مجلة الرسالة/العدد 127/أندلسيات
مجلة الرسالة/العدد 127/أندلسيات
3 - قصة الفتح بن خاقان
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
أخلاق الفتح
نقول إن ابن بسام كان أعفّ لساناً، وأنزه بياناً. أمّا الفتح ابن خاقان فقد كان مقذعاً هجاء إلى أنه كان مداحاً فصالاً، فمن أرضاه وألهاه، مدحه وفتح لهاه؛ ومن لا يرضخ له من ماله بما يرضيه، هجاه وأقذع وولغَ فيه. وربما دسّ له لدى أولى الأمر وضرّاهم عليه. ومن ذلك ما كان منه مع فيلسوف الأندلس أبي بكر بن الصائغ وطبيبها الأكبر أبي العلاء بن زهر كما سيمر بك قريباً. . . وقد كان مع ذلك سكيراً معربداً إلى هنوات أخرى لقد يندى لها جبين الأدب، وقعدت به عن بلوغ المراتب التي بلغها أمثاله ومن هو دونه. قال الوزير لسان الدين بن الخطيب في حق الفتح: كان آية من آيات البلاغة لا يُشَق غباره، ولا يدرك شأوه، عذب الألفاظ ناصعها، أصيل المعاني وثيقها، لعوباً بأطراف الكلام، معجزاً في باب الحلي والصفات، إلا أنه كان مجازفاً مقدوراً عليه، لا يملّ من المعاقرة والقصف حتى هان قدره، وابتذلت نفسه، وساء ذكره، ولم يدع بلداً من بلاد الأندلس إلا دخله مسترفداً أميره. وأغلا في عليته. . . وقال ابن بشكوال في الصلة: وكان - الفتح - معاصراً للكاتب أبي عبد الله بن أبي الخصال، إلا أن بطالته أخلدت به عن مرتبته. وجاء في النفح أن الفتح قصد يوماً إلى مجلس قضاء أبي الفضل عياض - صاحب الشفاء - مخمّراً، فتنسم بعض حاضري المجلس رائحة الخمر، فأعلم القاضي بذلك، فاستثبتوحدّه حداً تاماً. وبعث إليه بعد أن أقام عليه الحد بثمانية دنانير وعمامة. . . فقال الفتح حينئذ لبعض من أصحابه: عزمت على إسقاط القاضي أبي الفضل من كتابي الموسوم بقلائد العقيان، قال: فقلت له: لا تفعل، وهي نصيحة، فقال: وكيف ذلك؟ فقلت له: قصتك معه من الجائز أن تنسى وأنت تريد أن تتركها مؤرخة، إذ كل من ينظر في كتابك يجدك قد ذكرت فيه من هو مثله ودونه في العلم والصيت، فيسأل عن ذلك فيقال له، فيتوارث العلمَ عن الأكابرِ الأصاغرُ؛ قال: فتبين ذلك وعلم صحته وأقرّ اسمه في (القلائد).
ولقد أزلفنا أنه هجا الفيلسوف ابن الصائغ وأقذع في ترجمته له في القلائد، ثم مدحه وأثنى عليه في المطمح؛ وقد حدثنا الوزير لسان الدين بن الخطيب عن سبب هجائه إياه أولاً، قال: وحدثني بعض الشيوخ أن سبب حقده على ابن باجه أبي بكر آخر فلاسفة الإسلام بجزيرة الأندلس ما كان من إزرائه به في تكذيبه إياه في مجلس إقرائه إذ جعل يكثر ذكر ما وصله به أمراء الأندلس، ووصف حلياً، - وكان يبدو من أنفه فضلة خضراء اللون، فقال له: فمن تلك الجواهر إذن الزُمرّدة التي على شاربك. . . فثلبه في كتابه بما هو معروف. . .
أما مدحه إياه بعد إذ هجاه فقد ذكر لنا العماد أن ذلك كان منه بعد أن أنفذ إليه مالاً استكفّه به واستصلحه. . . وإليك نُتَفاً مما كتبه في القلائد هاجياً، ثم مما كتبه في المطمح مادحاً: قال في القلائد: (هو - أي ابن الصائغ - رَمَد عين الدين، وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفاً وجنوناً، وهجر مفروضاً ومسنوناً، فما يتشرع، ولا يأخذ في غير الأضاليل ولا يشرع، ناهيك من رجل ما تطَهّر من جنابة، ولا أظهر مخيلة إنابة، ولا استنجى من حدث، ولا أشجى فؤاده بِتَوار في جدث ولا أقر ببارئه ومصوره، ولا قر بتباريه في ميدان تهوره، الإساءة إليه أجدى من الإحسان، والبهيمة عنده أهدى من الإنسان، نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم العليم. الخ الخ). وقد أورد له متعمداً أبياتاً ليست من جيد شعره. وأين هذا من تحليته له في المطمح بقوله فيه ما هذا بعضه: (نور فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع، تتوجت بعصره الأعصار، وتأرجت من طيب ذكره الأمصار، وقام وزن المعارف واعتدل، ومال للأفهام فنناً وتهدّل، إذا قدح زند فهمه أورى بشرر للجهل محرق، وإن طما بحر خاطره فهو لكل شيء مغرق، مع نزاهة النفس وصونها، وبعد الفساد من كونها، والتحقيق الذي هو للإيمان شقيق، والجد، الذي يخلق العمر وهو مستجد، وله أدب يود عطارد أن