مجلة الرسالة/العدد 1011/ذكرى الشاعر
مجلة الرسالة/العدد 1011/ذكرى الشاعر
صالح علي شرنوبي
للأستاذ محمد صبري علي سليم
كان لزاما علي أن اكتب هذه الكلمات بعد أن صرنا على بعد عام من مصرع شاعرنا الشاب صالح علي شرنوبي. . ففي مثل هذه الأيام عام مضى، صعدت روح صالح إلى بارئها أثر حادث أليم
. . . كان صالح رحمه الله شاعر مرهف الحس، مشبوب العاطفة، قوي الإحساس، ولقد عرفته طالبا بالقسم الثانوي بمعهد طنطا - وإن لم أره - وكنت حينئذ طالبا بالقسم الابتدائي في نفس المعهد. عرفته من قصائده الحماسية التي كان يطالعنا بها في مجلة (الفكر الجديد) وكان يصدرها في ذلك الوقت الأستاذ حلمي المنياوى. وذات يوم بحثت عن المجلة فلم أجدها، ولما تساءلت عن احتجابها علمت أن الرقابة صادرتها لأنها نشرت قصيده ثائرة لصالح. وبعد ذلك بأيام توقفت المجلة عن الصدور، لأن ولاة الأمور وقتذاك زعموا أنها تحض على المبادئ الهدامة. . وظللت بعد ذلك أقرا لصالح في مختلف الجرائد والمجلات، وكان إعجابي به يزداد كلما قرأت له. . ذلك لأنه لم يكن شاعرا كبقية الشعراء، بل كان له مذهب خاص في الشعر. استمع إليه في قصيدة (أختي) حينما يصور لك حياة أخته البلهاء التي جنت عليها الأقدار فحرمتها نعمة الإدراك:
وتقول أمي حين تلقاك ... يا ليت قلبي ما تمناك
أو ليت مهدك كان مثواك
لك في بنات الحي أتراب ... عرسانهن لهن أحباب
فأقول والمقدور غلاب
قد خانك أنت الحظ يا أختي
فهل رأيت شاعرا بلغ في دقة التصوير والتعبير ما بلغه صالح؟ لقد كان ذات ليلة في نقابة السينمائيين، ونظر حواليه فرأى امرأة في خريف العمر تجلس وحدها مطرقة مفكرة. ولما سأل عنها قيل أنها كانت في ربيع عمرها تلعب بقلوب الرجال، أما اليوم فليس فيها ما يسر العيون. وراقبها صالح مدة، ثم كتب قصيدة (أطلال راقصة) التي يقول في مطلعها: أطرقي أطرقي فقد ضمك اللي ... ل وألقي عليك ثوب ظلامه
إلى أن يقول:
لم يعد فيك ما يسر العيونا ... فاعذري العابثات والعابثينا
وإذا أيقظت شجونك حورا ... ء وأوحت بقبحك الشامتينا
فاسخري من جمالها وصباها ... واحقريها بكثرة العاشقينا
أو عظيها فرب شيطانة منكن قالت فأبكت الواعظينا
وفي قصيدته (أشواق الربيع) تراه يخاطب تلك المجهولة ويسألها أن تعود إليه، فهو غريب القلب والدار فيهتف:
تعالي يا ابنة الأحلام يا مجهولة الذات
تعالي يا ضياء لم ينور أفق ليلاتي
تعالي نجمع الماضي الذي راح إلى الآتي
تعالييا غراما تاه في دنيا الصبابات
تعالي طهري بالحب آثامي وأوزاري
تعالي فأنا وحدي غريب القلب والدار
طريدا مثل أحلامي شريدا مثل أفكاري
ويلح عليها أن تسرع بالعودة إليه، فقد يخنقها الترب ولم يتمتعا بالحياة، فيكرر هتافه:
تعالي نخلق الحب فقد يخلقنا الحب
فقد يخنقنا الترب ولم نعشق ولم نصب
وتراه ينظر إلى الناس يأكل بعضهم بعضا، ويلغ بعضهم في دم بعض، فيشمئز ويتألم ويثور، وتتمثل ثورته في قوله من قصيدة (السراب الخالد):
وحوالي من بنى الطين أشباه قطيع مشرد في يفاع
دمهم ماؤهم وراعيهم الذئب وأعراضهم سفوح المراعى
ويحزنه من بنى الطين أنهم لا يحسون الجمال ولا يتذوقون الحسن فيقول:
كلما رن مزهر أو شدا شاد أعاروه ميت الأسماع
ألهذا القطيع أنفق أيامي وتفنيني الليالي الحزينة ألتلك الأيام أسحق عمري وأغنى ألحاني المفتونة
وهو يذكر بالخير جميع الناس، حتى أولئك الذين التفوا حوله يوم أن ابتسمت له الحياة فاخلص لهم، ثم تنكروا له وانفضوا من حوله عندما تنكرت، له فهو متسامح أبدا لا يعرف قلبه البغضاء، يتجلى ذلك في قوله:
أيها الراحلون عني رويدا ... فمن الهجر ما يكون حراما
كنت يوما وكنتمو ثم شئتم ... ما أراني قبل الختام الختاما
لم يعد لي من حبكم غير أحلام صداها يشتت الأحلاما
ذكريات أبكي لها وأغني ... وهي لي بعدكم هوى وندامى
سوف أحيا لكم فإن مت يوما ... فاحفظوني فقد حفظت الزماما
فبوركت يا صالح إنك فنان ملهم. .
لقد عشت مخلصا لفنك كل الإخلاص، وفيا له كل الوفاء. . ففي سبيل الله تلك النفس الطاهرة الكريمة التي ما حملت في حياتها حقدا لإنسان. . ويا دولة القريض العزاء
أخي. . عزيز علي أن أكتب في يوم ذكراك، وقد كنت أود أن أكتب في يوم زفافك ولكن. . ولكن هكذا شاءت الأقدار. . على أن مما يعزيني أن شعرك سيظل خالدا على ممر الأيام، ينير الطريق للمدلجين الحائرين
أخي. . طبت في مثواك، وسقى الله ثراك، وسلام عليك في الخالدين
محمد صبري علي سليم