها عناكب القدر في القصر. . . فتقلب ابتسامته الجدلة إلى عبوسة قاتمة. . . فيقف مكانه ويصمت!!.

- 11 -

ويدخل المنشدون حديقة القصر، ويهزجون بنشيد طويل حلو ثم تقبل الملكة فيتقدم إليها رئيس الخورس محبياً ويتساءل: (هل من نبأ عن الحملة يثلج الصدر المكروب ويهج النفس المحروبة؟) وتبتسم الملكة ابتسامة خبيثة صفراء، ثم تزف بشرى انتصار الهيلانيين.

- (وكيف؟ لا نصدق! ولكن تكلمي. . . تكلمي أيتها الملكة!).

- (إليوم في قبضة رجالنا! هل أراك فهمت؟)

- (إنها مفاجأة تملأ أعيننا دموعاً. . .)

- (وإنها دموع تؤكد إخلاصكم وطهارة قلوبكم)

- (ولكن هل من برهان أيتها الملكة؟)

- (ما لم يكن بعض الآلهة يخدعني!)

- (ألا تكونين قد استسلمت لغفوة لذيذة فشهدت رؤيا طارئة؟)

- (إن أوهام المنام لم تخدعني قط!)

- (إذن منذ كم سقطت طروادة؟)

- (في نفس هذه الليلة التي كاد صبحها يتنفس؟)

- (وأي رسول حمل إليك النبأ في مثل هذه السرعة؟)

- (النار الآلهية ألمعت به إلى هنا من ذروة جبل إيدا. . . وهشيم الحلنج المتأجج في شعاف الجبال ورؤوس الآكام. . .).

واستطردت كليتمنسترا فذكرت كيف أشعل الهيلانيون النيران في قُلَل الشاطئ الأسيوي، ثم كيف تنقل الوميض فيالسماوات حتى عكسه أفق أرجوليس. . . وطفقت تحشد الكنايات في حديثها، وتنثر الألغاز في ثناياه. . . صادرةً عن غلها

المقيم وحقدها القديم على أجاممنون! - (يا لطنين النصر في طروادة اليوم؟. . . . . . أحسب ألا يستطيع أحداً، يميز صيحات السادة الظافرين من صيحات العبيد المقهورين بين جدرانها! إنهم سواء منكودو الحظ، سود الجدود، حقيقون بالرثاء! ومن يدري؟ فلعل الآلهة تغضب فتنتقم ممن دنس هياكلها، وسطا على طُرفها وتحفها بجعلها في جملة الغنائم والأسلاب!. . . ولعل أرواح الضحايا (!) والشهداء تهب من مراقدها مغضبةً حانقة فتقف في سبيل الأبطال الظافرين فلا يعودون إلى أوطانهم!. . . ولكن قلما ساد حق. . . دون أن ترتكب ألف مذمة باسمه!. . .)

- 12 -

ويفطن الخورس إلى ما كان يتناثر في حديث الملكة من ألغاز، ويفطنون إلى هذا الفتور وذاك الضيق الذين كانت تزف في ظلامهما بشرى سقوط طروادة. . . فيعزونه إلى أسبابه التي باتت لا تخفى على أحد في المملكة. . . ثم يتشككون في كل ما انطلق به لسانها ويحسبونه هذياناً في هذيان!.

وما يكادون يفرغون من نشيد طويل رائع حتى يحضر البشير فيزف إليهم النبأ الصادق ويبشرهم بأوبة الملك، ثم يصف لهم شطراً مما لقيه الجنود تحت أسوار إليوم: (بل ما لقيه الطرواديون يومئذ من مصائب الحصار وكوارث القتل، ثم هذه النهاية التي أبادت دولتهم وقوضت بنيانهم. . .).

بيد أنه سرعان ما يفطن البشير إلى تلك الكآبة التي تُغشَّى نفوس القوم، فيسألهم، ويجيبه رئيسِ الخورس:

- (لقد كان الصمت. وسيظل. . . ملاذنا أيها البشير!)

- (وكيف؟ أترهبون أحدا في هذا القصر غير مولاكم؟)

- (. . .؟. . .!. . .)