يلتحفه، ومذهب يتمنى المشتري أن يعرفه، ونظم تعشقه اللبات والنحور، وتدعيه مع نفاسة جوهرها البحور، الخ الخ). وأورد له شعراً جيداً. وكل أولئك تراه في ترجمتنا لهذا الفيلسوف الأندلسي العظيم. . . أما ما كان من الفتح من الكيد للفيلسوف الكبير والطبيب النطاسي الأشهر والوزير الخطير أبي العلاء زهر لدى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، فقد جاء في نفح الطيب ما نصه: (وكان بينه - أي بين أبي العلاء زهر - وبين الفتح صاحب القلائد عداوة، ولذلك كتب في شأنه إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ما صورته:
أطال الله بقاء الأمير الأجل سامعاً للنداء، رافعاً للتطاول والاعتداء، لم ينظم الله الملك بلبتك عقداً، وجعل لك حلاً للأمور وعقداً. وأوطأ لك عقبا، وأصار من الناس لعونك منتظراً ومرتقباً، إلا أن تكون للبرية حائطاً، وللعدل فيهم باسطاً، حتى لا يكون منهم من يضام، ولا ينال أحدهم إهتضام، ولتقصر يد كل مُعتدي في الطلام. وهذا ابن زهر الذي أجررته رَسَنا، وأوضحت له إلى الاستطالة سُنَنا، لم يتعدّى من الأضرار إلا حيث اشتهيته، ولا تمادى على غيّه إلا حين لم تنهه أو ألهيته، ولما علم أنك لا تنكر عليه نكراً، ولا تغير له متى ما مكر في عباد الله مكراً، جرى في ميدان الأذية مِلء عنانه، وسرى إلى ما شاء بعدوانه، ولم يراقب الذي خلقه، وأمد في الحظوة عندك طلقه، وأنت بذلك مرتهن عند الله لأنه مكنك لئلا يتمكن الجور، ولتسكن بك الفلات والغور، فكيف أرسلت زمامه حتى جرى من الباطل في كل طريق، وأخفق به كل فريق، وقد علمت أن خالقك الباطش الشديد يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وما يخفى عليه نجواك، ولا يستتر عنه تقلبك ومثواك، وستقف بين يدي عدل حاكم، يأخذ بيد كل مظلوم من ظالم، قد علم كل قضية قضاها، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فبما تحتج معي لديه، إذا وقفت أنا وأنت بين يديه؟ أترى ابن زهر منجيك في هذا المقام، أو يحميك من الانتقام، قد أوضحت لك المحجة، لتقوم عليك الحجة، والله النصير، وهو بكل خلق بصير، لا رب غيره والسلام. . . هذا جانب من خلائق الفتح: تحوّل وتقلُّب، ونقض لما أبرم، وإبرام لما نقض، وهجاء ثم مدح، ومدح ثم هجاء، ومناوأة للفلاسفة، واستعداد للملوك والأمراء عليهم، إلى ما أشرنا إليه آنفاً من خلعه العذار واستهتاره، وإهماله المعاقرة وفسوقه، حتى كان ذلك سبباً - كما يقول المؤرخون - في تخلفه عن لداته وقعوده عن بلوغ علياً الرتب التي بلغوها. ومن هنا كان حبه المال حباً نال من كرامته ونقص من قيمته وصّيره شهرة لدى العلماء والأمراء وسائر العلية والسروات. ومما يؤخذ عليه أيضاً غروره واعتداده بنفسه إلى أقصى حد؛ ولا أدل على ذلك من قوله في خطبة قلائده: (الحمد لله الذي راض لنا البيان حتى انقاد في أعنتنا، وشاد مثواه في أجنتنا، وذلل لنا من الفصاحة ما تصعب فملكناه، وأوضح لنا من مشكلاتها ما تشعب فسلكناه، فصار لنا الكلام عبداً يجيب إذا ناديناه، ومهما يصيب الغرض إذا رميناه).
وبعد فقد كان هذا الأديب الألمعي الموهوب من أولئك الأدباء الذين أدركهم داء الانحطاط، ومثله كثير بين أدباء العرب والعجم والمشرق والمغرب قديماً وحديثاً. . . وهذا الصنف من الأدباء والفنانين جدير بالرحمة والرثاء، لأن عبقريتهم هي سر انحطاطهم، إذ العبقرية في الحق شعبة من الجنون كما شرح ذلك لمبروزو وماكس نوردو وغيرهما. وقد كان انحطاط هذا الأديب سبباً في قتله. . . وفي أنفة مؤرخ كبير وأديب نابغ هو ابن الأبار القضاعي من ترجمته والتعرض لذكره، فقد قال هذا ابن الأبار في معجم أصحاب الصدفي: إنه لم يكن مرضياً وحذفه أولى من إثباته. ولذا لم يذكره في التكملة. أما قتله فقد قال ابن سعيد في المغرب - بعد كلام - ما نصه: (وقد رماه الله تعالى بما رمى به إمام علماء الأندلس أبا بكر ابن باجَّه، فوجد في فندق بحضرة مراكش قد ذبحه عبد أسود خلا معه بما اشتهر عنه وتركه مقتولاً. . . . . . . . .). . . وقال ابن دحية إنه قتل ذبحاً بإشارة على بن يوسف بن تاشفين. . .
(يتبع)
عبد الرحمن البرقوقي