مجلة الرسالة/العدد 105/مات الشيخ بدر الدين!
مجلة الرسالة/العدد 105/مات الشيخ بدر الدين!
للأستاذ على الطنطاوي
اليوم انقطعت رواية الحديث:
قال رسول الله ﷺ:
إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي
كان أقل مزايا الشيخ بدر الدين الحسني أنه يحفظ صحيحي البخاري ومسلم بأسانيدهما، وموطأ مالك، ومسند أحمد، وسنن الترمذي وأبي داود والنسائي وأبن ماجة، ويروي لك منها ما تشاء كأنه ينظر في كتاب؛ وأنه يحفظ أسماء رجال الحديث وما قيل فيهم، وسني وفاتهم، ويجيبك عما شئته منها، وأنه يحفظ عشرين ألف بيت من متون العلوم المختلفة كالألفية والزبد والشاطبية والطيبة الخ. . . وأنه ألف نحواً من خمسين مؤلفاً قبل أن يتجاوز عمره الثلاثين؛ وأن له إطلاعاً في كافة العلوم حتى الرضيات العالية فقد أقرأها لطلاب شعبة الرياضيات في المدرسة التجهيزية فأدهشهم وأدهش بإطلاعه معلميهم؛ وأنه ما انقطع عن الدرس والتدريس يوماً واحداً منذ سبعين سنة على زهادة عجيبة، وورع نادر، وترفع عن الدنيا ولذاذاتها مع الغنى الواسع والمال الكثير، وهو على الجملة آخر علماء السلف الصالح رضي الله عنهم
مر على دمشق في هذه السنين العشرين، من جليل الحوادث وفادح الخطوب، ما لو مر على الشامخات الرواسي لجعلها دكاً، أو وقع على الجلاميد الصم لصيرها هباء. فأعدت له الإيمان الذي لا يزلزله رزء، والثبات الذي لا تزيله مصيبة، وصبرت عليه (صبر العظيم على العظيم). . . . حتى تعودت مس الضر، وألفت قوارع الدهر
(وصارت أن أصابتها) سهام ... تكسرت النِّصال على النصال
وغدا أبناؤها لطول ما رأوا من البلاء، وما راضوا نفوسهم عليه من الصبر، لا يألمون لمصيبة، ولا يجزعون لنائبة، ويهتفون بالزمان كلما تعب من مساءتهم، فأقلع عن إيذائهم:
إن كان عندك يا زمان مصيبة ... مما تسوء به الكرام فهاته نكبت دمشق الحرب، فقلت الأقوات، حتى أكل الناس العشب. . . وباد الرجال: من لم يمت منهم برصاص الإنكليز والفرنسيين، ومن لم يمت من الجوع، مات على مشانق جمال باشا، حتى لم يبقى في دمشق إلا شيوخ ركع، ونساء جوع، وأطفال رضع. . .
فشيعت دمشق من مات، وحدبت على من بقى، ما خارت ولا جزعت. . . (وصبرت دمشق)!
ثم كانت (ميسلون) فذبح (العمروط الأفاق) رب البيت، واستباح الحمى، وأراد أن يعدو على سليلة الشرف، وبنت الأكرمين، فصدته أروع صد، فأتى على الديار فجعلها حصيداً، كأن لم تغن بالأمس؛ وعادت دمشق من ميسلون، فإذا كل شيء قد انهار، وإذا الدار قواء، كأنما لم يشد فيها ملك، ولم تقم فيها دولة، ولم يكن لها استقلال. . .
فدفنت دمشق بيدها أبناءها، وأقسمت على قبورهم (القسم الأحمر) وما بكت ولا شكت. . . (وصبرت دمشق)!
ثم كانت الثورة فهبت دمشق تعلن في أبنائها بأن قد جاء (الامتحان الأول) فاروني ماذا حفظتم من الدرس. . .
وكان الامتحان في دق الباب
فدقه الأبطال من أبناء دمشق دقاً ضوضى على جوانب السين، فثار الناس فزعون يقولون: ماذا؟
قيل: بردى يشتعل!. . . قالوا: أطفئوه بالنار!
فكانت المعركة بين الماء والنار. . . بين الدم والحديد. . . فرد الفتية العزل الجيش اللجب، فوقف سنتين دون نهر تورا لا يجتازه، وما عرضه بأكثر من (ستة أمتار)
ثم انتهى الامتحان، فدفنت دمشق أبناءها، وقامت دمشق المفجوعة على أنقاض دمشق المحرقة المهدمة فجددت القسم، وكانت ميسلون فصارتا ميسلون والغوطة. . . . . . (وصبرت دمشق)!
