مجلة الرسالة/العدد 111/صور من التاريخ الإسلامي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 111/صور من التاريخ الإسلامي:

مجلة الرسالة - العدد 111
صور من التاريخ الإسلامي:
ملاحظات: بتاريخ: 19 - 08 - 1935



عبد الله بن الزبير (1 - 73هـ)

بقلم محمد حسني عبد الرحمن

كان القرن الهجري الأول عامراً بالأبطال الذين ترتكز بطولتهم على العقيدة، وتقوم شخصياتهم على العزائم الثابتة، والمبادئ الواضحة القويمة. ولو أن مؤرخاً إسلامياً أراد أن يسجل صفحة ثبتاً بأسماء النابغين من رجالات قريش، في الصدر الأول من الدولة الأموية، لكان خليقاً به أن يضع في طليعتهم بطلاً فذاً، كان لا ينفك شوكة في جنب هذه الدولة، لسموّ نفسه، وطمعه في الخلافة، وعمله لتحقيق غرضه؛ حتى كاد ينتزع اللقمة لنفسه من فم تلك الدولة الفتية؛ كان يطمع في النجم، وكان يؤيد مطامعه عزمٌ قوي، وبأس شديد، ولسان ذربٌ، وشرف واضح، وهمةٌ قعساء، تعضُدها الشهامة والبطولة، ولقد تمت له بكل هذا أدوات الرجولة. ذلك هو عبد الله بن الزبير الأسدي القرشي

أنجبه أبوان كريمان؛ أما أحدهما فالزبير بن العوام بن خويلد من بني أسد بن عبد العُزى، حواريّ رسول الله وابن عمته صفية؛ ولم يكن الزبير مغموراً ولا وسطاً في الناس، وإنما كان رجلاً من الطراز الأول، ومن ذوي المقامات الممتازة الذين تقوم الدول على أكتافهم، ولا يُبَتُّ في أمر هام إلا بعد مشورتهم وبذل نصحِهم؛ ولقد كانت له اليد الطويلة في نجدة الإسلام أيام كان المسلمون قلة، كما كانت له مواقف مشهودة وآراء سديدة، في فتح البلدان، ونشر الإسلام؛ أرسله أميرُ المؤمنين عمر إلى مصر نجدة لابن العاص وهو يحاول فتحها، وقال له: إني أرسلت إليك رجلاً بألف! ولقد برهن الزبير بسداد رأيه، ومجيد أعماله أنه أهل لهذا التقدير العظيم. وفي الحق أن الزبير كان يُعدّ في الصف الأول بين أمجاد قريش، وذوي الثروة فيها، وقد رشّحه مركزه ونباهة شأنه، وقوة شخصيته للخلافة؛ فكان أحد الستة الذين عهد إليهم ابن الخطاب، أن يختاروا خليفة منهم بعد وفاته للمسلمين

هذا هو الزبير أبوه؛ أما أمه فحسب القاريء أن يعرف أنها أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأخت عائشة أم المؤمنين، وكانت مع شرف أرومتها، ذات حزم وفِكرٍ ثاقب، كما كانت صلبة العود، أبية النفس، لها عزمٌ جبّار؛ فلو أنها لم تكن أنثى، لكانت رجلاً ولا كالرجال!!! من هذه الأنساب الواضحة، والدوحة الباسقة، خرج عبد الله وورَّثه آباؤه وأقرباؤه جُل الصفات الممتازة التي تغَذى الطموح وتذكيه؛ وساعدت بيئته التي نشأ فيها على تنمية خلال البطولة والإقدام في نفسه، فامتاز بالفصاحة، وذلاقة اللسان، وقوة الحجة، حتى كان يعد من خير خطباء الإسلام؛ واشتهر كذلك فضله وزهده، وطول صيامه وقيامه، بين الخاصة والكافّة. أما شجاعته فحدِّثْ عن الليث ولا حرج! فهو الذي يقول: (ما أبالي - إذا وجدت ثلثمائة من الرجال، يصبرون صبري - لو أجلب بهم على أهل الأرض!!) ويشهد له أبو عبيد بأكثر من هذا فيقول (إن عبد الله كان لا يُنازع في ثلاث: شجاعة، وبلاغة، وعبادة) وتلك عدةُ الرجولة الكاملة، وخاصة في ذاك العصر

