مجلة الرسالة/العدد 105/دستور قناة السويس وهل نسخه ميثاق عصبة الأمم؟
مجلة الرسالة/العدد 105/دستور قناة السويس وهل نسخه ميثاق عصبة الأمم؟
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ يناير الماضي تجوز السفن الإيطالية قناة السويس في كل يوم تقريباً، مشحونة بالجند والسلاح والذخيرة في طريقها إلى الإرترية والسومال؛ ولا تخفي إيطاليا الفاشستية بعد أن حشدت قواتها الزاخرة في شرق أفريقيا إنها مصممة على تنفيذ مشروعها الاستعماري الضخم في المنطقة الحبشية، وأنها لا تقبل ثمناً للعدول عن غزو الحبشة اقل من بسط حمايتها الفعلية عليها؛ إما الحبشة فأنها من جانبها تشهد جلدة متحفزة تلك الأهبة الضخمة التي تنظمها دولة قوية من دول الغرب المتمدين للبطش بها وسحقها من عداد الأمم الحرة، وزجها إلى حظيرة الأمم المستعبدة بعد أن لبثت آماد التاريخ دولة كاملة السيادة والاستقلال
وهذا المنظر الذي نشهده اليوم هو أحد هذه المناظر العديدة التي شهدها كثير من الأمم الشرقية والأفريقية الضعيفة منذ أواخر القرن الماضي، والتي تعرف في لغة الاستعمار الأوربي (بافتتاح أفريقية)؛ منظر الدول الغربية الكبرى تتسابق إلى بسط حمايتها على تلك الأمم، ثم تتقدم استعمارها واستبعادها خطوة فخطوة باسم المدنية والمصالح الاقتصادية والتهذيب الأوربي
ليس من موضوعنا أن نعرض إلى شيء من نواحي ذلك الصراع الذي سينشب في القريب العاجل في شرق أفريقيةوالذي تخوض فيه الحبشة معركة الحياة والموت؛ ولكنا نريد أن نعرض إلى مسالة يثيرها هذا الصراع في الوقت الحاضر، هي مسألة قناة السويس ونظامها الدولي في مثل هذا الظرف، وسنقتصر في بحثنا على الشرح الفقهي والتاريخي المحض
أبدى السير نورمان آنجل الكاتب الإنكليزي الكبير، واحد أقطاب الدعوة إلى السلام، رأيه أخيراً بأنه إذا نشبت الحرب بين إيطاليا والحبشة، فانه لا يجوز أن تبقى قناة السويس مفتوحة في وجه الفريقين المتنازعين، بل يجب أن تغلق دونهما، وإلا تمكن السفن الإيطالية من المرور فيها، كما أنه يجب إلا تمكن الحبشة من استيراد الذخائر عن طريقها؛ ويستند السير آنجل في رأيه إلى أن المعاهدات الدولية التي تكفل حرية الملاحة في القناة أثناء الحرب والسلم معاً ولبيان ذلك نقول إن النظام الذي تخضع له قناة السويس اليوم هو نظام الحيدة الدولية المطلقة، وهو النظام الذي كفلته معاهدة 29 أكتوبر سنة 1888 التي وقعت في استانبول بين الباب العالي، وبريطانيا العظمى، والمانيا، والنمسا والمجر، وفرنسا وإيطاليا، وأسبانيا، وهولنده، وروسيا؛ ونص في ديباجتها على أن الغرض من عقدها هو (الاتفاق الحر على نظام نهائي يكفل في كل الأوقات ولكل الدول حرية الملاحة في قناة السويس). وتحتوي المعاهدة على سبع عشرة مادة تنظم شروط الملاحة في القناة في أوقات السلم وفي أوقات الحرب
وهذه الحيدة المطلقة للقناة وقت الحرب تنص عليها المادة الرابعة من المعاهدة فيما يأتي: (تبقى القناة مفتوحة وقت الحرب. وقد اتفق المتعاقدون أعلاه على أنه لا تفرض أية ضريبة حربية أو يعمل أي عمل من شانه أن يخل بحرية الملاحة في القناة ذاتها أو في موانئ الوصول إليها، أو في قطاع من هذه الموانئ طوله ثلاثة أميال بحرية، وهذا حتى لو كانت الدولة العثمانية هي إحدى الدول المتحاربة). وتنص المادة السادسة من المعاهدة على (أن قناة السويس تبقى مفتوحة في وقت الحرب شأنها وقت السلم، لكل سفينة تجارية أو حربية، لجميع الدول بلا تفريق. . . وتتعهد الدول الموقعة بأنها لا تقوم بأي عمل لعرقلة حرية الانتفاع بالقناة وقت الحرب، مثلما يجب ذلك وقت السلم؛ ويجب ألا تعرض القناة مطلقاً لمزاولة حق الحصار)