ثم كان يوم (20) كانون، فأعلنت دمشق أن قد جاء الامتحان الثاني، وكان الامتحان في فتح الصندوق
فقالت القوة: لا! وقال الحق: نعم! فكانت المعركة بين القوة والحق، فانتصرت نعم، وكسر الصندوق، ودفنت دمشق أبناءها، وجددت القسم، وصرن ثلاثة: ميسلون والغوطة والمرجة! (وصبرت دمشق)!
صبرت دمشق، ولم تجزع ولم تضطرب، ولم تقلقها هذه الحادثات ولم تبكها؛ ولكن كلمة واحدة سرت أمس في دمشق، فتقلقلت لها دمشق واضطربت، وخفت منها الأحلام، وضل عنها الصبر، فلم تعد تطيق صبراً، فانفجرت تبكي في نكبة اليوم النكبات كلها!
تلك هي الكلمة الرهيبة: مات الشيخ بدر الدين. . . .
كان الشيخ سر قوة دمشق، تلجأ إليه كلما دهمتها الخطوب، فتفئ منه إلى جنة وارفة الظلال، وتفزع إليه كلما حاق بها اليأس، فتجد عنده الأمل الباسم الذي يشق طريقاً للحياة وسط شعاب الموت، والثقة بالله التي تسمو بصاحبها حتى يجتاز العقبات كلها طائراً بجناحين من الشجاعة والثبات
وكانت كلمات الشيخ كأنما هي السحر، ينصب في أعصاب الشاميين إذ يسمعونها، فيقدمون لا يهابون شيئاً، كذلك الذي شرب ماء الحياة فلا يبالي - وهو لن يموت! - أي أودية الموت سلك!
وكان الشيخ رمز العصور الذهبية الأولى، وصفحة حية من تاريخ المجد الإسلامي، وآية من آيات الله قامت في هذه الأيام المظلمة لتنيرها بنور الصدر الأول، كما ينير البدر الليل الداجي بنور الشمس المشرقة، ولكن ذاك بدر الدنيا، وهذا (بدر الدين)!
وكانت غرفة الشيخ في دار الحديث حمى قد حماه الله بهيبة العلم، وحجبه بجلال الإخلاص، فهي من دمشق الأموية أو العباسية، أو دمشق صلاح الدين، لا من دمشق (القرن العشرين)، وقفت عند عتبتها سطوة جمال باشا، وقوة الانتداب فلم يجتزها منهما شيء؛ وكان يجيبئها أبداً العتاة الجبارون الذين يخشاهم البلد، ويجري حكمهم لا يرده أحد، فكانوا جميعاً من بشاوات وموسيوات. . . يخلعون نعالهم بأيديهم، ثم يدخلون مطأطئي رءوسهم حتى يجلسوا على ركبهم بين يدي الشيخ، خاشعة أبصارهم، ترهقهم ذلة، ثم لا يتكلمون إلا أن يسألهم، أو يأذن لهم بالكلام، وربما أعرض عنهم، وربما وعظهم أو علمهم، ولا يقول لهم إلا كلمة الحق، ولا يكلمهم إلا بلسان عالم من دمشق صلاح الدين!
فكان الشاميون حين يرون هذا لا يبالون، وفي دار الحديث هذا الجيش، بما كان في دمشق من جيوش ودبابات وطيارات. . أفليس عجيباً أن هذا الشيخ ألهم أبن التسعين، قد:
سدّ الطريق على الزما ... ن وقام في وجه الخطوب!
والشيخ لا جرم نسيج وحده في هذا العصر، وهو بقية من المحدثين الأولين الذين ألفوا بسيرهم تاريخ المسلمين العلمي، أجل تاريخ علمي كتب أو يكتب إلى يوم القيامة. فقد لبث سبعين سنة، يشتغل بالدرس والتدريس والتقوى والعبادة، على خطة معروفة، وسنة مألوفة، ما تبدلت يوماً ولا تغيرت، إلا لمرض مقعد، أو أمر قاهر، أو سفر لازم؛ وقد بلغ من ثبات الشيخ وحسن ظنه بالله عز وجل أنه كان مرة في قطار الحجاز فوقف القطار في عرض البادية لشيء طرأ عليه، (وقد رأينا هذه البادية فإذا هي رمال ملتهبة، وشمس محرقة، ولا شيء سواهما) فنزل بعض القوم يصلون، ونزل الشيخ، فلما أحرموا بالصلاة وكادوا يركعون، صفر القطار، فانفضوا إليه فتعلقوا به وتركوا الشيخ قائماً. وسار القطار؛ (قال الراوي) فنظرت إليه فلا والله ما ألتفت ولا تحرك، فكدت والله أُجَنَّ، وأقبلت على من بيدهم أمر القطار فرجوتهم أن يقفوه فأبوا، فسقطت على قدمي كبيرهم حتى لان فأمر بالقطار فتقهقر حتى وقف على الشيخ فإذا هو جالس لم يسلم، فلما سلم قام فركب، وما يبالي بانقطاعه في البادية، ولا بالموت الذي يحوم حوله، ما دام قائماً بين يدي رب الأرض والسموات، ومن بيده الموت والحياة.