كان عبد الله أول مولود للمهاجرين بالمدينة عام الهجرة، فدرج بها، ونشأ فيها، حتى نال من التعليم المنتشر في عصره ما أكسبه ثقافة دينيةً محضة، فعرف الكتابة والقراءة، على طريقة عصره، وحفظ الكتاب، وروى الأحاديث؛ واقتدى في حياته وعبادته بمن كان يخالطهم ويعاشرهم من جلة الصحابة الكرام؛ فأثر هذا في أخلاقه تأثيراً كبيراً، كان من ثماره تلك النزعة، نزعة العبادة وطول القيام والتهجد التي غلبت عليه فيما بعد. وكان أهم ما يجذب النظر إليه وهو صغير، جراءته النادرة، وميله إلى العناد، مع الثقة بنفسه، والاعتداد بقوته؛ (كان ذات يوم يلعب مع الصبيان، فمرّ رجل فصاح بهم، ففروا ومشى عبد الله القهقري (بظهره) ثم قال: يا صبيان اجعلوني أميركم، وشدوا بنا عليه فنهزمه!). ومرَ به عمر بن الخطاب، وكان عبد الله مع صبيان يلعبون، ففروا وبقي هو؛ فقال له عمر: لماذا لم تفر مع رفاقك؟ فأجابه بجراءة وفصاحة: (لم أُجرم فأخافك، وليست الطريق ضيقة فأوسع لك). هذه أمثلة صغيرة، ولكنا نلمس فيها روحاً متحركة وثابة، في زمن الطفولة والتنشئة، ونستنبط منها أن للعظمة بوادر تلوح في الحوادث الحقيرة، كأنها إرهاصاتٌ لظواهر أخرى كبيرة، تكون حينما تكون عظائم الأمور، ومن هذه المثل وأشباهها نعرف أيضاً مدى اعتداده بنفسه، وثقته بها؛ ولا ريب أن الحبّة الجيدة إذا صادفت أرضاً خصبة فإنها تشق الأرض شقاً، لتحيا على أنضر ما تكون النبتةُ الطيبةُ حياة وبهجة!

ولما بلغ أشده وأطاق حمل السلاح، ثقف صناعة الحرب، ثم صحب الجيوش الغازية، وأبلى في العدوّ بلاء محمودَ الأثر؛ روى الزبير بن بكّار (أنه - عبد الله - قتل بيده في فتح إفريقية أميرَ جيوش الروم) فأرسله عبد الله بن أبي سرح (وكان قائد جيش المسلمين) بشيراً إلى أمير المؤمنين عثمان، فلما سمع بشارته أعجبه كلامه وشجاعة قلبه، ثم سأله: أيمكنه أن يخطب الناس بمثل ما أخبره به؟ فأجابه: وما يمنعني من ذلك؟ ثم قام خطيباً، وتدفّقت من فيه آيات البلاغة، وأطنب في وصف الفتوح، وفصّل هزيمته العدو، حتى أسر القلوب، وأدهش السامعين، بفرط بلاغته وقوة عبارته، وتمكنه من ناصية القول والموقف؛ فقام أبوه وقبله بين عينيه، وانفضّ الجمع، وليس فيهم إلا معجبٌ ببيانه، مثنٍ على شجاعته

ولم أطلع في وصف عبد الله على عبارة وافية موجزة أبلغ من قول أبي عمرو بن عبيد: (كان عبد الله شهماً ذَكَراً ذا أنَفَةٍ، وكان له لَسَنٌ وفصاحة، وكان كثير الصلاة والصوم والعبادة، شديد البأس، كريم الجدات والأمهات والخالات).

بهذا الوصف الكريم الجامع أستأهل ابن الزبير أن يكون في الطبقة العالية بين رجال عصره، وما فتئ عثمان يتفرس في مخايله قوة الشكيمة، وفرط النبوغ؛ ويرمقه بعين ملؤها الحبُّ والرضا، حتى كان يوم الدار، فاستخلفه عليها قبيل مصرعه. . .

