مجلة الرسالة/العدد 123/مذاهب الفلسفة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 123/مذاهب الفلسفة

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 11 - 1935



المذهب الطبيعي

للأستاذ زكي نجيب محمود

هو ضرب من ضروب الفكر ونحو من أنحاء النظر، لا يذهب في بحثه وراء حجب الطبيعة وأستارها، بل يحصر نفسه في نطاق الطبيعة وحدها، يتقصى بالنظر ما شاء من وجوهها، ثم يقنع بهذا فلا يعدوه قيد أنملة. عنده أن الحقيقة التي لا حقيقة بعدها هي هذه الطبيعة التي تراها بعينك وتلمسها بيديك، وهي هذه الأرض وتلك السماء وما بينهما من أحياء وأشياء؛ أما أن تبعثك الطُّلَعة فتحاول أن تنفذ ببصرك إلى ما وراء ذلك، زاعماً أن ما تدركه الحواس عبث باطل، وأن الحقيقة الخالدة هي شيء مستور وراء هذه الحجب الصفيقة، فخداع وجهل في رأي هذا المذهب، إذ يرى أشياعه أن الطبيعة لا تبطن شيئاً وتظهر شيئاً آخر، بل هاهي ذي قد عرضت بضاعتها لمن شاء تحت السمع والبصر، وهي تسير وفقاً لقانون صارم جازم لا يشذ ولا يلين، فهو يسيطر بقوته على الكون بكل ما يحوي بين دفتيه؛ ثم ينهانا أتباع هذا المذهب أن نلقي بالا إلى ما قد يزعمه الزاعمون أن هنالك فوق الطبيعة حقيقة خالدة يدركها الفكر وتقصر عن إدراكها الحواس، فهم لا يصدقون أن يكون ثمت غير ما نرى أو أن يكون في الطبيعة شيء لا يخضع لقانونها خضوع الجماد الصامت، ولا يستثنون من قاعدتهم الإنسان بكل ما فيه من حياة وفكر وخيال لأنه في رأيهم هباءة في يد الطبيعة تطوح بها يمنة أو يسرة كيف شاء لها قانونها الجبار، وإن الإنسان ليخدع نفسه حين يوهمها أنها أرفع من الجماد منزلة وأسمى مقاماً؛ فإن اعترضت على رجال المذهب الطبيعي بأن قانون الطبيعة لا يفسر كل شيء، وأن هنالك آلافاً من الحقائق التي تنتظر الشرح والتعليل أجابوك أن ذلك رهين بالعلم وحده. فلن يفتأ العلم يجد في كشفها ويسعى، ولن تزال هي تبدو في ضوئه واحدة في إثر واحدة.

وينقسم المذهب الطبيعي إلى شعب تتعدد بتعدد إدراك الإنسان لماهية المادة التي تملأ الكون؛ فإن رأيتَ أن قِوام الطبيعة ذرات مادية تتحرك في المكان، وأن كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة لا تعدو أن تكون مجموعة متراكمة من تلك الذرات فذلك هو المذهب المادي؛ وإن اعتبرت المادة نفسها ضرباً من ضروب الطاقة والقوة، فذلك هو الطاقي وأما إذا غضضت البصر عن أصل المادة الأول، ونظرت إلى الحقائق كما هي، مرتبطاً بعضها ببعض ارتباط العلة بالمعلول، فذلك هو ما يسمى بالمذهب الوضعي. . . وكثيراً ما يطلق اسم (المادية) على هذه الشعوب كلها. لأنها مهما اختلفت فهي لم تزد على أن تناولت ظواهر الطبيعة المادية بالشرح والتعليل.

وإن هذا المذهب الطبيعي ليبلغ أقصى قوته حينما يقف موقف الإنكار والرفض بإزاء ما يتعلق به الإنسان من صنوف العقائد وضروب الخيال، فهو لا يتردد في أن يتناول الأديان بكفه الباردة فيسحقها بين أنامله، لأنه لا يرضيه أن ينظر إلى الأشياء والحقائق نظرة مجردة عارية من كل ما ألبسها الإنسان من زخرف العقيدة وطلاء الخيال، فبقذفه واحدة ألقى في اليم كل ما أنتج الفكر البشري من آراء عن عالم الغيب المجهول، ولعله بذلك قد كفى نفسه مؤونة البحث في هذا المطلب الشاق العسير.