على أنه يحظر على سفن الدول المتحاربة المارة بالقناة وقت الحرب، بمقتضى نص المادة الرابعة أيضاً، أن تتزود من المؤن في القنال أو موانيه إلا بالقدر الضروري؛ ويجب عليها أن تخترق القناة بسرعة، وإلا تمكث في موانئ القناة اكثر من أربع وعشرين ساعة؛ ولا يسمح لها بان تنزل جنوداً أو ذخائر إلى البر. ويمكن أن يسمح لسفينتين حربيتين، كلتاهما بالبقاء في ميناء الوصول، ولكن لا يسمح لأي سفينة حربية بالبقاء في مياه القناة)
هذه هي خلاصة النصوص التي يقوم عليها نظام المرور في قناة السويس وقت السلم ووقت الحرب؛ وما تزال معاهدة سنة 1888 هي المرجع والحكم في هذا الشأن، وإن كانت بعض نصوصها الأخرى قد ألغيت بفعل الظروف والتطورات الدولية. مثال ذلك أنه قد نص في المعاهدة على أن تقوم الحكومة العثمانية باتخاذ ما يجب لتنفيذ المعاهدة؛ ولكن الدولة العثمانية قد ذهبت واختفت من عالم الوجود، وفقدت تركيا كل حقوقها القديمة على مصر بمقتضى نصوص معاهدة الصلح (معاهدة سيفر) أولاً، ثم بمقتضى نصوص معاهدة لوزان (سنة 1923)؛ وهي حقوق يقضي المنطق والقانون بأن تؤول إلى مصر؛ ولكن مصر لم يعترف لها بهذا الحق؛ وينص تصريح فبراير سنة 1922 الذي تعترف فيه بريطانيا العظمى باستقلال مصر، على أن بريطانيا العظمى تحتفظ ضمن المسائل المعلقة بمقتضى التصريح بمسالة المواصلات الإمبراطورية، أو بعبارة أخرى بمسألة قناة السويس؛ ومن جهة أخرى فقد اختفت بعض الدول الأخرى التي اشتركت في عقد المعاهدة مثل إمبراطورية النمسا والمجر وروسيا القيصرية؛ وفقدت ألمانيا بمقتضى معاهدة الصلح كل حقوقها في مصر وفي جميع المعاهدات التي عقدتها مع مصر؛ وفيما عدا ذلك فنصوص معاهدة سنة 1888 ما تزال قائمة، وما تزال إلى اليوم دستور قناة السويس
والآن لنرى إلى أي مدى يمكن أن يتأثر هذا الدستور الذي يقضي بحرية الملاحة في القناة وقت الحرب، بنصوص ميثاق عصبة الأمم. وما يشير إليه السير أنجل من أن هذا الميثاق ينسخ دستور القناة نجده في المادة 20 من ميثاق العصبة؛ وهذا نصها؛ (يعترف أعضاء العصبة بان الميثاق الحالي يلغي كل التعهدات أو الاتفاقات الخاصة التي تتعارض مع نصوصه، وتتعهد بأنها لا تعقد في المستقبل أية معاهدة تتعارض مع هذه النصوص)، ولما كان دستور العصبة يقوم على فكرة السلام العام بين الامم، وعلى مبدأ التفاهم والتحكيم في تسوية المنازعات التي تقع بينهما، فان مثل هذا الدستور الذي وضع لقناة السويس منذ نحو نصف قرن، والذي يقضي بأن تسهل حرية المرور في القناة لسفن الدول المتحاربة، لا يتفق مع الغاية التي تعمل لها عصبة الأمم، وهي توثيق أواصر السلام بين الأمم، بل يغدو بالعكس عاملاً في تشجيع الحرب؛ ومثل هذه النصوص التي تتعارض مع روح ميثاق العصبة يجب أن تعتبر منسوخة لاغية