- (أسرار. . . أسرار. . .

- 13 -

وتقبل الملكة كرة ثانية فتلمح تثلج مشاعر المنشدين وتحاول أن تخدعهم عن خافية نفسها فتقول: (هل صدقتم الآن أن إليوم قد سقطت؟! لقد كنتم في مرية من بشراي التي زففت إليكم لأنكم لم تروا أماكم تلك الفتاة المزهوة التي تكاد تجن من الفرح لهذا النصر المفاجئ الذي انتظرناه طويلاً. . . يا لكم أيها الرجال! وأنت أيها البشير! أترى إلى قرباني الجسد ذي الخوار الذي أعددته أُضحِية لما بشرتنا به؟. . . وسترى كيف ينتشر البخور من مجار المد ومخارق العنبر فيؤرج أجواء آرجوس تحية لملك. تعال. . . تعال أيها البشير فقص علىَّ كيف سقطت طروادة وكيف رغم أنف ملكها!. . . ولكن. . . لا. . . ليست لي فيك حاجة. . . اذهب. . . فلن أسمع قصة ذلك إلا من رجلي. . . أجاممنون. . . ملك أرجوليس ومعقد آمالها!. . . أي فخار للمرأة أكبر من أن تستقبل فيض النور السماوي يتنزل عليها من العلو. . . حين يعود إليها بعلها وعلى رأسه! كليل من غار النصر؟ وأي فخار للرجل أكبر من أن يعود من حلبة الحرب فيجد زوجه وفية له كما تركها مخلصة كآخر عهده بها!؟ حريصة على أسراره. . . قائمة على بيته. . . ساهرة على أبنائه ككلبه الأمين!! ما تزال تحمل ذكرى عناقه الأخير، وتشدو بآخر قبلاته كأحسن أغاريد الحياة!

(يا للفخر. . . يا للفخر. . .)

وتخرج الملكة. . . ولا ينطلي ما زخرفت من قول على أحد!

- (ها قد سمعت مقالة الملكة، فلتكن أذنك ترجمانك الأمين!. . . ولكن. . . حدثنا بأربابك عن أمير هذه البلاد المحبوب، جليل المقام منالايوس. . . هل قدم معكم في أمان إلى أرض الوطن!. . .

ويربد وجه البشير، ثم يمهد لحديثه بمقدمة مجلوة، ويذكر كيف ثارت العاصفة فبعثرت الأسطول المنتصر. . . (وفصلت سفائن منالايوس عن سائر الأسطول، فلا يعلم أحد أين رست به إن كانت قد سلمت من غضبة البحر الذي طفق يتدجى فوقنا كأنه الليل. . .

. . . ولم نصدق أننا نجونا من فورة هذا العباب حتى انبلج الصبح، فصلينا للآلهة، وشكرنا للسماء. . . وابتهلنا إلى الأولمب أن يحفظ منالايوس، وأن يرده سالماً إلى أرض الوطن. . .)

ويأخذ الخورس في نشيد بعضه شدو وبعضه شجو. . . وبعضه سخط على هيلين. . . التي فاز بها من فاز بالحرب. . . وتزوج بها من تزوج بالحرب. . . والتي كانت على جميع من اتصل بها حرباً أي حرب!) - 15 -

وبينا المنشدون يتغنون بألحانهم، إذا عربة مطهمة، تجرها صافنات جياد، تدخل فجأة فتكون تلقاء القوم. . .

ويكون في العربة أجاممنون الظافر المنتصر، قاهر طروادة؛ والى جانبه تلك النبية المباركة. . . حبيبة الآلهة. . . الفتاة العذراء. . كاسَّندرا ابنة بريام العظيم ملك إليوم المقتول. . . عاد بها أجاممنون من جملة السَّبْي لتكون له. . .

ويحي الخورس مليكهم بلحن حلو من موسيقى السماء، يبللونه بدموعهم ويصهرونه بحرارة قلوبهم، فيشكر لهم ويثني عليهم، ويقول:

(البقية في العدد القادم)

دريني خشبة