وما دام هذا المذهب الفلسفي قد رفض عالم الغيب رفضاً قاطعاً، فهو إذن لا يعترف بالله إلا أن يكون ذلك هو الطبيعة نفسها، أو الإنسانية، أو ما شئت من ظواهر الكون المحسوس؛ وهو كذلك لا يقر الخلود إلا إذا قُصد به آثار الإنسان الخالدة وظهوره في أعقابه وما إلى ذلك من ضروب البقاء؛ أما أن يذهب الظن بالإنسان أنه باق بعد الحياة بقاء روحانياً فوهم خاطئ في رأي هذا المذهب، إذ ما بقاؤه وهذا جسده قد تبدد أشتاتاً فكان منه الشجر والحجر؟ ستقول إنه باق بروحه دون جسده، ولكن ما هو ذلك الروح؟ أهو جزء من الطبيعة أو عنصر شاذ لا يستقيم مع مادتها ولا يخضع لقانونها؟ اللهم أن كان هذا فلا روح، لأنه ليس في الطبيعة إلا الطبيعة نفسها!

وهذه الطبيعة تسير وفق سنن معروفة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، فلكل ظاهرة من ظواهرها أسباب لا بد أن تنتج مسبباتها، دون أن تحول بينها وبين ذلك معجزة أو خارقة، ودون أن يكون في مقدور الإنسان أن يغير من مجراها بما يزعم لنفسه من إرادة حرة، فليس الإنسان حراً فيما يفعل وفيما يترك، إنما هو آلة مجبرة على السير في طريق رسمتها له الطبيعة كما رسمتها للأنهار والأشجار والأحجار والكواكب وسائر ألوان الجماد. ولكن الإنسان المغرور كثيرا ما يلقي في روع نفسه أنه حر التصرف برغم أنف الطبيعة، فيقول مثلاً: إني لم أقرر بعد ماذا أصنع في كذا وكذا، ونسي المسكين أن مجموعة الذرات التي تتكون منها مادته قد قررت له ما يصنع - جهل بذلك أو علم - ولم تكن فيما قررت بمعزل عن سائر الكون، بل اشتركت في تقريره مع العالم كله، مع الطبيعة بأسرها. فخفف من غلوائك أيها الإنسان، واعلم أنك لا بد فاعل ما أريد لك أن تفعله، إذ ليس لك عن فعله منصرف ولا محيص.

ومن منا لا يلوي شفتيه من الغضب، كلا، بل من ذا الذي لا يبتسم ساخراً من هذا المذهب الذي يريد أن ينتزع من الإنسان أعز جوانبه وأنفس عناصره؟ إنه يريد أن يسلبه إرادته فإذا هو صخرة تتحدر من قمة الحياة إلى واديها مدفوعة بقوة القانون! وليس له أن يقف حيث شاء ولا أن يسلك من السبل ما يشاء! كيف أكون مكتوف الإرادة وهأنذا أحب هذا فأعمله وأكره ذلك فأتركه؟ فبماذا تسمي هذا إن لم يكن إرادة حرة مطلقة التصرف؟ ولكن هاك ما يجيبنا به (سبنسر): نعم إنك تعمل ما تحب وتترك ما لا تحب، ولكن هل علمت أنك لا تحب إلا ما رغبت فيه الطبيعة؟ أن مولاتك الطبيعة قد حببتك فيما تراه هي صالحاً لسيرها، ونفَّرتك مما رأته مضراً بها معطلاً لها عن المضي في سبيلها. فما أحببت أن تعمله إن هو إلا ما أرادتك الطبيعة على حبه: (إنك تستطيع أن تعمل كما تحب، ولكنك لا تستطيع أن تحب كما تحب). فاختيارك هذا الشيء ورفضك ذاك، هو الوسيلة التي تتخذها الطبيعة لتنفيذها إرادتها في سلوك الإنسان.

وأين المفر من الطبيعة وهي لا تني تذكرنا بما لها علينا من نفوذ وسلطان؟ فطر بالخيال إلى حيث شئت، فأنت مضطر آخر الأمر أن تنزل في معمعان الحياة لكي تضعك بين مطرقة الحقائق الواقعة وسندانها، تنظمك في سلكها، ولا تخلي بينك وبين خيالك! تحدَّ الطبيعة ما استطعت إلى تحديها من سبيل، وسترى نفسك بعد حين قصير مرغماً على التسليم والخضوع، وإلا فماذا أنت صانع أمام غائلة الجوع سوى أن تقتات بما يقيم الأود؛ ثم ماذا أنت صانع إذا أضناك الإجهاد وأعياك العمل إلا أن تسلم بضرورة النعاس؟ ثم ماذا تجدي إرادتك مهما بلغت قوتها أمام الموت إذا دنا الأجل؟ فالطعام والشراب والنوم والموت إعتراف متواصل بخضوع الإنسان لضرورات الطبيعية مهما يكن طاغياً جباراً.