ولكنا نجد من جهة أخرى في ميثاق العصبة نصاً آخر ربما كان يناقض هذا الراي، فالمادة 21 من الميثاق تنص على (أن التعهدات الدولية مثل معاهدات التحكيم والاتفاقات الإقليمية مثل نظرية مونرو، وهي التي يقصد بها توطيد السلم، لا تعتبر متعارضة مع أي نص من نصوص هذا الميثاق). فإذا اعتبرنا معاهدة سنة 1888 داخلة في باب التعهدات الدولية أو في باب الاتفاقات الإقليمية وهو الأرجح، فان ميثاق العصبة لا يمكن أن يؤثر على نصوص معاهدة سنة 1888. ونظرية مونرو كما نعلم هي قاعدة السياسة الأمريكية، وبمقتضاها تعتبر الولايات المتحدة الأمريكتين منطقة نفوذ معنوي خاص، لا يصح أن تمتد إليها يد أية دولة أوربية بالتدخل في شؤونها أو محاولة بسط نفوذها الاستعماري على أي جزء من أجزائها، وألا اعتبرت هذه المحاولة عملاً عدائياً موجهاً إلى الولايات المتحدة ذاتها. وكما أن النص هنا صراحة على استثناء نظرية مونرو الأمريكية قد وضع نزولاً على رغبة السياسة الأمريكية، صاحبة الفكرة الأصلية في إنشاء عصبة الأمم، فكذلك قد يكون النص على استثناء الاتفاقات الإقليمية هنا تحقيقاً لرغبة السياسة البريطانية؛ وهي قد أصرت على اعتبار قناة السويس منطقة إقليمية تعلق عليها أهمية خاصة أولاً في تصريح فبراير سنة 1922 حيث احتفظت بمسالة المواصلات الإمبراطورية، وثانياً في التبليغ الذي اقترن بهذا التصريح إلى الدول، وفيه تعتبر أن التدخل في أمر العلائق المصرية الإنكليزية يعتبر عملاً غير ودي بالنسبة لإنكلترا
على أن المعاهدات والنصوص وحدها لا تكفي، وهنالك الجانب العملي؛ واحترام هذه النصوص يتوقف دائماً على الظروف والاتجاهات السياسية. فمثلاً حينما قامت الحرب الروسية اليابانية سنة 1904، وكانت إنكلترا تميل فيها إلى جانب اليابان، لم تسمح إنكلترا بفتح قناة السويس في وجه الأسطول الروسي المسافر إلى الشرق الاقصى، واضطر هذا الأسطول أن يطوف حول إفريقية، وان يسير إلى الصين من طريق رأس الرجاء الصالح، وكان هذا السفر الطويل من عوامل إنهاكه وهزيمته بعد ذلك في موقعه تسوشيما (سنة 1905) وخسران روسيا للحرب، هذا مع أن روسيا إحدى الدول الموقعة على معاهدة سنة 1888 كما قدمنا. وفي الحرب الكبرى لم تحترم حيدة القناة ولم تحل المعاهدة الدولية دون تحصينها وإغلاقها في وجه الدول المعادية لإنكلترا ودول الحلفاء؛ وقد استأثرت إنكلترا وحلفاءها أثناء الحرب باستعمال القناة؛ ومن جهة أخرى فان ألمانيا وتركيا لم تحترما من جانبهما حيدة القناة؛ ونظمتا سنة 1915 أكثر من هجوم محلي على مصر من جهة القناة، وضربت شواطئها بالقنابل المخربة؛ واستمرت طوال الحرب منطقة حربية محضة تستأثر إنكلترا بالإشراف عليها وكذلك لا نستطيع في الظروف الحاضرة التي يحلق فيها شبح الحرب في شرق أفريقية أن تقف عند المعاهدات والنصوص في تقدير الدور الذي يمكن أن تؤديه قناة السويس في إذكاء هذه الحرب أو وقفها؛ فإيطاليا تستعمل القناة بملء الحرية لإرسال الجند والذخائر إلى شرق أفريقية؛ فإذا نشبت الحرب بينها وبين الحبشة فماذا يكون شأن القناة؟ هل تظل مفتوحة أثناء الحرب لمرور الإمداد الإيطالية، أو تغلق في وجهها؟ إن معاهدة سنة 1888 صريحة كما بينا في وجوب فتح القناة وضمان حرية الملاحة فيها أثناء الحرب بالنسبة للفريقين المتحاربين؛ ولكن النصوص وحدها لا تكفي هنا. وكل شيء يتوقف على ظروف العلائق بين إنكلترا وإيطاليا؛ فإذا كانت هذه العقائد مما يسمح بتأييد السياسة البريطانية لمشروع إيطاليا في غزو الحبشة، فان القناة ستبقى مفتوحة حرة؛ وإذا كان لدى السياسة البريطانية ما يحملها على الوقوف في وجه مشاريع ايطاليا، فقد تغلق القناة بالاستناد إلى ميثاق عصبة الأمم أو غيره من الأسانيد والنصوص.
وعلى أي حال فان المسالة في منتهى التعقيد والدقة، وأمرها مرهون بالظروف والمفآجات التي قد نثيرها الحوادث دون توقع أو تقدير
محمد عبد الله عنان