ومن ثمَّ دبَّ الطمع إلى قلبه في طلب الخلافة لنفسه، وأبقى ذلك سراً مكتوماً، ولكنه لم يأل جهداً في تحقيق هذا الحلم الجميل، الذي يلائم طبعه ويشبع رغباته الكامنة؛ ولم لا يكون خليفة وقد استخلفه أمير المؤمنين عثمان على داره التي هي دار الخلافة؟ ولِمَ لا يكون خليفة وجدُّه أبو بكر أول الخلفاء؟ بمثل هذا تحّدث إلى نفسه، ولكن أنىَّ له هذا، وفي القوم كثيرٌ ممن يكُفُّونه بمجرد وجودهم عن ذلك المرتقى السامي؟؟ وإذن فليرتقب سنوح الفرصة، وليأخذ أهبته ريثما تواتيه الظروف المسعدة، عسى أن ينال ما يبتغيه!! وقد قضت عليه سياسة الترقب هذه أن يناوئ كل خليفة يلي الأمر من بعد عثمان، فما هو أن بويع عليٌّ بالخلافة حتى قام عبد الله يؤلب عليه أهل الحجاز بزعامة أبيه الزبير وطلحة بن عبيد الله، وتحت راية خالته عائشة، وما كانت أم المؤمنين لتخرج من تلقاء نفسها لملاقاة عليٍّ بالعراق، وإنما زجها عبد الله ودفع بها في هذا المأزق الحرج، بعد أن بين لها فظاعة الجريمة التي ارتكبها الثائرون ضد عثمان، وبعد أن هوّل ما بينها وبين علي من الأحن القديم، فاستجابت طبيعة المرأة لما أُلقي إليها من دواعي الإغراء، وأجمعت أمرها على النزال، فقامت تخطب المسلمين، تحرضهم على الانتقام لعثمان. . . . حتى كان ما كان يوم الجمل. روى المسعودي (أن عائشة قالت يوماً: إذا مرَّ ابن عمر فأرونيه، فلما مرَّ قالوا هذا ابن عمر؛ فقالت: يا أبا عبد الرحمن، ما منعك أن تنهاني عن مسيري إلى العراق؟ قال: رأيت رجلاً قد غلب عليك، ورأيتك لا تخالفينه!! (يعني عبد الله بن الزبير)

يؤخذ من هذا ومن قول الرواة أن عبد الله كان هو المحرك الخفي لجيش عائشة على علي، وأنه كان قطب الرحا يوم الجمل، والدافع له إلى هذا إنما هي نيته المستورة، ورغبته المكبوتة في أمر الخلافة

ثم تجري الأمور على قدر، ويتولى معاوية الأمر بعد مقتل علي، فيتمنى عبد الله أن لو كان معه جند يشد أزره أمام الخليفة الجديد! ولكن أنى له ذلك الآن! وقد انقسم المسلمون فرقتين، ظفرت سياسة إحداهما بزعامة معاوية، وخذلت الأخرى بمصرع ابن أبي طالب، فلم يبق إلا الإذعان للواقع، والحزم إذن في المداورة لمن يبغي أمراً جللاً كهذا، ولا بد حينئذ من المبايعة، مع الترقّب من جديد لفرصةٍ أخرى أمثل من هذه