وكأني بالعلوم جميعها تناصر هذا المذهب وتؤيده، وتكاد تضطر العقل اضطرارا إلى اليقين بأن ما يقع في الطبيعة من أحداث مهما اختلف لونها وتباين شكلها خاضع للعلم وقوانينه التي تضرب بنفوذها على أطراف الكون فلا تدع جمالاً ينفذ إليه شيء من القوة المزعومة فيما وراء الطبيعة. وإن احتججت على العلم بأنه مبالغ في شأن نفسه مسرف في تقدير عمله، وأنه لا يزال قاصراً عن إدراك الحقائق كلها، فكيف يحق له أن ينكر شيئاً قد يكون جزءاً مما لم يدركه بعد؟ نقول إن احتججت على العلم بهذا أجابك في يقين ثابت، وكله أمل ورجاء: هأنذا أسير وأتقدم، ويستحيل ألا يؤدي هذا السير المطرد إلى حل ألغاز الكون كلها، ولا بد لي أن أصل يوماً إلى غاية الطريق، فإن لم يكن ذلك بعد حين قريب فامتداد الزمن كفيل بكل شيء، وإن العلم ليتمسك بتطبيق قانون (العلة الواحدة) الذي صاغه (وليام أوكام)، والذي مؤداه أن ما أمكن تعليله بعلة ما لا يجوز تعليله بعلة أخرى. وبناء على هذا القانون لا ينبغي أن نضيف إلى الظواهر الطبيعية التي أمكن تعليلها بقوانين العلم عللاً أخرى مما وراء الطبيعة، فإن تمكن العلم أن يتتبع حقائق الكون بالتفسير واحدة فواحدة وجب حتماً ألا نتردد في إنكار كل قوة أخرى.

ولكن إذا كان أنصار هذا المذهب يريدون أن يحتكموا إلى العلم في كل شيء، وأن يفسروا به كل ظاهرة من ظاهر الوجود، فماذا هم قائلون في تعليل ظاهرتي الحياة والعقل اللتين تبدوان كأنهما شاذتان نابيتان لا تخضعان لقوانين الطبيعة التي تنتظم الجماد؟ وأين الجماد من الحياة المتوثبة والعقل المفكر؟ إنه إن صح مذهبهم للزم أن تكون الحياة قد تفرعت من الجماد الذي لا حياة فيه، ويستحيل أن يتفرع شيء من أصل لا يحتويه! إنك تستطيع أن تعلل بالعلم كل ما هو آلي رتيب، ولكن كيف بالحياة عامة والعقل بنوع خاص، وبينهما وبين الجماد الآلي من مسافة الخلف ما يكاد يجعلهما ضدين نقيضين؟

إن للكائنات الحية طابعاً يميزها عن الجماد تمييزاً واضحاً، ولعل خير ما يوضح ذلك الطابع المميز هو كلمة (بنفسها). فالكائن الحي يبني نفسه بنفسه، ويصلح عطبه بنفسه، ويدبر أمره بنفسه، ويعمل على حفظ بقائه بنفسه؛ نعم هنالك آلات تطعم نفسها ولكنها لا تنمو بما تطعم، وهنالك آلات تكتب من تلقاء نفسها، وسابحات في الماء تقود نفسها، ولكن هذه جميعاً لا تصلح لنفسها ما يصيبها من عطب، ولا تستطيع أن تلائم بين دخيلة نفسها وبين الظروف الخارجية المحيطة بها كما يفعل الكائن الحي؛ وليس بين الآلات أو صنوف الجماد ما ينشئ في باطنه نواة في مقدورها أن تنمو إلى ما يشبه الأصل الذي تفرعت منه، ثم يكون فيها بدورها قوة إنشاء نواة أخرى تعيد تاريخها وهكذا. . . . وأجدر من هذا كله بالذكر من خصائص الحياة التي تنفرد بها وتتميز عن الجماد هو أن الحياة في كل فرد من الأحياء لا تحصر عملها في حدود هذا الفرد الذي هي حالة فيه، بل يمتد نطاقها حتى يشمل النوع بأسره، أعني أن الحياة في كل فرد لا تكتفي بحفظ بقائها هي، بل تعمل على حفظ النوع كله.

تلك هي خصائص الحياة؛ أما العقل فطابعه الذي يميزه هو علمه بالنفع والضرر، وهما ما نسميهما باللذة والألم؛ فكل الكائنات الشاعرة تعرف ما ينفعها فتقبل عليه وما يضرها فتنفر منه، هذا عما لها من قوة التفكير التي تستطيع بها أن تكون آراء عن الأشياء الخارجية ثم اتخاذ تلك الآراء وسيلة إلى فهم حقائق تلك الأشياء والوصول إلى ما يسيرها من قوانين وما تقصد إليه من أغراض.

(يتبع)

زكي نجيب محمود