لبث سبعين سنة يفيق إذا عسعس الليل، فيصلي ما شاء الله أن يصلي، فيشعر بلذة العبادة، ويحس حلاوة الإيمان، ويسمو بنفسه عن الدنيا ولذاذتها حتى يحقرها وتهون عليه، فيصبح وهو يطير بنفسه في سموات الجنان والناس يمشون في حضيض الأرض
ثم يمضي إلى الجامع الأموي فيصلي الصبح مع الجماعة، في مكانه الذي لم ينقطع عنه ثلاثة أرباع القرن، وربما ثبت عليه أكثر من ذلك، فقد جاوز رحمه الله التسعين، فإذا قضيت الصلاة عاد إلى غرفته، فلبث يقرأ ويقرئ إلى ما بعد العتمة، إلا أن يكون يوم الجمعة فيجلس للدرس العام يحدث الناس تحت قبة النسر من الظهر إلى العصر، لا يسكت ولا يتنحنح ولا يقف؛ يبدأ بحديث فيرويه مسنداً، ويستقري طرقه كلها، ويتحدث عن رواته، ثم يذكر شواهده من الكتاب والسنة، فلا يروي حديثاً إلا رفعه، ولا كلمة إلا عزاها، ثم يذكر ما أخذه منه الفقهاء من الأحكام ويوازن بينها، ويبسط الكلام فيما يتصل بذلك من الفلسفة والتصوف والعلوم، وكان الشيخ في الفلسفة الإسلامية منقطع النظير
وطالما حضر هذا الدرس جلة علماء دمشق ومن يزورها من علماء الأقطار، فخرجوا معجبين مُكْبرين؛ وطالما حضره الأطباء والمحامون وأهل الفلسفة والطبيعة، فخرج كل وقد امتلأ وطابه من وسائل الفن الذي يشتغل به، أو العلم الذي انقطع إليه
وكان يمضي الدرسان والثلاثة ولم يتعد الشيخ شرح حديث واحد
ولم يكن يرد سائلاً، أو طالب علم؛ وكان يوليه ما شاء من وقته ووجهه؛ وكان إذا استفتى قال للسائل، أنظر كتاب كذا، وكتاب كذا؛ وربما دله على الصفحة التي يجد فيها المسألة، لا يحب أن يفتيه هو
وكان يصوم الدهر، فإذا كان المساء أكل ما قدم إليه، ولم يعرف عنه في سفر ولا حضر أنه اشتهى طعاماً أو كرهه إلا مرة كان في سفر، فقيل له: ما نطبخ؟ فقال: ما شئتم!
قالوا: عندنا بامياء وفول وعدس. . . .
قال: هل قلتم إن عنكم فولاً؟
ففهموا أنه يشتهيه، ولم يرو عنه في هذا الباب أكثر من هذا. ولم يكن يشتم رجلاً أو يغتابه، ولم يكن يدع أحداً يغتاب في مجلسه وكان غاية تأنيبه إذا غضب أن يقول:
- (يابا - وكانت تلك كلمته - لماذا أنتم هكذا؟)
تواضع لله، فأناله الله رفعة ما أنالها سلطاناً ولا ملكا، وانصرف عن الدنيا فأقبلت عليه الدنيا، ودر عليه المال فما مسه ولا مد إليه يداً، واعتزل الناس ورغب عن الجاه، فأقبل عليه الناس، ورغب فيه الجاه، فما غيره ولا أقام للجاه وزناً، وابتعد عن الحكام، فتزلف إليه الحكام، ووضعوا بين أيديه دنياهم فما حاد عن دينه ولا رزأهم دنيا، ولا كتمهم نصحاً. . .
عاش فكانت حياته أعظم حياة، ومات فكان موته أفخم موت. وكيف لا يكون فخما، وقد كان الشيخ دولة وحده، وقد كان تاريخاً، وقد كان مجموعة كاملة من الفضائل كلها، تأكل وتشرب وتمشي؟
رحمك الله يا أيها الإمام العالم العظيم، ورزق دمشق الصبر على فقدك، وعوض منك المسلمين خيراً. . . .
فقد كنت تدراً للديانة مشرقاً ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
علي الطنطاوي