مجلة الرسالة/العدد 123/الذكرى الرابعة لشاعر البادية
مجلة الرسالة/العدد 123/الذكرى الرابعة لشاعر البادية
الشيخ محمد عبد المطلب
للأستاذ فايد العمروسي
الذكرى لا تتسع لدراسة أو تحليل، وحسبها أن تكون للقراء خاطرة وفاء، ونفحة تقدير؛ وعبد المطلب أحد شعراء العربية الذين خلفوا لنا تراثا ممتازاً يضاف إلى تراثي المرحومين (شوقي) و (حافظ)؛ غير أن هذا الرجل عاش مغبوناً، ومات مغبوناً، شأنه شأن (حافظ) بعد موته، فلم يفز ديوانهما بما كان ينبغي من عناية وتقدير، اللهم إلا مقالات كتبها كاتب هذه الكلمة في جريدة البلاغ بعد صدور الديوان في الجو الأدبي، وليس هذا بكاف في تقدير الأدباء للشعر، وخاصة لأعلامه وفحوله النابغين. والناظر إلى عبد المطلب لا يعرفه في ديوانه فحسب، لأنه ديوان ذو روح خاص، واتجاه صبغته الصنعة في أكثر مقاصده من فخر وحماسة وشكر ومديح وغزل ونسيب. . الخ وهذه ظواهر ما كان له أن يتخلى عنها وأن حاول، وما كان للفترة التي عاش فيها غير هذه المقاصد الشعرية تمشياً مع ميول الحياة التي ترغم الشاعر أن يتلون بلونها، والتي تكوِّن العناصر الأولى لفكره وخياله!
وقد كان رحمه الله شخصية عربية صميمة، تنبئ مظاهره الخلقية أنه من سكان نجد أو الحجاز، في ضآلة من الجسم، وقليل من القصر المتزن، تنطوي هذه الضآلة على قوة الأسد في عرينه، تبدو بها عيناه الواسعتان البراقتان اللتان تفيضان قوة وثقة واعتزاز؛ وكان ذا نفس أبيّة، وضمير حي، وشعور متقد، وإحساس صادق، يهيج لأتفه أسباب الخلاعة أو اللهو، فينفجر بأشد ما تكون الخلاعة قسوة وإيلاماً؛ وكان رجلاً بأسمى ما تكون الرجولة صفاء ونبلاً، رجلاً جم العطف، وافر الرحمة فياض الحنان. ولقد رأيته - رحمه الله - أكثر من مرة يسكب الدمع من عينيه لأمور لا تهيج عواطف الناس، ولكنها تهيج ذوي النفوس السامية، والإحساس المرهف القوي.
وشخصيته على ما كان فيها من خشونة البداوة كانت تذوب رقة وحناناً، وتفيض عطفاً ووداعة؛ وديوانه حافل بصور من هذه العاطفة التي فتشت في نواحي المجتمع المصري فعالجته بأثمن النصائح وأغلى الحِكم؛ وكم ودَّ تطهير النفوس، وتهذيب الوجدان، وصقل الإدراك؛ وكم ودَّ الرقي بالإنسان إلى درجات العفة والصفاء. وما أشبه الثلاثة بعضهم ببعض: (حافظ والمنفلوطي وعبد المطلب) في هذا المجهود! فترى الأخير يصف أسرة يتيمة بقطع من نفسه، وذوب من فؤاده، في قصيدته العصماء التي استهلها بقوله:
أسألت باكية الدياجي ما لها ... أرقت فأرقت النجوم حيالها
باتت تكفكف بالوقار مدامعها ... غلب الأسى عبراتها فأسالها
وفيها يقول:
ببعض: (حافظ والمنفلوطي وعبد المطلب) في هذا المجهود! فترى الأخير يصف أسرة يتيمة بقطع من نفسه، وذوب من فؤاده، في قصيدته العصماء التي استهلها بقوله:
أسألت باكية الدياجي ما لها ... أرقت فأرقت النجوم حيالها
باتت تكفكف بالوقار مدامعها ... غلب الأسى عبراتها فأسالها
وفيها يقول:
حتى إذا رقد الأسى بجفونها ... وهفا النعاس برأسها فأمالها
خلب الطوى أحشاءها فتفزعت ... حيرى تعاني سهدها وملالها
وله وطنيات حارة، ووصف رائع لمشاهد القومية المصرية، وله علويته المشهورة التي أنشدها على (جمل) متشبهاً بالشعراء في (عكاظ).
والشاعر على ما أعتقد ليس إنتاجاً من قصائد عريضة طويلة، تطن بالرصانة، وترن بجودة السبك والإيجاد، وإنما هو نفس قبل كل شيء، وشعور يصدق فيما يحس أو يشاهد، شعور يمتزج بالمظاهر فيصير جزءاً منها أو تصير هي مزيجاً منه، لا يتخللها التفريق، ولا تحتوي هذه المواهب إلا النفوس الممتازة التي لا تتفتح في دائرة ضيقة محدودة، ولا تحيط في نظرها السطحي من الكائنات. وعبد المطلب كان هذه النفس التي تضيق بما فيها من عوالم تائهة، فتنبعث على الكون طائفة سابحة، تستشعر ما فيه من جمال فتطرب، وتحس ما فيه من آلام فتألم؛ نفس خلقت لغيرها فنال منها كل شيء، وهي لم تنل من شيء أي شيء؛ وروح قسمته العاطفة، ومزقته الرحمة، فراح يوزع فيه كأنه نهب مستباح، وهو إلى ذلك مطمئن الخاطر هادئ البال. . . وإنه شخصية ممتازة في جوهرها، قبل أن تكون ممتازة في شعرها وصنعتها؛ وكم من قائل إن عبد المطلب قديم في شعره، قديم في عاطفته، جاهلي في جميع نواحيه؛ ولست أدري كيف تكون العاطفة قديمة، وهي شعور إنساني لا يتغير في ذاته وجوهره، وإن تغير في اتجاهاته وميوله، فالشعور الذي يتجه إلى الألم فيستعذبه، وإلى الدمع فيسكبه، هو الشعور الذي تطربه المسرات، ويثمله النعيم، إلا أن انفعالات الشعور الأول من نوع فاتر حزين، وانفعالات الشعور الثاني من نوع متفتح مرح، وكلا الشعورين له قيمته وخطره؛ فالشعور بالألم يكون معظم عناصر الحياة، كما أن الشعور بالنعيم يمس طبيعتها الأولى وحقيقتها الواقعة، وهما شعوران تخلقهما في النفوس طبيعة الحياة التي تحياها. فليس في عبد المطلب قديم، إذ ليس هناك قديم أو جديد في الأدب، فهو فن والفن لا يتغير في قيمته الجوهرية، وإن تغير في عوارضه والمظاهر التي تسدلها عليه نوازع الإبتكار. وبعد، فتلك كلمة لذكرى شاعر البادية عبرة للشعراء، وتذكرة للأدباء الذين هم أحق بهذه الذكرى، وتلك الخاطرة. . . . . .
فايد العمروسي
من تراثنا الأدبي