بايع ابن الزبير معاوية، وفي نفسه غصة، ولقد كانت المطامع الكبيرة التي ينطوي عليها توقفه من معاوية موقف الند للند، بل موقف المشاكس المناقض، حتى ليهم الخليفة أن يبطش به، فلا يحجزه عن ذلك إلا مركز عبد الله من جهة، وخشية الانقلاب والفتنة من جهة أخرى، يروي أن معاوية حجّ سنة، ثم رحل إلى الشام ليلاً، فلم يعلم بسفره من غير خاصته إلا عبد الله، فقفا أثره على فرس ومعاوية نائم في هودجه، فانتبه على وقع الحافر، وقال من صاحب الفرس؟ قال أنا عبد الله! لو شئت يا معاوية قتلتك الآن!! (يمازحه بهذه الكلمة) قال معاوية لست هناك، ثم دار بينهما حوار طويل، وكان مما قال عبد الله: أفعلتها يا معاوية! أما إنا قد أعطيناك عهداً، ونحن وافون لك به مادمت حياً، ولكن ليعلمنَّ من بعدك!!! وفي هذا التهديد ما ينم عن ثورة عنيفة يتأجج بها صدر عبد الله، وإنما كان يكتمها إلى أجل؛ وكثيراً ما كان يضيق به معاوية فيغمز عليه عمرو بن العاص ليُحرجه ويستثير دفائنه، فيقع بينهما في مجلس الخلافة الجدال الشديد، والتفاخر بالآباء والأحساب، ولكن ابن الزبير كان يفحم عمراً بالقول الرادع، والحجة الدامغة. قال له مرة: (يا ابن العاص. إنما طال بي إلى الذُّرى مالا يطول بك مثله: أنفٌ حمي، وقلبٌ ذكي، وصارم مشرفي، في تليد فارع، وطريف مانع). فعبد الله - كما قلنا - يطوي نفسه على طلب الخلافة، ويستسر الأمر، ولم يكن هذا ليخفى على أحد، حتى على الخليفة نفسه؛ وتتضح نيته، وتظهر مطامعه لمعاوية حينما يطلب منه أن يبايع لابنه يزيد. يروي الرواة أنه لما طلب منه ذلك أطرق مفكراً، فقال معاوية مالي أراك مطرقاً إطراق الأفعوان في أصول الشجر؟ قال: (أنا أناديك ولا أناجيك؛ أخوك من صدقك، ففكِّر في الأمر قبل أن تندم) فهو لم يرض البيعة ليزيد، ولم يوافق معاوية على ما أراد لابنه من المُلك؛ وبهذه اللهجة الحازمة جابه خليفة المسلمين، مع قدرته على الفتك به. ولقد حذّر معاوية ابنه يزيد منه، إذ كان لا يخشى عليه أحداً سواه؛ قال لابنه: (إياك منه - ابن الزبير - إنه الثعلب الماكر، والليث يصول بالجراءة عند إطلاقه، فوجَّه إليه كلَّ جدك وعزمك، وأما ما بعد ذلك فقد وطّأت لك الأمم، وذللت لك أعناق المنابر. . .). فمعاوية السياسي الخطير، والداهية العظيم، لم يكن يخشى على خلافة ولده إلا عبد الله؛ وإنما كان يتوقع الشر والوثوب من جانبه، لما يعهده فيه من قوة الشكيمة، وصدق العزيمة، وأنه لا يستكين ولا يستخذي، وأن صدرَه مطويٌّ على أمور جسام

ويلحق معاوية بربه، فيتجلى نزوع ابن الزبير للخلافة بصورة واضحة قوية، حيث يتولى يزيد الأمر، ويميل إلى السرف في المتع والشهوات، وينغمس في ملاذه، حتى لينسيه ذلك أن يعني بأمور المسلمين على الوجه الذي يرضي جمهرتهم في سائر الأمصار، ويضمن التفافهم حوله. حينئذ يغلي صدر عبد الله بمكنوناته، فيتحفز، وتزداد حرارة نفسه، ثم ينطلق إلى منبر المدينة، فيلقى من أعلى ذروته على أهل الحجاز كلمة الثورة على الخليفة الأموي؛ يخطب القوم خطبة حماسية حارة، يسب فيها يزيد، ويذكر مقابحه وعيوبه، ثم يبلغ كلامه مسامع يزيد، فيؤدي هذا إلى وقعة الحرَّة، التي انتهك فيها جيش الخليفة حرمات المدينة، مدينة الرسول ، وهذه نقطة سوداء أثيمة، كان من شأنها تحويل قلوب كثيرة من مختلف الأقطار الإسلامية عن الخلافة الأموية، وساعدت ابن الزبير كثيراً على مطلبه؛ وقد قلنا إنه كان يتطلع إلى منصب الخلافة وزعامة المسلمين منذ زمن بعيد، وكانت نزعته هذه تعتمد على عدة أمور: منها أن عثمان استخلفه على الدار يوم حصارها، فتدخَّله من هذا الاستخفاف طموح إلى الأمر، ولذا كان يقول لئن أُصبتُ بأبي فلقد أصبت بإمامي عثمان؛ وقوّاه على هذا أن طلحة والزبير قدّماه للصلاة بالناس أيام وقعة الجمل، وكأني به يقول لنفسه: لم لا أكون خليفة المسلمين، والأمر لا يجري على ميراث ولا يتبع قانوناً؟ ولم لا يؤسس أسرة زبيرية، كما أراد معاوية أن يقيم دولة سفيانية؟ وقد نمى عنده هذه الخواطر ما أنسه من قوة الشخصية، وشدة الاعتداد، مع شرفه وجراءة قلبه. سأله ابن عباس مرة: بماذا تروم هذا الأمر؟ قال بشرفي!، وقد وجد في أهل الحجاز ضراماً لناره، فهم يؤيدونه على الأموية، ولذا اتخذ الحجاز مقراً لدعوته

(البقية في العدد القادم)

محمد حسني عبد الرحمن